على ضفاف نهر صغير في قرية جيكور من قضاء أبي الخصيب البصري أقصى الجنوب العراقي ولد شاعرنا بدر شاكر السياب، صديق الشموس والمنتِحب مع المطر في 25 ديسمبر 1926، وسط بساتين النخيل التي ترعرع فيها وشكلت أول ملامحه الثقافية ومفردات قصائده.
ينتمي بدر شاكر إلى عائلة السياب التي يرجع نسبها لقبيلة ربيعة العربية وجاء لقب العائلة من الطاعون الذي أصابها فلم يبقي منها إلا سياب بن محمد بدران المير، وكان عبد الجبار السياب أحد أحفاد السياب الكبير وجد شاعرنا غنيًا ومالكا لمزارع النخيل وقد ابتنى لنفسه دارًا كبيرا ضم خمسة عشر غرفة وبجواره منزل للعبيد والخدم وقد عرف العالم منزل عبد الجبار السياب عبر شعار بدر حيث اطلق عليه لقب “منزل الأقنان”.
في منزل الأقنان فقد بدر والدته وهو في سن مبكرة، فزادت شخصيته العاطفية حساسية فالطفل الذي لم يتجاوز سنواته الست ينشأ يتيم الأم في محنة كانت هي أولى مخزوناتها من جعبة الوجع التي طغت لاحقًا على قصائده.
منزل الأقنان الذي ما يزال شاخصا إلى اليوم
حرص والد السياب على أن يكمل بدر تعليمه ولما لم يكن هناك مدرسة في قريته أرسل للتعليم في “أبي الخصيب” وعندها تعرف على الشناشيل -وهي شرفات لغرف خشبية معلقة وتدل على ثراء صاحب المنزل غالبا- وبذلك مثلت له محنته الثانية، حيث أحس بدر بأن الوصول إلى هذه الشناشيل حلم وبأن الوصول للصبايا المنعمات فيها حلم أكبر.
لقد عانى الفلاح الصغير كثيرا أمام هذه المفارقة حتى إنه لم يستطع أن يحتفظ بهذه المشاعر فعبر عنها بعد سنين طويلة بقصيدته الشهيرة “شناشيل ابن الجلبي” التي أورد فيها أبياتا من الشعر الشعبي على شكل أهازيج يبثها الاطفال.
يا مطرا يا حلبي
عبر بنات الجلبي
يا مطرا يا شاشا
عبر بنات الباشا
ولعل هذا الهاجس الطبقي لازمه حتى بعد إكماله لدراسته الثانوية في مدينة البصرة و التحاقه بدار المعلمين العليا في بغداد لذلك عُرِف بتوجهه اليساري في مقتبل حياته الذي لم يستمر عليه بل غادره للقومي لاحقًا.
ومن ذخيرة محنته التي لا تنتهي أنه كان ينتمي للتيارات المناهضة للحكم دائما فظلم وسجن في الفترة الملكية للحكم في العراق لما عرف عنه من توجه مناهض للاحتلال البريطاني، وكذلك حصل معه فيما بعدها في الفترة الجمهورية ووصول الشيوعيين للحكم حيث طرد من عمله نتيجة إعلانه الاستقالة من الحزب الشيوعي العراقي.
السياب محرر القصيدة
وصل الشاب القروي بغداد للدراسة في مطلع الأربعينات من القرن الماضي وهي فترة كانت تعج بالحراك الثقافي والاجتماعي والسياسي والأدبي فوجد السياب نفسه وسط هذه الدوامة الفكرية والسياسية، فرافق خالد الشواف إلى مقر جمعية الشبان المسلمين وتردد على مقر جريدة الاتحاد التي كانت أولى المنصات التي نشرت قصائده، كما كان طويل الجلوس في مقهى الزهاوي الذي عرف بكونه محطة للقاء وجوه الأدب وحينها عرفت بغداد وجها شعريًا جديدا بدأ يبرز في سماء الأدب والقصيدة العربية.
لا يمكن الخلاف أن السياب هو الذي حفر عميقًا في نهر الشعر الحر واثر بشكل أكبر في الاجيال اللاحقة من الشعراء
أصدر السياب مجموعته الشعرية الأولى عام ١٩٤٧ بعنوان “أزهار ذابلة” والتي كان من ضمنها أول قصيدة لشعر التفعيلة أو ما يعرف بالشعر الحر بعنوان “هل كان حباً؟” الذي كسر فيه السياب جمود الشعر العمودي.
وعلى الرغم من الجدال الذي لا ينتهي بين السياب والشاعرة نازك الملائكة التي تقول بأن قصيدتها التي صدرت في نفس العام وحملت عنوان “الكوليرا” هي أول قصائد الشعر الحر، ولذلك من المهم التعريج على أن نازك والسياب التقيا مرارا في عام ١٩٤٦ وكان هناك مشروع ديوان شعري مشترك لم يبصر النور، ما يمنحنا صورة جيدة لشكل التبادل الفكري الذي حدث قبل ولادة قصائد التفعيلة.
ولكن على الرغم من هذا الخلاف حول الأقدمية إلا أنه ليس هناك خلاف على أن السياب هو الذي حفر عميقًا في نهر الشعر الحر وأثر بشكل أكبر في الأجيال اللاحقة من الشعراء لذلك يمكن أن أقول بكل راحة إنه المحطم الحقيقي لقيود الشعر العربي.
قصيدة شناشيل ابنة الجلبي بصوت السياب
قدم بدر خلال رحلته الشعرية طويلة العطاء قصيرة الزمن والتي مر خلالها عبر الذاتية الفردية فالمجتمعية ومن مرحلة القرية ثم العاصمة وأخيرا الغربة، ومن أوجاع الفقد والحرمان إلى أوجاع السجن والمرض حالة فريدة من الشعر العربي الحديث.
فتظهر تجليات الشعر العربي الحديث وقوة بدر وجزالته في قصائد عظيمة مثل غريب على الخليج وأنشودة المطر التي يقول في مطلعها:
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شُرْفَتَان راح ينأى عنهما القمر
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الأضواء كالأقمار في نهر
يَرُجّه المجذّاف وَهْناً ساعةَ السحر
وتذخر قصيدة غريب على الخليج التي تعتبر آخر ما كتبه السياب من قصائد قمة أوجاع المغترب. ولعل السياب لم يدع بابًا شعريًا لم يطرقه حتى التصوف طرقه في أحد أعظم قصائده “سفر أيوب” فيقول فيها:
ولكنّ أيّوب إن صاح صــــــاح
لك الحمد، ان الرزايا ندى
وإنّ الجراح هدايا الحبيب
أضمٌ إلى الصدر ِ باقتــها
هداياكَ في خافقي لاتَغيــب
لم يكتف السياب في رفد الشعر العربي بالجديد من القصائد والكتب الشعرية بل ساهم في إثراء المكتبة الادبية العربية في الترجمة الشعرية والنثرية فممن ترجم لهم السيّاب الإسباني فدريكو جارسيا لوركا والأمريكي عزرا باوند والهندي طاغور والتركي ناظم حكمت والإيطالي أرتورو جيوفاني والبريطانيان ت. س. إليوت واديث سيتويل ومن تشيلي بابلو نيرودا.
الشاعر الفلسطيني محمود درويش يلقي قصيدته “أتذكر السياب”
لم يتوقف تأثير السياب حتى بعد رحيله فقد صدرت عددًا كبيرًا من الدراسات في شعره وقام التلفزيون العراقي بانتاج وبث مسلسلًا عن حياته وذكره محبوه كأحد أعمدة الشعر العربي وأشهر شعراء العرب في القرن العشرين.
وفاته وجع يوازي قصائده
توفي الغريب على الخليج في 24 كانون الأول عام 1964 عن 38 عاماً وهو مغترب في الكويت للعلاج بعد رحلة طويلة مع المرض اقعده منذ عام 1961، نُقل جثمانه إلى البصرة وعاد جسدًا مسجى إلى جيكور في مساء شتوي، والغيومُ تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثِقالْ وقد شيّعه عدد قليل من أهله وأبناء محلته، ودفن في مقبرة الحسن البصري في الزبير وبذلك انتهت أخر تجسيدات الألم لـ قصائد السياب التي كانت مرآة لحياة قاسية بين الفقد وغياب الحبيبة والصراع الطبقي والسجن والمرض.
ورغم تلك المآسي، حقق السياب أول أحلامه بعد رحيله مباشرة فقد حظي أخيرًا بما كان يريد وهو الأمر الذي ذكره بوجع في قصيدة “الوصية” وكان له قبر في مقابر الوطن الكئيبة!
إن مِتُّ يا وطني فقبرٌ في مقابرك الكئيبهْ
أقصى مناي، وإن سلمتُ فإن كوخًا في الحقول
هو ما أريد من الحياة. فدى صحاريك الرحيبهْ
أرباضُ لندن والدروب، ولا أصابتك المصيبْه!