قبل عشر سنوات من الآن وتحديدًا في 17 من ديسمبر/كانون الأول 2010 فجر الشاب التونسي محمد بوعزيزي ينبوع ثورة الياسمين بإشعال النار في نفسه احتجاجًا على عورات نظام زين العابدين بن علي، معلنًا بداية عهد جديد تتخلص فيه بلاده من نظام ديكتاتوري جثم على نفوس التونسيين لعقود طويلة.
عدوى بوعزيزي وما تلاها من ردة فعل الشارع التونسي أصابت العديد من المجتمعات العربية التي كانت تئن من أنظمة الحكم الاستبدادي، ومع بداية يناير/كانون الثاني 2011 كانت المظاهرات ترج عواصم مصر وسوريا واليمن والعراق والكويت والمغرب، حتى وصلت إلى دول الخليج وعلى رأسها البحرين لولا تدخل السعودية لوأدها خشية تمددها.
أحلام عدة علقتها الشعوب العربية على هذه الهبة خاصة بعد إطاحتها باثنين من أقدم الأنظمة السلطوية في المنطقة، نظام بن علي في تونس وحسني مبارك في القاهرة، وبدأت مشاعر الأمل في مستقبل أفضل تتسلل من بين ثنايا جدران اليأس والإحباط الذي خيم على الأجواء لسنوات طويلة في ظل قبضة أمنية وسياسية محكمة.
لكن في الوقت الذي كانت تحتفل فيه الشعوب العربية بأوج انتصاراتها وفرض الإرادة الشعبية على الأنظمة الاستبدادية كانت الطعنات تخترق جثمان ثورتها طعنة تلو الأخرى، ليتغير المشهد رويدًا رويدًا بما يعيد الأجواء إلى ما قبل ديسمبر 2010، وسط حالة من الترقب والقلق معًا.
عقد كامل مر على قطار الربيع العربي، تغيرت فيه ملامح الخريطة العربية على مستوياتها كافة، فما قبل 2011 ليس كما بعدها بكل المقاييس، أحلام وأحزان، طموحات وأوجاع، موجات عاتية من المد والجذر ضربت المكون العقلي والثقافي للمجتمع العربي فأعادت تشكيله مرة أخرى.. فما الذي تغير خلال تلك العشرية المحورية في تاريخ المنطقة؟
الشعوب الحالمة.. خيبة أمل
الأكثر تضررًا خلال السنوات العشرة الماضية منذ انطلاق أول جولة لقطاع الربيع العربي هي الشعوب الحالمة بمستقبل أفضل، الساعية للتخلص من الأنظمة التي أفسدت الحياة عليها، تلك الملايين الهادرة التي خرجت للميادين والشوارع العامة والطرق الرئيسية ترفع شعارات الحرية والكرامة والديمقراطية.
هذه الجماهير التي أملت نفسها بتغيير حقيقي بدت إرهاصاته مع هروب ديكتاتور تونس وتنحي فرعون مصر، والانتصارات التي حققتها الإرادة الثورية في العديد من البلدان الأخرى، بل وصل الأمر إلى انبهار العالم بهذه التجربة الفريدة من نوعها، وهو ما كان له وقعه الإيجابي على الثائرين في الميادين.
لكن مع مرور الوقت ازداد المشهد قتامة، وعام تلو الآخر تساقطت رايات الثورة تحت نعال الثورة المضادة، وبدلًا من حمل الثوار على أعناق المجد والخلود إذ بهم يحملون في نعوش إلى مثواهم الأخير بأيدي البطش الغاشمة التي لم تتوان الأنظمة الديكتاتورية في استخدامها بروح الانتقام ضد الثورة ورموزها، هذا بخلاف عشرات الآلاف ممن زج بهم في السجون والمعتقلات دون محاكمات، في وقائع سيقف التارخ أمامها طويلًا.
الأنظمة المستبدة.. الرابح الأكبر
وفي الجهة الأخرى حققت ديكتاتوريات المنطقة نجاحات على أكثر من مستوى، حيث تمكنت قوى الثورة المضادة من السيطرة على الوضع بصورة كبيرة، وأطاحت بالحراك الثوري أو على الأقل استطاعت تجميده لسنوات طويلة، نجحت خلالها في ترسيخ أقدامها مرة أخرى.
ولعل المشهد المصري هو الحالة الأكثر حضورًا في هذه النقطة، فبينما كان المصريون يئنون من ديكتاتورية مبارك وفساد حكمه وهو ما دفعهم للثورة والإطاحة به، إذ بالسيسي ونظامه يدفع بقطاع كبير من المصريين إلى الترحم على العهد البائد نظرًا لما عانوه ولا يزالوا من هذا النظام الذي أطاح بأول تجربة حكم مدنية ديمقراطية في تاريخ المحروسة.
مارس نظام السيسي كل أنواع التنكيل والبطش بالمصريين، منتقمًا من كل من شارك في الثورة، بالعمل أو التأييد، حتى إنه في أكثر من مرة حذر من تكرار هذه التجربة مرة أخرى، بل حمّل يناير مسؤولية فشله في مختلف الملفات التي عجز فيها عن تحقيق أي خطوات إيجابية.
المشهد السوري لم يختلف كثيرًا، حيث تجاوز بشار الأسد كل الخطوط الحمراء، وبدلًا من الحفاظ على نظامه وحمايته من السقوط كما حدث مع صديقيه، بن علي ومبارك، إذ به يضحي بأغلبية الشعب من أجل كرسيه، فازداد توحشًا ضد السوريين ومارس بحقهم كل أشكال التنكيل والتعذيب ما دفع الملايين من أبناء البلد للهجرة هربًا بحياتهم من أيادي البطش الملوثة بدماء عشرات آلاف الأبرياء.
اللافت للنظر في استعادة الأنظمة الديكتاتورية لقوتها مرة أخرى أنها اعتمدت على إستراتيجيات ثابتة، تتمحور حول القبلية والطائفية والعزف على أوتار الأمن القومي واستقرار الدولة والدفاع عن مقدساتها، ونظرية المؤامرات الخارجية، وكلها مبررات ساقتها تلك الأنظمة لتبرير بطشها وتنكيلها بشعوبها.
غير أن استتباب حكم تلك الديكتاتوريات ونجاح الثورة المضادة في وأد أحلام التغيير ما كان له أن يتم دون مساعدة قوى خارجية، لا سيما العربية منها وفي مقدمتها الإمارات والسعودية، فلولا الدعم المقدم منهما، ماديًا وسياسيًا، ما كانت ستنجح الثورة المضادة في تحقيق أهدافها.
استطاعت “إسرائيل” فرض حضورها الاقتصادي والسياسي على الكثير من الأنظمة العربية، وهو الحلم الذي طالما يراود زعماء الصهيونية العالمية على مدار عقود طويلة كانت الإرادة الشعبية حجر العثرة الأول في طريق تحقيقه
مزيد من الفقر والتأزم الاقتصادي
شهدت المجتمعات العربية خلال تلك العشرية موجات اقتصادية قاسية، عجز مستمر في الموازنة العامة للدول، وقفزة كبيرة في معدلات الفقر، وطفرة غير مسبوقة في حجم الديون الخارجية، فيما عانت ولا تزال بعض المجتمعات من أوضاع مأساوية، اقتصاديًا ومجتمعيًا، صنفت بأنها ضمن الأكثر بؤسًا على مستوى العالم، يأتي على رأسها الوضع في اليمن وسوريا.
كذلك فإن الدول التي تدعي نهضة اقتصادية مستندة إلى لغة التلاعب بالأرقام البعيدة تمامًا عن الواقع فإن أوضاعها المعيشية المتدنية تفند تلك الادعاءات بصورة كبيرة، وهو ما توثقه شهادات المواطنين من متوسطي ومحدودي الدخل وهي الشريحة الأكثر عددًا، كما هو الحال في مصر وتونس.
حتى الدول النفطية الخليجية التي نجحت من مقصلة الربيع العربي، فقد شهدت خلال العقد الأخير تراجعًا كبيرًا في معدلات النمو الاقتصادي بسبب الضربات المتتالية التي تلقتها أسعار النفط، ثم جاء فيروس كورونا المستجد ليزيد المشهد تأزمًا، حيث ارتفاع نسب البطالة وتقليص الرواتب وتعزيز الإجراءات التقشفية التي تستهدف تقليل نسب الإنفاق إلى حدودها الدنيا.
كما تعرضت تلك الدول لاستنزاف خزائنها بصورة غير مسبوقة في تاريخها وذلك بهدف الحصول على ضمانات لحماية أنظمتها من ملاقاة مصير دول الربيع، فهرولت لإبرام صفقات تسليح مع قوى كبرى، كما فتحت الباب على مصراعيه لدفع الإتاوات حماية لعروشها المهددة، ولعل زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للرياض مايو 2017 أكبر برهان على هذه الوضعية المؤسفة، إذ عاد من خلال تلك الزيارة بما يقرب من نصف تريليون دولار في صورة صفقات تسليح واستثمارات سعودية في بلاده.
الأرض المستباحة
كانت ثورات الربيع العربي في بدايتها ثورات ذاتية وطنية، اندلعت شرارتها الأولى من رحم الشعب الذي كان مصدر القوة والتأييد في مواجهة الأنظمة الديكتاتورية، غير أن عناد تلك الأنظمة وصلفها واستماتتها في الدفاع عن عروشها فتح أرض الوطن للقوى الأجنبية، الإقليمية منها والدولية.
فنجد حضور كامل الأوصاف للإمارات والسعودية في مصر دعمًا لنظام السيسي على حساب الثورة والثوار، والتدخل بشكل أو بآخر في القرار السيادي للدولة، كذلك وجدت روسيا في دعوة الأسد لحمايته فرصة كبيرة لاستعادة حضورها الإقليمي والدولي مجددًا فباتت اللاعب الأكثر حضورًا وسيطرةً على المشهد السوري، بجانب قوى أخرى كتركيا والولايات المتحدة والسعودية.
عراقيًا لم يختلف الوضع كثيرًا حيث مزيد من التغول الإيراني في مفاصل الدولة، كذلك اليمن الذي بات قصعة مستباحة لكل القوى الباحثة عن تعزيز نفوذها الشرق أوسطي، بما فيهم “إسرائيل” التي مهدت الإمارات طريق دخولها هناك في إطار مخطط السيطرة على الساحل الغربي للبلاد.
انغمست النخب الفكرية والسياسية التي قادت المشهد الثوري قبل عشر سنوات في مستنقع التشكيك وتبادل الاتهامات
كذلك التراب الليبي الذي تحول إلى ساحة كبيرة لمختلف القوى الأوروبية والعربية الساعية للحفاظ على نصيبها من كعكة النفط هنالك، وصل الحال إلى الاستقواء بالخارج من القوتين المتنازعتين هناك، وكان لذلك دور كبير في تعزيز الطائفية والقبلية داخل المجتمع الليبي الذي تمزق بصورة بات من الصعب التئامها في الوقت القريب.
وأخيرًا كانت دولة الاحتلال المستفيد الأبرز من تلك العشرية، إذ نجحت في اختراق الجسد العربي بصورة كبيرة، حيث أبرمت اتفاقيتي تطبيع رسميًا مع دول عربية (الإمارات والبحرين والمغرب) وشبه رسميًا (السودان) بخلاف دول أخرى باتت على بعد خطوات من الانخراط في هذا المستنقع.
كما استطاعت “إسرائيل” فرض حضورها الاقتصادي والسياسي على الكثير من الأنظمة العربية، وهو الحلم الذي طالما يراود زعماء الصهيونية العالمية على مدار عقود طويلة كانت الإرادة الشعبية حجر العثرة الأول في طريق تحقيقه، إلا أن الأمر تغير بصورة كبيرة بعد استتباب أنظمة الحكم الديكتاتورية التي أحكمت قبضتها على الإرادة الشعبية وأدخلتها مؤقتًا ثلاجة النسيان.
الجسد الثوري.. شروخ بالجملة
العقل الثوري تعرض هو الآخر خلال تلك السنوات لحزمة من الطعنات الغائرة التي أصابته بالشلل في كثير من الحالات، حيث تحول الجسد الثوري من لحمته التي ظهر عليها بداية الربيع وثبات موقفه والتمسك بتلابيب الوحدة الثورية إلى التشتت والتفتيت الذي أودى ببعض التيارات إلى غياهب النسيان.
فيما انغمست النخب الفكرية والسياسية التي قادت المشهد الثوري قبل عشر سنوات في مستنقع التشكيك وتبادل الاتهامات، فهذا إخواني وذاك اشتراكي وثالث ليبرالي ورابع قومي وخامس عميل وسادس خائن وسابع ممول وثامن صاحب أجندات خارجية… إلى آخر تلك النزعات التحزبية التي نجحت الثورة المضادة في اختراق الجسد الثوري من خلالها فأردته صريعًا أو على أقل تقدير فاقد لأي مقومات التصدي والمقاومة والدفاع عن مواقفه ومبادئه المعلنة.
ورغم مساعي استعادة لحمة الثورة مجددًا عبر مبادرات لم الشمل، فإنها باءت بالفشل بعدما وصل الاستقطاب والتخوين مراحله القصوى بين تلك التيارات التي ارتمى بعضها في أحضان الديكتاتورية الجديدة ضمانًا لاستمرار حضورها السياسي ولتحقيق مكاسب مستقبلية على حساب رفقاء الدرب وشركاء الحلم الذي لم يتحقق بعد.
تلك الموجة المكملة للأولى تبعث الأمل مجددًا في نفوس الشارع العربي، لا سيما أن الأجواء ربما تشير إلى انضمام مجتمعات عربية جديدة إلى تلك الموجة خلال المرحلة المقبلة
أوروبا.. عدوى الربيع
تأثير الربيع العربي خلال العقد الماضي لم يقتصر على الجغرافيا العربية فقط، بل امتد تأثيره إلى أوروبا والولايات المتحدة، ففي مقال للباحث المختص في شؤون الشرق الأوسط، أنشال فوهرا، نشره في مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية أشار إلى أن الثورات العربية كان لها تأثير قوي في الأوساط الغربية.
واستعرض فوهرا بعض ملامح هذا التأثير الذي جاء على رأسها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وإعادة نظر أوروبا في السياسة الخارجية لها حيال أنظمة الحكم العربية الاستبدادية، هذا بجانب صعود اليمين المتطرف في القارة العجوز بسبب اللاجئين والمهاجرين العرب ضحايا الحكومات المستبدة.
الباحث في مقاله أوضح أن تلك الثورات كان لها دور في تخلي أوروبا عن ورقة توت الأخلاق الليبرالية التي كانت تحول بينها وبين دعم الأنظمة الديكتاتورية لأي سبب من الأسباب، لافتًا إلى أن مهادنة السياسة الخارجية الأوروبية لبعض الحكام المستبدين في المنطقة العربية بهدف الحفاظ على أمن دول أوروبا كانت سقطة كبيرة.
واختتمت المجلة الامريكية المقال بأنه وبعد عشر سنوات من الربيع العربي فإن أوروبا باتت أقل استقرارًا عما كانت عليه قبل ذلك، الأمر الذي دفع بعض الأوروبيين إلى التفكير مجددًا في تبني فكرة الاستقرار الاستبدادي وهو ما يتجلى في الاحتضان الكبير للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من العواصم الأوروبية على رأسها باريس.
الأمر لم ينته بعد
كثير من المتشائمين يذهبون إلى أن الانتكاسة التي تعرضت لها الموجة الثورية الأولى على أيدي الثورة المضادة وداعميها في الداخل والخارج، والثمن الغالي الذي دفعه الثوار نظير التمسك بحلمهم في حياة كريمة، هو شهادة وفاة رسمية للثورة وأحلام التغيير والديمقراطية.
لكن التطورات الأخيرة التي شهدتها الساحة العربية خلال العامين الماضيين تحديدًا تميل إلى عكس ذلك، حيث اندلعت موجة ثورية ثانية في بعض العواصم شملت السودان والجزائر، بجانب لبنان والعراق، بل إن بعضها أطاح بأنظمة الحكم التي جثمت على صدور الشعب لسنوات طويلة كما حدث مع نظام عمر البشير.
تلك الموجة المكملة للأولى تبعث الأمل مجددًا في نفوس الشارع العربي، لا سيما أن الأجواء ربما تشير إلى انضمام مجتمعات عربية جديدة إلى تلك الموجة خلال المرحلة المقبلة، الأمر الذي يبقي على جذوة الثورة شعلة توقد شموس الأمل في نفوس العرب مهما كان المشهد مأساويًا.
السنوات العشرة الأخيرة بكل تفاصيلها كانت كاشفة بصورة كبيرة للمشهد السياسي، كما أنها نجحت في إسقاط الأقنعة عن الكثير من الوجوه المزيفة
سيبقى القلق يسيطر على الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة جراء فكرة اندلاع ربيع آخر، يقينًا منهم أن الأمر وإن حدث فلن يكون بالكيفية الذي كان عليها قبل عشر سنوات، فالدروس التي تعلمها الثوار خلال العشرية الأخيرة كفيلة أن ترمم الشروخات التي تعرض لها الجسد الثوري من حلفائه قبل أعدائه.
“في المرة القادمة سنعرف ما هو مطلوب منا”.. هكذا علقت الصحفية السودانية نسرين مالك، في مقالها بصحفية “الغارديان” البريطانية عن الموقف حال اندلاع “ربيع عربي آخر”، لافتة إلى أن الأيادي التي أسقطت ديكتاتور بحجم بن علي في تونس ومبارك في مصر قادرة على تكرار ما فعلوه، “لكن في المرة المقبلة سيكون كل شيء مختلفًا”.
وفي الأخير فإن السنوات العشرة الأخيرة بكل تفاصيلها كانت كاشفة بصورة كبيرة للمشهد السياسي، كما أنها نجحت في إسقاط الأقنعة عن الكثير من الوجوه المزيفة التي نجحت – بخداعها المدجن – في اعتلاء الثورة وتحقيق أكبر قدر من المكاسب ثم ارتمت بعد ذلك في أحضان الثورة المضادة للحفاظ على ذات المكاسب، بخلاف انكشاف زيف فكرة النخبة التي تلاشت عامًا تلو الآخر لتنزوي خلف الإرادة الشعبية القوية.