أحد أهم الأخبار التي راجت خلال الأيام الأخيرة كان خبرًا صحافيًا يتحدث عن الاستقبال الحافل من بعض المسؤولين الصينيين والأتراك المقيمين في بكين لقطار بضائع قادمٍ من تركيا مع تغطية رسمية واسعة من البلدين.. لماذا قطار؟ وكيف اخترق هذا القطار الحدود الصينية؟ وما البضائع التي حُمِل بها هذا القطار؟ ولماذا احتفى مسؤولو البلدين بهذا الحدث؟ هذا ما نحاول شرحه في هذه القصة.
الحزام والطريق
في عام 2013 أطلقت جمهورية الصين مشروعًا كونيًا ضخمًا يستهدف إعادة تعريف الجغرافيا السياسية والاقتصادية والثقافية لنصف العالم القديم على الأقل، مُصطلحةً على تسميته “مبادرة الحزام والطريق”.
بالنظر إلى أهم ما ورد في هذا الإعلان الضخم فإن هذه المبادرة تسعى نظريًا إلى “إحياء” الطريق القديم شمالًا والحزام البحري جنوبًا اللذين كانا يربطانها بإفريقيا وآسيا وأوروبا حينما كانت تجارة العالم بسيطة وصادرات الصين معدودة ووسائل النقل محدودة. الحرير والعطور والتواصل عبر القوافل والسفن من وإلى الصين.
بشكل عملي مفصل فإننا نتحدث عن “بنية تحتية” متكاملة تضم طرقًا وموانئ وخطوط طاقة وتكنولوجيا يصل طولها إلى 12 ألف كيلو متر وتمتد من شمال شرق الصين حيث المراكز التجارية والصناعة الرئيسية إلى أوروبا عبر آسيا الوسطى في طريق شبه بري بالكامل ومن نفس نقطة الانطلاق ولكن جنوبًا إلى جنوب إفريقيا والبحر المتوسط.
دبلوماسيًا وبلغةٍ هادئة كعادة الخطاب السياسي لبكين وضعت الصين لنفسها بعض الخطوط العريضة التي ترنو إلى تحقيقها من إطلاق هذه المبادرة وعلى رأسها دعم التكامل الاقتصادي ورفع كفاءة البنى التحتية العابرة للحدود وتقوية سلة العملات الإقليمية وتوطيد العلاقات الثقافية بين الشرق ودول العالم القديم.
الدور التركي
بالتزامن مع الإعلان الصينيِ عن إطلاق مبادرة الحرير والطريق كانت تركيا بالفعل على وشك الانتهاء من مشروع هندسيٍ ضخم يتقاطع مع ويخدم التصورات الصينية عن مسار طريق الحرير من الصين إلى أوروبا عبر الأناضول.
الْمَشروع المعني هنا هو مشروع ربط الشطر الآسيوي والشطر الأوروبي من مدينة إسطنبول ببعضهما البعض عبر سلسلة أنفاق تمر في جزءٍ منها أسفل المانع المائي الذي كان يفصل بين الشطرين: مضيق البسفور.
وفرت حكومة العدالة والتنمية التمويل اللازم للمشروع عبر دعم ياباني وأوروبي
صحيح أن تركيا أطلقت هذا المشروعَ قبل الإعلان الصيني عن مبادرة الطريق والحرير لأغراض تنموية محلية تندرج ضمن أجندة حزب العدالة والتنمية لخدمة المجتمع وتخفيف الزحام عن المدينة التاريخية وحماية البيئة، إلا أن تركيا كانت من أكثر المُرحِبين بتوظيف هذه البنية التحتية الجديدة ضمن الخطة الصينية.
رأت أنقرة في المبادرة الحضارية تقاطعًا مع أهدافها الإستراتيجية في إقامة علاقات مستقلة مع الأقطاب الدولية الكبرى شرقًا وغربًا وفرصة لتعزيز طموحها في تحقيق أكبر استفادة من “الجغرافيا السياسية/الاقتصادية” التي تحيط بها وحلقة ممكنة في سلسلة خطواتها للتحرر من هيمنة الدولار الأمريكي خاصةً أن المشروع الصيني جغرافيا يمر بنطاقها الحيوي في طريقه شمالًا وحزامه جنوبًا فلم لا؟
تاريخيًا كان أول من طرح فكرة ربط شطري إسطنبول عبر أنفاق تحت مضيق البسفور السلطان العثماني عبد المجيد الأول في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لكن السلطان عبد الحميد الثاني تفوق عليه في محاولة إخراج الفكرة إلى النور عبر جلب المهندسين فعلًا، لكن المشروع واجه حينها صعوباتٍ فنية مع طبيعة العصر.
وفَرت حكومة العدالة والتنمية التمويلَ اللازم للمشروع عبر دعم ياباني وأوروبي وأعدت المخططات الهندسية بشكل يُجنِب المشروع خطر الزلازل المعروفة بها تركيا وأظهرت إرادةً سياسية في وجه الانتقادات الموجهة للمشروع من جانب المعارضة بخصوص الجدوى المنتظرة والمخاطر المحتملة.
وفي غضون أقل من عقد بعد إطلاق المشروع عام 2004 كانت إسطنبول تنعم بمنظومة أنفاق تربط شطريها الأوروبي والآسيوي وتمر جزئيًا تحت مضيق البسفور لعبور السيارات والقطارات بأطوال تصل إلى 14 كيلومترًا وقدرة استيعابية تتجاوز 100 ألف سيارة وراكب يومًيا ضمن خطة أكبر للاستفادة من المنطقة عبر بناء أكبر مطار في العالم وجسر فوق المضيق مع الأخذ في الاعتبار تأجيل المشروع عدة أعوام بسبب الكشوف الأثرية التي تعود إلى نحو ثمانية آلاف عام مضت تقريبًا.
القطار الصيني
العلاقة بين شبكة الأنفاق التي أعدتها الحكومة التركية والمبادرة الصينية العملاقة ليست تحليلية فقط وإنما هي جزء من اتفاق معلن بين البلدين على توظيفها بالتوازي مع الاستخدامات المحلية لهذا الغرض الإقليمي، ففي عام 2013 قال وزير المواصلات التركي بن علي يلدرم نصًا عن هذه الشبكة: “إنها ليست مشروع نقل فقط ولا تهدف إلى تخفيف الازدحام المروري في إسطنبول فحسب؛ بل هي حلقة جديدة في طريق الحرير الذي تلتقي حوله الحضارات”.
وصول القطار من شيان الصينية إلى السوق الأوروبية مرورًا بالأناضول في تركيا لم يكن ليتم لولا أنظمة المواصلات الحديثة السريعة
بعد ستة أعوام من هذا التصريح في ال7 من نوفمبر/تشرين الثاني 2019 أي قبل نحو عام من الآن صار الحلم واقعًا حيث انطلق أول قطار بضائع صيني ترانزيت تابع لشركة “China Railway Express” مارًا بأربع دول من وسط آسيا إلى الأراضي التركية.
بلغ طول هذا القطار نحو 820 مترًا مقسمًا إلى 40 عربة محملة بالبضائع مقتحمًا الحدود التركية اليونانية عند أدرنة شمال غرب تركيا وصولًا إلى العاصمة التشيكية براغ قاطعًا مسافة إجمالية لا تقل عن 11 ألف كيلومتر.
وبحسب تصريح حديث أدلى به أحمد سدات إيبار رئيس قسم التمويل بكلية العلوم الاقتصادية والإدارية بجامعة آيدن فإن “وصول القطار من شيان الصينية إلى السوق الأوروبية مرورًا بالأناضول في تركيا لم يكن ليتم لولا أنظمة المواصلات الحديثة السريعة التي تم إنشاؤها في إطار مشروع الحزام والطريق الذي أطلقته الصين بهدف إحياء طريق الحرير”.
القطار التركي
ثلاثة عشر شهرًا فقط فصلت بين رحلة الذهاب الصينية وقطار العودة التركي، ففي تمام الثانية ظهرًا بتوقيت إسطنبول انطلق قطار البضائع التركي في رحلةٍ استمرت نحو أسبوعين إلى مدينة “شيآن” الصينية كأول قطار في هذا الاتجاه بين البلدين.
انطلق القطار من ولاية تكير داغ مارًا بإسطنبول حيث عبر نفق مرمراي وولاية قوجالي وأنقرة وسيواس وأرضروم وقيصري إلى قارص شمال شرق البلاد ومن هناك إلى محطة آخالكالاكي جنوب غرب جورجيا ثم إلى طريق النقل الدولي العابر لبحر قزوين في أذربيجان وميناء أكتاو في كازاخستان وصولًا إلى الصين في رحلة تجاوزت 8500 كيلومتر.
رقميًا كان نصيب البلدان الخمس من المسافة التي قطعها القطار كالآتي: 2323 كيلومترًا داخل الأراضي التركية وأكثر من 200 كيلومتر بقليل في جورجيا ونحو 430 كيلومترًا في أذربيجان ومثل هذه المسافة تقريبًا في بحر قزوين فيما كانت المسافة الكبرى داخل الأراضي الكازاخية بنحو 3200 كيلومتر ومنها إلى قلب الحدود الصينية بـ2200 كيلومتر.
القطار الذي قطع قارتين هما أوروبا وآسيا ومر ببحرين هما مرمرة وقزوين وبلغ طوله 770 مترًا وصل إلى شيآن الصينية مُحمَلا بـ42 مقصورة تضم شحنة ثلاجات منزلية مصنوعة في تركيا تناهز 1400 ثلاجة بقيمة تصل إلى 1.6 مليون دولار أمريكي تقريبا.
وبحسب مدير شركة “BSH” المصنعة للثلاجات سون منغ فإن “قطار الشحن التركي يتميز عن الشحن البحري التقليدي في أنه يستغرق وقتًا أقل في قطع المسافة ويُسهِل كثيرًا من تجارة البضائع من خلال طريق سريع وكفء ومستقر خاصة في الوقت الذي وصلت فيه أعداد القطارات إلى شيآن إلى 3400 رحلة خلال الأحد عشر شهرًا الأولى من العام الحاليّ.
وفي نفس السِياق أيضًا احتفى السفير التركي في الصين عبد القادر أمين أونين بإنجاز بلاده مشيرًا إلى عودة العلاقات التاريخية بين البلدين ودور هذا النوع من الشحن في الحفاظ على سلاسل الإمداد الدولية وأهمية منطقة “أوراسيا” بالنسبة إلى طريق الحرير.
فرص وتحديات
سيحقق مشروع القطار العابر للحدود مكاسب جمة للبلدين الصين وتركيا، فمن ناحية -وعلى حد قول آيبار- سيزيد القوة التنافسية لأنقرة وسيسهل عليها الوصول إلى سوق الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأكبر، والأهم بالنسبة لأنقرة أنه سيقربها من هدفها بأن تصبح أحد أقوى عشرة اقتصادات في العالم، كما قال عادل أوغلو وزير المواصلات التركي.
ومن جهة الصين وببساطةٍ شديدة كما قالت المتحدثة باسم الخارجية هوا تشونينغ عقب متابعة التطورات الخاصة بالقطار التركي الأول إلى بكين فإنه “سيسرع عملية الانتعاش الاقتصادي ويعزز روابط النقل والتجارة والثقافة” وهو ما يعني أن مبادرة الحزام والطريق في مسارها الصحيح.
لكن في نفس الوقت من المتوقع أن يواجه البلدان تحديات كثيرة ينبغي تجاوزها عبر وسائل الحل المختلفة إذا ما أرادا المضي قدمًا في خططهما التنموية، فالمبادرة الصينية بشكلها الحاليّ من المؤكد أنها ستهدد مسارات التجارة العالمية الراسخة بشكلها التقليدي.
هناك مخاوف غربية أمريكية وأوروبية من السلوك الاستحواذي الصيني
في هذا الصدد يقول دوندار دميروز رئيس قسم الاقتصاد الدولي والتنمية في كلية الاقتصاد بجامعة إسطنبول: “منذ أربعة قرون استقرت التجارة العالمية على الاعتماد على البحار فزادت أهمية دول مثل إنجلترا وإسبانيا وهولندا، لكن الآن صارت تركيا والقوقاز تشكلان أهم نقطتين في هذا الخط الذي سيتفوق على خطوط النقل البحري وسيزيد من الأهمية الإستراتيجية لطريق الحرير”.
هذا التحول بالتبعية بحسب دميروز “سيزيد أيضًا من أهمية وثراء المدن الواقعة على المشروع ويقلل في المقابل من أهمية المدن التقليدية الواقعة على المحيطات بالنسبة لحركة التجارة ثم أهميتها كمراكز مالية، لكن ذلك سيستغرق عقودًا ولن يحدث في يوم وليلة” وهو ما يعني أن عددًا من الدول الكبرى سترى في هذا المشروع تهديدًا له.
لا يتعلق الأمر بمساهمة المبادرة الصينية في تغيير بنية التجارة العالمية وحسب بل في الأصل هناك مخاوف غربية أمريكية وأوروبية من السلوك الاستحواذي الصيني، فالصين كما يرصد خالد الغرابلي “تُعد ثاني أكبر اقتصاد في العالم وأكبر كتلة بشرية وقد أقرضت الدول المندرجة في المشروع حتى الآن ما يصل إلى ربع تريليون دولار وأنفقت نحو ثمانين مليار دولار وتستهدف الاستثمار في قطاعات حساسة خارجيًا مثل الطاقة النووية والطائرات وتكنولوجيا الجيل الخامس”، وهو ما قد يجعل بعض الدول المتفرقة أكثر رغبة في الاتحاد لا من أجل الاتحاد ولكن من أجل كبح طموحها.
أما تركيا فمن ضمن التحديات التي ينبغي لها إدارتها ستكون كما قال دميروز الحفاظ على الأمن الاقتصادي في منطقة القوقاز سواء على المستوى الرسمي المباشر مع أرمينيا أم الإقليمي غير المباشر المتقاطع مع الصين مثل النزاع في كشمير أو تطهير المنطقة من المليشيات التي قد تستهدف مصالحها وقد بادرت تركيا في سبيل ذلك بدعوة تهدئة إلى أرمينيا برفقة أذربيجان لحماية المصالح الاقتصادية في المنطقة كما يشير دميروز.