لم يكن يتخيل أسامة، الطالب بكلية الآثار جامعة القاهرة أن هذا المكان القابع وسط مثلث العشوائية، والمحاط بمظاهر الفوضى من جوانبه الثلاث، تراث تاريخي يعود إلى ما يقرب من سبعمئة عام، فمحال أن يكون هذا هو مصير تلك التحفة الفنية التي تأسر الناظرين.
وبعيون تعلوها لمعة الحيرة وصوت تكسوه نبرات التعجب تساءل أسامة في أثناء زيارة ميدانية لطلاب الكلية ضمن منهج الزيارات الخاص بقسم الآثار الإسلامية: ما هذا المكان الرائع؟ إنه مسجد مصطفى جوربجي ميرزا، هذا البنيان الذي يسبق في نشأته ظهور أمريكا وبعض العواصم الأوروبية، فهو واحد من التحف المعمارية الخالدة التي توثق إبداعات التراث العثماني في مصر، وتعكس صورة شبه كاملة عن حجم الإبداع الذي كان عليه المصريون قبل مئات السنين مقارنة بما باتوا عليه اليوم.
في قلب شارع ميرزا المتفرع من شارع عشة النحلة بوكالة البلح بحي بولاق أبو العلا في القاهرة يقع هذا المسجد الأثري الذي بناه الأمير العثماني مصطفى جوربجي ميرزا، ويعود تاريخ إنشائه أول مرة لعام 1332م – 737هـ ، الذي تحولت جدرانه مع مرور الوقت إلى شماعات لتعليق الملابس والبضائع المعروضة للبيع.
معظم المارة في هذا الشارع لا يعرفون الكثير عن هذا الكيان الأثري غير أن مظهره الرائع وتصميمه الذي يعيد الروح إلى عبق التاريخ، يلفت أنظار الجميع، ما يدفعهم للسؤال عن اسمه وتاريخ هذا الأثر، إلا أن معظم من يعلقون بضاعتهم على جدرانه لا يعرفون حتى اسمه رغم ما يحتله من مكانة عظيمة في قائمة الآثار الإسلامية الشهيرة في القاهرة.. فما قصة هذا المسجد العثماني؟
700 عام من الصمود
تعددت الروايات التاريخية بشأن تاريخ نشأة هذا المسجد على وجه التحديد إلا أن أكثرها دقة يذهب إلى أنه بني على أكثر من مرحلة، الأولى أيام الناصر محمد بن قلاوون على يد عز الدين الخطيري وكان ذلك عام 1332م لكن سرعان ما تهدمت جدرانه بسبب فيضان النيل الذي غمر المسجد عن آخره.
ظل المسجد على وضعيته تلك إلى أن افتتحه محافظ القاهرة ووزير الآثار، في يونيو 2013 بعد إجراء أعمال تطوير شملت المسجد وملحقاته
وبحلول عام 1403 وصل المسجد إلى مرحلة من الإهمال غير مسبوقة، حيث سقط في الرمال التي غطته حتى اقتربت نوافذه من الأرض، ليأتي الشيخ رمضان البولاقي بإعادة بنائه مرة أخرى ليقيم فيه الشعائر الدينية مجددًا ويفتحه أمام المصلين والرواد.
ثم جاء الأمير العثماني مصطفى ميرزا عام 1698 ليعيد بناءه مجددًا بعدما نهش الإهمال في عظم المسجد الذي تحول إلى قبلة مئات المسلمين الذين كانوا يرون في هذا الكيان قبلة العلم والعلماء، خاصة أنه كان يضم كوكبة من كبار محفظي القرآن وعلوم الدين، فيما تم تزويده بمكتبة هائلة تضم أمهات الكتب والمؤلفات في مختلف المجالات.
وظل المسجد على وضعيته تلك إلى أن افتتحه محافظ القاهرة ووزير الآثار، في يونيو 2013 بعد إجراء أعمال تطوير شملت المسجد وملحقاته، استمرت قرابة 4 سنوات كاملة، وبلغت كلفتها 27 مليون و250 ألف جنيه، ليدخل المسجد حيز الأضواء مرة أخرى بعد تجاهل دام طويلًا.
تحفة معمارية
في مدخل المسجد هناك لوحة نحاسية يعلوها التراب مكتوب عليها كلمة “أثر” وهي تعني أن هذا المسجد مسجل في قائمة المناطق الأثرية في مصر ويحمل رقم (343) في سلسلة آثار غرب القاهرة، أي أنه تابع لوزارة الآثار المعنية بعناية تلك المناطق من الإهمال وحمايتها من الاندثار.
المسجد من الأنواع المعلقة، أي تلك التي تبنى في منطقة مرتفعة ويتم الدخول لها عبر سلالم أسمنية محاطة بالرخام المغطى بالأتربة، ويتخذ شكلًا هندسيًا على هيئة “مستطيل” يتوسطه صحن كبير مبني من الرخام المزخرش برسوم هندسية دقيقة للغاية، تكاد لا ترى إلا لمن يقترب منها ويلامسها.
ويحاط صحن المسجن بالعديد من الأروقة من كل الجهات، تعكس فيما بينها لوحة فنية رائعة، ورغم ما بها من آثار عوامل التعرية وبعض الخدوش البسيطة، لا تزال تحافظ على رونقها وتحديها لآلة الزمن السريعة وتجاعيده الزمنية التي إن أثرت على المظهر الخارجي لكن تبقى الأصالة عبيرًا يفوح من بين ثنايا جدرانه.
وأكثر ما يميز المسجد تلك المئذنة الشاهقة المبنية على الطراز العثماني الأصيل، وفي أسفلها هناك رواق القبة، وهو الأكبر بين أروقة المسجد وأعمقها على الإطلاق، إذ يتوسطه محراب مجوف تمت زخرفته بالصدف والرخام والفسيفساء، التي أعطته رونقًا قلما تجده إلا في المساجد المبنية على الطراز العثماني.
وعلى يمين القبة هناك منبر خشبي مصنوع من أجود أنواع الأخشاب، ورغم إدخال بعض التعديلات والترميمات على بعض شقوقه التي تأثرت بفعل الإهمال، فإن المنبر لا يزال بحالته القديمة، مزخرف بالخرط على جنباته وفواصله بأيات من القرآن الكريم.
نتيجة لعوامل التعرية على مدار مئات السنين فقد المسجد العديد من البلاطات الخزفية والقطع الرخامية التي كانت تزين جوانبه
وتشير بعض المصادر الأثرية إلى أن القبة والقبلة والمنبر كلها تم كسوتها ببلاط الخزف الذي صنع خصيصًا في مصانع إزنك بالأناضول بتركيا، هذا بجانب قطع البلاط العثماني الذي يغلف معظم جدران المسجد الذي يأخذ رواده إلى رحلة عابرة للزمن من خلال أمتار قليلة داخل الصحن والأروقة.
ونتيجة لعوامل التعرية على مدار مئات السنين فقد المسجد العديد من البلاطات الخزفية والقطع الرخامية التي كانت تزين جوانبه، هذا بجانب حاجة جدرانه للترميم بعدما نخر الإهمال في جسدها، وهو ما دفع وزارة الآثار لإجراء بعض الترميمات بداخله استمرت 4 سنوات حتى تم افتتاحه بعد تلك التعديلات عام 2013.
إهمال مع سبق الإصرار
“من العار أن تظل هذه التحفة الأثرية وسط هذا الكم من العشوائية”.. هكذا علق الحاج أحمد العمروسي، صاحب أقدم محل صناعة الأواني النحاسية في بولاق أبو العلا، والساكن على مقربة من المسجد، لافتًا إلى أنه رغم تجديد المسجد قبل 7 سنوات، فإن سرطان الإهمال أصابه مرة أخرى.
وأضاف العمروسي (70 عامًا) في حديثه لـ”نون بوست” أن جدران المسجد تحولت إلى أماكن لتعليق الملابس الجاهزة المبيعة على قارعة الطريق الرئيسي والشوارع الجانبية، وفي بعض الأيام حين يشتد الازدحام يتوارى المسجد تمامًا فلا تكاد تراه من ستائر البضائع التي حجبت الشمس عن هذا الكيان الأثري العظيم.
وألمح إلى أن الجهاز المحلي (البلدية) رغم مروره شبه اليومي لإزالة تلك الملابس من على جدران المسجد لكن سرعان ما تعود مرة أخرى بعد انتهاء مروره الذي بات معروف الوقت بالنسبة للباعة فيلملمون بضاعتهم قبل مجيئه ثم يعيدون تعليقها مرة أخرى.
الأمر لم يتوقف على الملابس فقط، بل إن المسجد من بعض جدرانه تحول إلى أماكن لإلقاء القمامة وبيوت لقضاء الحاجة لكثير من العمال والمارة، وهو ما أثر بشكل واضح على أسفل جدران المكان الذي بات مهددًا بسقوط لبناته الأثرية التي رُممت مؤخرًا.
وهناك تهرب واضح من تحمل مسؤولية ما وصل إليه هذا الإهمال لهذا الأثر التاريخي من الأجهزة المختصة، فالمنطقة الغربية للقاهرة بصفتها الجهة الإدارية التنفيذية الواقع المسجد تحت إدارتها تشير إلى أن دورها يقتصر على الاهتمام بالمناطق المحيطة بهذا الأثر، أما البنيان ذاته فهو من سلطة وزارة الآثار.
العديد من مفتشي الآثار والمهتمين بالتاريخ الإسلامي ناشدوا بضرورة التنسيق بين محافظة القاهرة ووزارة السياحة والآثار بالتنسيق والتعاون من أجل رفع المخلفات حول المسجد وإزالة الملابس المعلقة على جدرانه وأن يحاط بسياج حديدي لحمايته وأن يتم فتحه مجددًا أمام الزوار حمايةً له وتعظيمًا وتسويقًا لهذا الأثر الذي يسبق بناءه الكثير من الحضارات التي يحتفي بها العالم اليوم.
توثيق الآثار العثمانية
تعد الحقبة العثمانية من أكثر الحقب التاريخية ثراءً في حجم تركتها الأثرية المصرية، حيث تميزت تلك الفترة بالعديد من المباني التراثية التي جسدت مستوى التطور المعماري والهندسي الذي كانت تتمتع به مصر في ظل الحكم العثماني، وهي البنايات التي ظلت لمئات السنين شاهدة على هذه الفترة المهمة في مسيرة المحروسة.
يعد هذا المشروع اللبنة الأولى في بناء قاعدة بيانات ومعلومات موثقة للآثار العثمانية في مصر
وإيمانًا بقيمة ما خلفته تلك الحقبة من آثار وتراث بدأت وزارة الآثار المصرية في وضع حجر الأساس لمشروع كبير يهدف إلى حماية البلاطات الخزفية الإسلامية التي ترجع للعهد العثماني، وذلك بحصرها وتصنيفها خاصة بعد فقدان العديد منها، سواء عن طريق الإهمال أم السرقة.
وفي بيان له في مايو/آيار 2018 استعرض مدير عام مشروع القاهرة التاريخية، محمد عبد العزيز، أبرز ملامح هذا المشروع الذي كشف أنه يهدف إلى “تسجيل وتوثيق البلاطات الخزفية على العمائر العثمانية، التي تعد أحد أهم سمات الآثار العثمانية في مصر”.
وأوضح عبد العزيز أن عدم وجود توثيق علمي لتلك الزخارف يعرضها للضياع والتلف والسرقة ما يجعل من استردادها مرة أخرى عملية شبه مستحيلة، لافتًا إلى “فقدان أكثر من 50% من البلاطات الخزفية لتكية الجلشاني، التي كانت تكسو الواجهة الشمالية الشرقية للقبة الضريحية الملحقة بالتكية”.
المرحلة الأولى من هذا المشروع المتوقع تعميمه على بقية أنحاء الجمهورية ينحصر في توثيق تلك الآثار في أربع مباني أثرية في العاصمة المصرية، وهي الواقعة في مناطق الدرب الأحمر والسيدة عائشة، وأبرزها: مسجد آق سنقر بشارع باب الوزير (1348م) والقبة الملحقة بتكية الجلشاني بشارع أحمد ماهر (1524م) ومسجد “آلتي برمق بشارع الغندور بسوق السلاح (1711 م) مرحبا وقبة الشيخ سعود بشارع سوق السلاح (1534م).
ويعد هذا المشروع اللبنة الأولى في بناء قاعدة بيانات ومعلومات موثقة للآثار العثمانية في مصر، وهو ما يمكن أن يستفيد به باحثو وطلاب كليات الآثار والسياحة والتاريخ الإسلامي، هذا بخلاف كونه دليلًا توثيقيًا لهذه الحقبة التاريخية المهمة التي لا يمكن تجاهلها أو إنكارها مهما تعددت الأسباب والمبررات.