ترجمة وتحرير: نون بوست
لطالما كان الصراع بين أرمينيا وأذربيجان، الذي شهد تغييرات تكتونية بعد حرب كاراباخ الثانية (10 أيلول/ سبتمبر- 10 تشرين الثاني/ نوفمبر) قائما على مفهوم التحيز الأساسي في وسائل الإعلام الغربية، الذي يرجع جزئيا إلى التصور الديني والانقسام الأيديولوجي.
ساعد الشتات الأرمني القوي ومنظمات الضغط، التي تنشط في المجتمع الغربي، على نشر روايات معينة حول التاريخ والاتجاه الحالي للصراع. وعلى الرغم من أن أراضي أذربيجان المعترف بها دوليا كانت خاضعة للاحتلال الأرمني لما يقرب من 30 سنة، إلا أن وسائل الإعلام الغربية ما فتئت تصوّر الصراع باعتباره حركة تحرير لدولة مسيحية ضد أذربيجان المسلمة.
لقد حُدّدت هذه الادعاءات الكاذبة سابقًا من خلال الانحياز الاستشراقي القوي، الذي تعزز في السنوات الأخيرة جراء تنامي رهاب الإسلام ومعاداة الأتراك في وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية. وفي هذا السياق، أطلق المواطنون والعلماء والخبراء الأرمن حملة حمّلوا فيها أذربيجان مسؤولية تدمير التراث المسيحي خلال حرب كاراباخ الثانية.
لعل أكثر ما يبعث على القلق حقيقة أنه مقارنة بالسنوات التي مضت، رفضت وسائل الإعلام الغربية منح الجانب الأذربيجاني حق الرد. وفيما يلي، بعض الأمثلة على النهج أحادي الجانب في التعامل مع هذا الصراع في وسائل الإعلام الناطقة باللغة الإنجليزية.
نشر موقع “ذا كونفرسايشن” الأسترالي مقالا بعنوان “الأرمن النازحون من ناغورني كاراباخ يخشون تدمير كنائسهم التي تعود إلى العصور الوسطى” من تأليف الأستاذة كريستينا مارانسي، رئيسة قسم الفن والعمارة الأرمنية في جامعة تافتس. تطرقت مارانسي إلى هذا الموضوع من جوانب متعددة من خلال عدة مقالات، بما في ذلك مقال بعنوان “التراث الثقافي في مرمى النيران مرة أخرى” الذي نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال”.
تعهدت أذربيجان بترميم وحماية جميع المعالم الدينية في الأراضي التي لم تعد محتلة
وفي حين نشرت صحيفة “وول ستريت جورنال” رد أذربيجان، تجاهل موقع “ذا كونفرسايشن” جميع الرسائل الواردة من الجانب الأذري. يحرف هذا المقال الجوهر الحقيقي للصراع الإقليمي المستمر منذ ثلاثة عقود بين أرمينيا وأذربيجان، بما في ذلك الأسباب والتداعيات المترتبة عن حرب كاراباخ الثانية وتأثيرها على المعالم الدينية.
تعيد كريستينا مارانسي سرد الأكاذيب التاريخية المبتذلة حول القرار الذي اتخذه الاتحاد السوفيتي سنة 1921 بشأن منطقة ناغورني كاراباخ في أذربيجان. ويدور الحديث في كثير من الأحيان حول قرار مكتب القوقاز الذي استبعد في الواقع “إبقاء” إقليم ناغورني كاراباخ داخل أذربيجان، مما يؤكد مرة أخرى أن المنطقة كانت جزءًا من أذربيجان في المقام الأول. لكن الإشارات المتعددة إلى هذا القرار من قبل كاتبي الرواية الأرمنية تم تصورها عن قصد من زاوية مختلفة.
بعد انتهاء حرب كاراباخ الثانية، باتت الصورة المروعة واضحة للمجتمع الدولي. فقد شاهد العديد من الصحفيين الدوليين، عند زياراتهم لمدن مثل آغدام وفضولي المحررة وغيرها من الأراضي التي كانت محتلة في أذربيجان، الدمار الشامل الذي لحق بالمدن وبالبنية التحتية الأذرية، بما في ذلك التراث الديني الأذربيجاني والمساجد ودور العبادة.
كان العديد من الناس يصفون مدينة آغدام بأنها مدينة “هيروشيما القوقاز” بسبب حجم الدمار الذي لحق بها. فقد دُنّس مسجد آغدام وكاد أن يُدمر من قبل أرمينيا. ولكن مسجد آغدام ليس المسجد الوحيد الذي تعرض لأضرار جسيمة، حيث دُمّرت العديد من المساجد في الأراضي الأذرية التي كانت خاضعة للاحتلال لمدة ثلاثة عقود وتحولت إلى حظائر للخنازير واسطبلات للحيوانات.
في المقابل، تعهدت أذربيجان بترميم وحماية جميع المعالم الدينية في الأراضي التي لم تعد محتلة، بما في ذلك الكنائس المسيحية. وعلى امتداد قرون، كان التراث المسيحي موجودًا في أراضي أذربيجان، التي حكمها في الغالب الحكام الأذربيجانيون والأتراك.
مع اندلاع الصراع في سنة 1988، أعرب العديد من الخبراء الغربيين عن قلقهم بشأن التراث الأرمني، وبالذات مقابر حجر الخاتشكار. لكن الكنيسة الأرمنية الواقعة في قلب باكو، والتي تضررت خلال أحداث أوائل التسعينيات، تم ترميمها بالكامل، ويتم الآن الاحتفاظ بما يقرب من 5 آلاف مخطوطة أرمينية في مكتبة الكنيسة.
تتمتع الأطراف المتحاربة بوجهات نظر معاكسة، وتقدم تفسيرات متناقضة للوقائع
تعرض حوالي 67 مسجدًا في الأراضي المحتلة بأذربيجان للتدمير الكلي، ورغم المطالب المتكررة من حكومة أذربيجان، رفضت اليونسكو إرسال بعثة لتقصي الحقائق. في المقابل، بمجرد أن أعرب الأرمن عن قلقهم بشأن الكنائس الأرمينية في كاراباخ، طالبت اليونسكو بالدخول الفوري، على الرغم من مشكلة الألغام الأرضية المنتشرة في الأراضي المحررة حديثًا.
إلى جانب المساجد، تم تحطيم العديد من المعالم الأثرية والمنشآت الثقافية وطمسها كليا، إلا أن كل ذلك يبقى خارج نطاق تغطية كريستينا مارانسي، في محاولة للتخلص من التراث الأذربيجاني الغني بالثقافات والأديان المتعددة.
هناك معبدان أرمنيان – كاتدرائية غزانتشوتسوت في شوشا، ودير داديفانك في فانك، اللذان كانا محط الأنظار في وسائل الإعلام الغربية، وهما لا يزالان في حالة جيدة. عانت غزانتشوتسوت من ضربة صاروخية عرضية، لكن حكومة أذربيجان تعهدت بترميمها كما فعلت مع الكنيسة الأرمنية في باكو.
بالمثل، انتشرت مقالة دعائية أخرى على صفحات “نيويورك ريفيو أوف بوكس“، التي رفضت نشر رد من مؤلفي هذا التقرير كذلك. تضمن مقال بعنوان “مأساة أرمينيا في شوشي” بقلم فيكن بربريان على تحريف صارخ لتاريخ شوشا، من شأنه أن يثير التساؤل حول كيفية الموافقة على نشره بعد عملية المراجعة، هذا إن تم مراجعته حقا.
لا شك أن التاريخ من المواضيع الشائكة. تتمتع الأطراف المتحاربة بوجهات نظر معاكسة، وتقدم تفسيرات متناقضة للوقائع؛ بالأخص عندما يتعلق الأمر بالصراعات العرقية. ولكن في حالة معالجة فيكن بربريان للحقائق المعترف بها بين الخبراء الإقليميين، يبدو أن المؤلف قام بتضليل القراء عمدًا.
يعتقد المؤرخون الكبار أن شوشا قد أسست من قبل الحاكم الأذربيجاني التركي باناخ علي خان في سنة 1752 كعاصمة لخانية كاراباخ. وعلى مدى تاريخ المدينة بأكمله حتى الاستيلاء عليها في 8 أيار/ مايو 1992، كانت أصول سكانها ينحدرون بشكل أساسي من الأتراك والأذربيجانيين.
في سنة 1823، بعد الغزو الروسي، بلغت أعداد السكان الأتراك (الذين أطلق عليهم الروس اسم “التتار”) 72 بالمئة. وبحلول سنة 1897، قلّصت سياسة الاستيطان الروسية تلك النسبة إلى 41 بالمئة. كان يجب على بربريان أن يتعامل مع التغييرات الديموغرافية بشكل أكثر إنصافًا، بدلا من الاقتصار بالتركيز على الفترة الممتدة بين 1897 إلى 1920.
حاول أمراء الحرب الأرمن محو التراث الأذري للمدينة
لقد كان الغزو الروسي لجنوب القوقاز، الذي شمل خانية كاراباخ، سببا في تغيير مصير الناس الذين كانوا يعيشون هناك في كنف نوع من السلام لقرون. وبالأخص، حلّت أيام صعبة على الأذر المسلمين، بينما حظي الأرمن المسيحيون بأوضاع أفضل.
حسب الباحث الأمريكي تاديوس سويتوشوفسكي، تمتع الأرمن بدرع حماية روسي مكّنهم من التقدم اجتماعيًا وسياسيًا بوتيرة سريعة، والاستيلاء على مناصب اقتصادية مهمة في المنطقة. ولكن في نهاية الأمر، تمحورت جميع سياسات الإمبراطورية الروسية حول مبدأ فرّق تسد، وكانت كلتا المجموعتان العرقيتان مجرد بيادق في لعبة جيوسياسية أكبر.
يروي تاريخ شوشا قصة مأساوية عن الصراع الدموي بين الطرفين القائم منذ قرن. بمجرد اندلاع العنف بين الأرمن والأذر في سنة 1905، عانى كلا المجتمعين من الهجمات وعمليات النهب. في سنة 1920، واجه الأرمن العنف الذي حرّض عليه النزاع الإقليمي بين الجمهوريات الفتية وأذربيجان وأرمينيا، وكلاهما وقعا في نهاية المطاف تحت نير البلشفية.
مثّل سقوط شوشا في أيار/ مايو 1992 نقطة تحول في التاريخ الحديث للصراع بين أرمينيا وأذربيجان. وقد أدى ذلك إلى التطهير العرقي للسكان الأذر في منطقة كاراباخ التاريخية بأكملها، والتي كانت ولا تزال معترفًا بها دوليًا كجزء من أذربيجان. كتب دي وال عن “نهب مئات الأشخاص للمدينة وحرق أرجائها بعد أن استولت عليها القوات الأرمينية”، ودُمرت معظم المباني التاريخية، فضلا عن المتاحف ومساكن العديد من الموسيقيين الأذر المشهورين مثل عزير حاجبايوف (مؤلف أول أوبرا من الشرق، ليلى والمجنون) والمغني بلبل.
حاول أمراء الحرب الأرمن محو التراث الأذري للمدينة. لعل أبرز مثال على ذلك، “تجديد” مسجد يخاري غوفار آغا من قبل الإيرانيين وإعادة اعتباره تراثًا إيرانيًا. ولكن بالنسبة لمعظم الأرمن الذين يحتلونها، كانت شوشا “مدينة حزينة” كما وصفها رئيس وزراء أرمينيا الحالي نيكول باشينيان مؤخرًا. وقد أعرب القوميون الأرمن عن أسفهم لخسارتهم الأخيرة لمدينة شوشا، وقال باشينيان بمرارة إن شوشا ضاعت قبل 30 سنة لأنه لم يقع إرساء مشاريع استثمارية لتطوير المدينة أو حتى الحفاظ عليها.
تحظى شوشا بمكانة رمزية عظيمة لكل من الأرمن والأذر. وينطبق الشيء ذاته على العاصمة الأرمينية يريفان، التي كانت تضم حوالي نصف سكان أذربيجان في بداية القرن العشرين، ولكنهم طُردوا بالكامل في نهاية المطاف بين 1988-1989. كما أعادت السلطات الأرمينية تصنيف المسجد الأزرق الوحيد الباقي في يريفان على أنه تراث “فارسي”.
ركّز الكاتب فيكين بربريان حصرًا على المآسي التي عاشها الأرمن دون ذكر الأدلة المعروفة للمجازر وعملية طرد الأذر من أرمينيا. وفي مقاله، وُصفت الأحداث في جملة واحدة عن خوجالي – المدينة التي قُضي عليها بالكامل، وسقط فيها 613 ضحية من بينهم نساء وأطفال.
اتضح أن المصالحة هي المستقبل الوحيد الذي ينتظر الأرمن والأذر، ولا مكان للمواد الدعائية في مثل هذه الجهود
كما يقدم الكاتب مزيدًا من المعلومات الخاطئة عن أسباب الحرب الأخيرة بين أرمينيا وأذربيجان، والتي قادها أمراء الحرب الرؤساء روبرت كوتشاريان (1998-2008) وسيرج سركسيان (2008-2018) بالإضافة إلى الديماغوجية الشعبوية التي اعتمدها نيكول باشينيان. وحسب جيرارد ليباريديان، المستشار السابق للرئيس ليفون تير بتروسيان (1991-1998)، فقد تخلى الجانب الأرمني عن التفكير الرصين، بينما ندد المجتمع الدولي بأسره باحتلال الأراضي الأذرية، ولا سيما المقاطعات السبع المحيطة بناغورنو كاراباخ.
إن مزاعم الوحدوية التي يدعيها القوميون الأرمن وروجوا لها في شباط/ فبراير 1988 تسببت في تأجيج الصراع وعمّقت المأساة. والواقع أن “الأدلة” التاريخية الغامضة والمثيرة للجدل إلى حد كبير جلبت البؤس لكل من الأرمن والأذر على حد سواء. ومن المؤسف أن الأصوات القليلة العقلانية بين الشتات الأرمني قد قمعها الخطاب الشوفيني. وأشار الباحث الأرميني أرمان غريغوريان (جامعة ليهاي) إلى أن وسائل الإعلام الأرمنية مسؤولة عن الترويج للأساطير القومية التي أدت إلى الوضع الحالي.
منذ انتهاء الحرب، اتضح أن المصالحة هي المستقبل الوحيد الذي ينتظر الأرمن والأذر، ولا مكان للمواد الدعائية في مثل هذه الجهود. من المؤسف للغاية أن موقع “ذا كونفرسايشن” و”نيويورك ريفيو أوف بوكس” لم يتحققا من الادعاءات الزائفة الواردة في هذه المقالات شديدة التحيز والمثيرة للجدل، التي تتعلق بالتراث الثقافي والتاريخ والصراع بين البلدين بشكل عام، قبل نشرها.
المصدر: مودرن ديبلوماسي