خلال الثورة السورية التي تفجرت في آذار/ مارس 2011، خاض أهل سوريا نضالًا عظيمًا ضد حكم بشار الأسد ونظامه، وكان من نصيب البلاد حربٌ استخدم فيها الأسد كل أنواع الأسلحة المشروعة وغير المشروعة، كما أنه ارتكب مجزرة الكيماوي التي راح ضحيتها المئات، وكانت الغوطة الشرقية من أوائل المناطق الثائرة والتي سارت فيها كبرى المظاهرات منذ البداية، كذلك كان الحراك العسكري فيها ذو بصمة خاصة بمسيرة الأحداث العسكرية في البلاد حتى التهجير الكبير عام 2018.
كان ثوار دمشق الذين خرجوا على حكم الطاغية الأسد لا يستطيعون التحرك في مدينتهم بسبب التشديدات الأمنية، فكانوا ينتقلون إلى المدن المجاورة في الريف الدمشقي للقتال ضد النظام، وهذا الأمر ليس غريبًا، إذ إنها سياسية أجدادهم الذين قارعوا المستعمر الفرنسي وقاتلوه، وكانت الغوطة الشرقية منطلق الكثير من العمليات والثورات ضد الفرنسيين في عشرينيات القرن الماضي، وهي الحركات التي قدمت الاستقلال والحرية إلى البلاد.
يبرز اسم “حسن الخراط” كقائد كبير في الثورة السورية الكبرى عام 1925 ضد الانتداب الفرنسي، وهو الثائر الدمشقي المقاتل الذي آمن بالبندقية سبيلًا للتحرر وقضى شهيدًا على ثرى أرضه بعد سنوات مليئة بالكفاح، فكان ابن حي الشاغور ينطلق بعملياته ضد الفرنسيين من مدن الغوطة الشرقية، ليسطر رواية خالدة في النضال ضد الاستعمار.
من حراسة البساتين
لم يتلق حسن بن محمد الخراط تعليما في المدارس، وهو المولود في حي الشاغور الدمشقي عام 1861، وعندما بلغ فترة الشباب عمل بسلك الحرس التابع لمديرية شرطة دمشق، فكان برتبة نقيب الحراس، وعاش فخري مع أمه بعيداً عن والده. لم تكن تذخر حياة الخراط في شبابه بشيء مميز، فكان يعمل من أجل قوت يومه، ولم يدر أحدٌ أن هذا الشخص سيكون ذو مكانة رفيعة ويحفظ التاريخ اسمه بين الكبار.
كان يذهب خفيةً مع صديقه المجاهد الشيخ محمد الأشمر الميداني إلى المحدِّث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني؛ ليأخذوا منه الدعمَ الماديَّ والمعنوي
القائد الكبير
كانت بداية مناهضة الخراط للاستعمار مع حشد المتطوعين لمعركة ميسلون، حيث نسق مع القادة العسكريين الكبار آنذاك الذين أصروا على مواجهة الفرنسيين، وكانت غالبية هؤلاء القادة من نفس الحي وهو حي الشاغور، ومنهم يوسف العظمة وزير الحربية، والباشا حسن تحسين الفقير قائد الجيش السوري في المعركة، وقائد المدفعية الأميرآلاي محمد شريف الحجار.
على حد وصف الكتب والمقالات فإن حسن الخراط قاد معاركًا عظيمة ضد المحتل الفرنسي، وخاصة أن قدرة المستعمر العسكرية كانت تفوق الخراط وجماعته عدة وعتادًا عشرات المرات، وعند قيام الثورة السورية الكبرى، قاد القائد الشامي ثوار دمشق في معارك كثيرة، فأنزل الهزيمة بالمحتل الفرنسي في معارك الغوطة الشرقية وخاصة في معركة “زور المليحة” إضافةً إلى معركة “جسر تورا”.
قطع الخراط جسر تورا ومنع الفرنسيين من عبوره، بعد ذلك خاض الخراط معركة كبيرة على مدينة دمشق بهدف تحريرها، وأعد مجموعاته للهجوم من 3 محاور، وفي تلك المعركة اقتحم مقر الحاكم الفرنسي في وسط دمشق في قصر العظم وكانت تلك المعركة في تشرين أول/ أكتوبر من عام 1925 وسيطر عليه.
يقول الشيخ السوري محمد وائل الحنبلي عن الخراط: “كان يذهب خفيةً مع صديقه المجاهد الشيخ محمد الأشمر الميداني إلى المحدِّث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني؛ ليأخذوا منه الدعمَ الماديَّ والمعنوي، فيضع يدَه على رأسهما ويقول لهما: علِّقوا قلوبَكم بالله، ولا تخشوا أحدًا إلا الله، ثم يُوصيهم بالأخذ بالأسباب، وأداءِ الحقوق لأهلها، ويأمرهم بالتحابِّ واجتماعِ الكلمة فكان حسن الخراط لا يرضى الظلمَ ولا التعديَ على حقوق الآخرين، أقام في الغوطة الشرقية أيامَ جهادِه كلَّها فلم يتدخل بشؤون الناس، ولم يقترب من أملاكهم، إلا أنه أنشأ في بلدة بالا محكمةً شرعيةً لمحاسبة مَن يخطئ أو يسيء من الثوار والمجاهدين، وكان المرجعُ الشرعيُّ لهذه المحكمة الشيخَ بدر الدين الحسني، الذي كان قد أرسل تلميذَه الخاصَّ الشيخ توفيق سوقية ليكونَ كبيرَ القضاةِ بالغوطة، ويرسلُ معه الدعمَ الماديَّ للمجاهدين”.
لم يكن ذلك الشخص الذي يهاب القوة المفرطة ولا هو المقاتل الذي يخور تحت ضربات عدوه
اقتحام قصر العظم
كان قصر العظم مقرًا للفرنسيين، وعلى ذلك الأساس اقتحمه الخراط وكان من المفترض أن يتواجد به المندوب السامي الفرنسي، فوضع الخراط على رأس المقتحمين قوة استشهادية يقودها الشيخ عبد الحكيم منير الحسني، خاضت هذه المجاميع معارك ضارية للسيطرة على القصر، وبعد اقتحامه والسيطرة عليه تم تحرير مدينة دمشق لفترة وجيزة.
الأيام التي تحررت فيها دمشق كانت صعبةً جدًا، فقد أشبعها الفرنسيون قصفًا ودمارًا وقتلًا، فقصفوها بالمدفعية والطيران بشدة، ودمروا معظم أحيائها ومبانيها بالكامل، ثم بدأ الاقتحام الاستعماري بالمصفحات التي أصبحت تقتل كل من تراه أمامها، هنا اضطر حسن الخراط وجماعته الانسحاب إلى بساتين الغوطة الشرقية، في الوقت الذي قام به جنود الاحتلال الفرنسي بنهب أسواق دمشق ومتاجرها.
تمادت فرنسا في تلك الفترة بجرائمها، حيث شنت هجوماً على أماكن تواجد الثوار وأحرقت فيه القرى والبلدات وقتلت سكانها وغورت آبار المياه، واستعملت باريس سياسة الأرض المحروقة مع سكان غوطة دمشق فكانت تحرق القرى كما الحال مع ما فعله بشار الأسد في سوريا هذه السنوات.
بعد تأكيد خبر استشهاده وزعت فرنسا أرفع الأوسمة على كافة ضباط الجيش الفرنسي الذين شاركوا في القصف والمعارك في يوم 21 كانون ثاني 1926.
نهاية الخراط
لم يكن الخراط ذلك الشخص الذي يهاب القوة المفرطة ولا هو المقاتل الذي يخور تحت ضربات عدوه، بل كان في أشد اللحظات وأقساها ينزل إلى دمشق ويسير في شوارعها، فيهتف الناس له ويحيونه تحية الأبطال، ونتيجة لذلك أصبح الفرنسيون ينصبون له الكمائن للقبض عليه، حتى أن الحاكمية الفرنسية في دمشق أصدرت أمرًا بقتله حال رؤيته فورًا، وقالت: “حسن الخراط شخص مسلح بالغ الخطورة يجب أن يتم قتله فور رؤيته”.
كان للخراط أسلوبًا مميزًا في القتال، فكان لا يحب طريقة الانبطاح في القتال لما يعتبره من جبن وخوف، ولكنه استعاض عن ذلك بسرعة في الحركة ودقة في استعمال الأسلحة، ويروى عنه أنه كان راميًا ماهرًا لا يخطئ هدفه، كما قيل في حسن الخراط أنه “أيام اشتداد القتال في الثورة السورية الكبرى يحمل بندقية وأكثر من مسدس ويرمي بكلتا يديه بدقة متناهية، وكان أيضاً يجيد ركوب الخيل ويقتني أفضل الخيل العربية الأصيلة وأذكاها”.
بعد بطولات عظيمة، سقط الخراط شهيدًا على يد الفرنسيين، وتعددت الروايات حول مقتله فمنهم من ذهب إلى استشهاده في كمين محكم أثناء محاولته الذهاب لحي الشاغور في 19 تشرين أول/ أكتوبر عام 1925 وتناقل الفرنسيون الخبر فيما بينهم، ومنهم من قال إنّ الخراط حوصر في الغوطة الشرقية وأمطرته المدرعات بوابل عنيف من القذائف وهنا يذكر الباحث إحسان هندي أن الخراط استشهد أواخر عام 1925 في “عملية تطويق بستان الذهبي.
أما الرواية الأقرب لاستشهاد فقد حاصره الفرنسيون في بستان الذهبي في الغوطة الشرقية، وقُتل مثل هذا اليوم 25 كانون الأول/ ديسمبر عام 1925، وبعد تأكيد استشهاده وزعت فرنسا أرفع الأوسمة على كافة ضباط الجيش الفرنسي الذين شاركوا في القصف والمعارك.