سيكتب التاريخ في فصوله الأخيرة من عام 2020 أن تطبيع العلاقات بين المغرب و”إسرائيل” تم بتوقيع حزب العدالة والتنمية الإسلامي، الذي كان في الأمس القريب يرفض – بل يجرم – أي شكل من أشكال التطبيع مع دولة الاحتلال، لكن الثبات على المبادئ معركة صعبة للغاية تتطلب النفس الطويل، وهو ما فقده سعد الدين العثماني وإخوانه قبل سقوطهم الأخير عن القيم التي دافعوا عنها منذ دخولهم المعترك السياسي.
بداية السقوط
كان أول وصول لحزب العدالة والتنمية إلى البرلمان المغربي بعد مشاركته في الانتخابات التشريعية عام 1997، وظل يضاعف عدد مقاعده في المعارضة إلى أن تصدر المركز الأول في اقتراع 2011 الذي عقب اندلاع الربيع العربي، ليتم تسمية عبد الإله بنكيران رئيسًا للحكومة، ليخلفه سعد الدين العثماني بعدما فشل سلفه في تشكيل الحكومة عقب انتخابات 2016، إذ أعفى العاهل المغربي الأول وسمى الثاني رئيسًا للحكومة، لكن مسلسل السقوط عن المبادئ كان قد بدأ قبيل تربع الإسلاميين على المناصب الحكومية.
توقع الجميع مشاركة حزب العدالة والتنمية في حراك 20 فبراير حتى يشكل إلى جانب القوى الأخرى مركز ضغط في اتجاه ترجيح كفة الإصلاح الشامل والعميق لهياكل النظام السياسي، غير أن هذا لم يتم وبدا لافتًا الرفض الرسمي للحزب المشاركة في الحراك، خاصة أنه كان يصرخ صباحًا ومساءً أن أجهزة الدولة تحاصره ويتعرض لمضايقات تعرقل عمله السياسي.
التطبيع مع الفساد
لكن على الرغم من ذلك منح المغاربة ثقتهم لهذا الحزب، وبدا الجميع مترقبًا للوعود التي رددها العدالة والتنمية بإحداث إصلاحات سياسية واجتماعية، إلا أن خيبات الأمل توالت واحدة تلو الأخرى، بعدما كانت هذه الإصلاحات ضد الطبقات الوسطى والفقيرة، بدءًا مما أسمته الحكومة بـ”إصلاح صندوق المقاصة”.
صندوق المقاصة هو مؤسسة حكومية وظيفتها الأساسية دعم أثمان المواد الأولية المسوقة في المغرب، لكن رفع الدعم التدريجي عن بعض المواد الاستهلاكية، بقرار من حكومة العدالة والتنمية، أدى إلى غلاء الأسعار في السوق وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين، إلا أن الحكومة لم تتراجع عن هذا القرار وسط سخط الشارع المغربي، بل تمادت في ذلك إلى أن قلصت ميزانية دعم غاز الطهو والدقيق والسكر خلال العام الحاليّ إلى 13.640 مليار درهم (تقريبًا 1.4 دولار)، في وقت رصدت لصندوق المقاصة السنة الماضية 17.670 مليار درهم، أي نحو 1.8 مليار دولار.
لقد فشل الإسلاميون في الاستجابة لتطلعات المغاربة، وتنفيذ الشعارات التي رددوها في حملاتهم الانتخابية، فبدا حزب العدالة والتنمية مثل باقي الأحزاب السابقة التي توالت على الحكومة، تطلق وعودًا إبان المعارضة والحملات الانتخابية، وتتنكر لها بمجرد تقلد مناصب المسؤوليات، وتتجاوز ذلك إلى التطبيع مع الفساد الذي ينخر المجتمع، فقد أطلق بنكيران جملته الشهيرة ذات لقاء تليفزيوني: “عفا الله عما سلف”، ملخصًا بذلك فلسفته في محاربة الفساد، ولم يتردد في إقحام الدين هذه المرة مدافعًا عن فلسفته قائلًا: “هذا كلام الله”!
بنكيران الذي ينعم حاليًّا بمعاش استثنائي يتجاوز السبعة آلاف دولار، قال في ذات الحوار، قبل خمس سنوات: “ليس من الممكن محاربة اقتصاد الريع أو القضاء على الفساد” لأن الأمر – برأيه – صعب ومعقد، وأنه لم يأت ليحمل مصباحًا ويبحث عن المفسدين في أركان الدولة، لأن ذلك سيكون جريمةً في حق الوطن.
عندها استفاق المغاربة على وقع صدمة بحقيقة أن ما بشر به حزب العدالة والتنمية طيلة حملته الانتخابية، لم يكن حينها إلا من باب الشعارات والنوايا، خصوصًا بعدما أكد بنكيران أنه لا ينوي مطاردة الساحرات ولا متابعة الفاسدين والمفسدين في جحورهم وأوكارهم، وإنما أتى إلى السلطة بنية إصلاح الوضعية الاقتصادية والاجتماعية المتردية للبلاد، وإخراجها من نفق الأزمة المستدامة التي تنهش مفاصلها ومرافقها منذ زمن طويل.
تجريم التطبيع
عودة إلى التطبيع مع “إسرائيل” وهو آخر ما سقط من أوراق شجرة العدالة والتنمية الذي يقضي آخر شهوره بالحكومة، ليدخل غمار الانتخابات من جديد، التي من المرجح أنه لن يفوز بها للمرة الثالثة، إذا نهج المغاربة ضده مبدأ التصويت العقابي، ليس فقط لأنه فشل في تدبير قضاياهم الاجتماعية والاقتصادية على نحو أصابهم بخيبة الأمل، بل وحتى خيانته لمبادئه وخنوعه، وهو الذي كان بالأمس يحشد مناضليه للمشاركة في كل وقفة ومسيرة داعمة للقضية الفلسطينية، حتى أضحت بعض قياداته رموزًا من المدافعين عن المسجد الأقصى وحقوق الشعب الفلسطيني.
لكنه قبل كل ذلك تاجر بالدين واستغله في خطابه ونشاطاته الحزبية ليظفر بالمناصب، وباع المغاربة الوهم، فكيف لا يهون عليه المتاجرة بالقضية الفلسطينية، حتى ولو كانت أدبيات الحزب، منذ تأسيسه عام 1967، تقوم على رفض أي تطبيع مع “إسرائيل”، بل وتقدم فريقه البرلماني، رفقة ثلاثة فرق أخرى من الأغلبية البرلمانية عام 2013، بمقترح قانون لتجريم كل أشكال التطبيع.
تصدع بيت الإخوان
كان حريًا بالحزب الإسلامي أن يعبر عن موقف صريح تجاه استئناف المغرب لعلاقاته الدبلوماسية مع “إسرائيل”، لكنه أصدر بيانًا محتشمًا ثمن خلاله قرارات العاهل المغربي وأكد أن الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء يفتح آفاقًا جديدةً لتقوية الموقف المغربي في الأوساط الدولية، ويزيد من عزلة خصوم الوحدة الترابية، إلا أنه امتنع عن إصدار موقف صريح من التطبيع، بل ذكر بمواقف الحزب الثابتة من الاحتلال الصهيوني، وما يقترفه ضد الشعب الفلسطيني من جرائم تقتيل وتشريد وعدوان على المقدسات، ومحاولاته تطبيع علاقاته واختراق المجتمعات الإسلامي.
ثم سيفاجأ الحزب فيما بعد بأن رئيس الحكومة هو من سيوقع اتفاق التطبيع، ما ترك صدمة عنيفة داخل بيت العدالة والتنمية، ليدعو إلى دورة استثنائية لـ”برلمان الحزب” الغاية منها مناقشة أداء الحزب بخصوص التطورات السياسية المرتبطة بملف الصحراء ومستجدات القضية الفلسطينية، غير أن تيارًا مواليًا لبنكيران لوح بمحاسبة العثماني وتنحيته من رئاسة الأمانة العامة للحزب، رغم أن بنكيران نفسه انتقد دعوات إسقاط العثماني، بل “ينبغي الاستمرار في مساندته اليوم بعدما وقع على اتفاق إعادة العلاقات مع إسرائيل”.
قبل أن يستوعب إخوان العدالة والتنمية صدمة السقوط عن القيم، سيمرون بمرحلة عسيرة تتسم بمهاجمة القيادة ورفض التبريرات التي تقدمها، إلى أن يتأقلموا مع الوضع أو يطبعوا معه تباعًا.