شهد السودان خلال 2020 حزمة من الأحداث على المستويات كافة أبقت على سخونة المشهد حتى الرمق الأخير، ورغم أنه ليس الأكثر زخمًا، فإنه ربما يكون الأعمق تأثيرًا نظرًا لما لبعض الوقائع التي حدثت خلال فصوله من تأثيرات كبيرة قد تستمر لسنوات قادمة وربما عقود.
دخلت البلاد خلال الأشهر الأثني عشر الماضية أنفاقًا عدة، تقلبت خلالها ما بين الصعود والهبوط، النجاحات والهزائم، الانفتاح والتقوقع، لكن المستنقع الأبرز الذي سقطت فيه كان الانخراط في موجات التطبيع مع دولة الاحتلال، متخلية بذلك عن ركائزها القومية ومبادئها القديمة “اللاءات الثلاث” مقابل وعود بالحصول على بعض المكاسب.
وبينما يلملم العام الحاليّ أوراقه لا تزال الساحة السودانية تعاني من درجات الحرارة العالية وفق الترمومتر العسكري والسياسي على الشريط الحدودي مع الجار الإثيوبي، فلأول مرة منذ استقلال البلاد 1956 تتصدى القوات السودانية لاعتداءات المليشيات الإثيوبية في منطقة القفشة، وهو التطور الذي يحمل الكثير من الدلالات.
في هذه الإطلالة نلقي الضوء على أبرز تلك الأحداث التي مرت بها الخرطوم وكان لها الدور الفاعل في إعادة رسم الخريطة السياسية والأمنية للبلاد، سواء على المستوى الداخلي أم الخارجي، وتداعيات تلك الأحداث على تماسك الجبهة الداخلية وردود الفعل بشأنها.
اضطرابات داخلية
تعرض السودان خلال 2020 لموجات من الاضطرابات الداخلية كان لها تأثيرها على الوضع الأمني والسياسي أبرزها موجة التمرد التي قادها عناصر وضباط تابعون لجهاز المخابرات، وكان ذلك في منتصف يناير/كانون الثاني، الأمر الذي دفع إلى نشوب مواجهات بينها وبين قوات الجيش أسفرت عن مقتل وإصابة عدد من الجنود، فيما تم وأد التمرد والسيطرة على الأحداث.
وفي مارس/آذار تعرض رئيس الحكومة الانتقالية، عبد الله حمدوك، لمحاولة اغتيال عبر زرع عبوة ناسفة استهدفت موكبه خلال توجهه لمقر رئاسة الوزراء، غير أن الانفجار لم يسفر عن سقوط أي ضحايا، وفق ما أعلنته رسميًا السلطات السودانية.
عدم اقتناع بعض التيارات السياسية بأداء السلطة الانتقالية في البلاد كان دافعًا لبعض الأحزاب باتخاذ إجراءات اعتراضية على تلك الممارسات التي يرونها لا تتناسب وتطلعات الشعب وشعارات الثورة، حيث قرر حزب الأمة (أحد الأحزاب المنضوية تحت لواء قوى الحرية والتغيير والائتلاف الحاكم) تجميد أنشطته اعتراضًا على ما وصفه بـ”العيوب” التي ظهرت في أداء مهام الحكم الانتقالي.
اتفاق سلام مع المسلحين
النقطة المضيئة الأكثر إشراقة في هذا العام هذا الاتفاق الذي تم توقيعه بين الحكومة والحركات المسلحة في جوبا في نهاية أغسطس/آب، بحضور رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ورئيس الوزراء عبد الله حمدوك، ورئيس جنوب السودان سلفاكير ميارديت.
الاتفاق أنهى سنوات طويلة من النزاع بين الطرفين كان له تأثيره السلبي على خريطة الاستقرار في البلاد، سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، وهي الخطوة التي لاقت ترحيبًا كبيرًا من كل الأطراف في الداخل والخارج، وهو ما يحسب لحكومة حمدوك كون هذا الملف كان أحد الوعود التي قطعها على نفسه حين تولى السلطة.
الحدث الأبرز الذي شهده السودان خلال هذا العام كان السقوط في بئر التطبيع، وتعود إرهاصات هذا السقوط إلى فبراير/شباط حين التقى رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان، رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، بأوغندا
غير أن هذا الإنجاز كاد أن يتسبب في أزمة سياسية بشأن الاستجابة لبنود هذا الاتفاق وتأثيره على مسار إعادة تشكيل هياكل السلطة الانتقالية في البلاد، إذ تم إضافة مكون ثالث للسلطة بعد أن كانا مكونين فقط والوثيقة الدستورية المعمول بها منذ الإطاحة بنظام عمر البشير في أبريل/نيسان 2019.
الوثيقة كانت تقول أن هناك مكونين فقط: أحدهما عسكري (الجيش السوداني) والآخر مدني (قوى الحرية والتغيير)، لكن اليوم دخل طرف جديد في هذا التشكيل لتصبح “الجبهة الثورية” الضلع الثالث لمثلث الحكم في السودان، وهو ما يعني إعادة هيكلة للمجالس التشريعية والتنفيذية، (الاتفاق يقضي بتمثيل الجبهة بثلاثة أعضاء داخل المجلس السيادي، بجانب منحها 5 حقائب وزارية في الحكومة، إضافة إلى 25% من أعضاء المجلس التشريعي (البرلمان)، أي 75 مقعدًا من عدد المقاعد الكلي البالغ 300 مقعد).
التطبيع مع “إسرائيل”
الحدث الأبرز الذي شهده السودان خلال هذا العام كان السقوط في بئر التطبيع، وتعود إرهاصات هذا السقوط إلى فبراير/شباط حين التقى رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان، رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، بأوغندا، حيث اتفقا على تعزيز التعاون بين البلدين.
ورغم الانتقاد الشعبي الذي قوبل به هذا اللقاء الذي كشفته الحكومة الإسرائيلية، فإن البرهان أعاد فتح هذا الملف مرة أخرى في سبتمبر/أيلول حين التقى مسؤولين أمريكيين في العاصمة الإماراتية أبو ظبي، محادثات تضمنت عدة ملفات من ضمنها مستقبل السلام العربي مع الاحتلال الإسرائيلي، عقب التطبيع الرسمي بين أبو ظبي وتل أبيب.
وفي أكتوبر/تشرين الأول أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن الخرطوم وتل أبيب باتا على بعد خطوات قليلة من إبرام اتفاق تطبيع على غرار الإمارات والبحرين، وكان المقابل وفق ما أعلنه ترامب حزمة من المحفزات على رأسها رفع اسم البلاد من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
إعلان تلك الخطوة أحدث انقسامًا بين التيارات والأحزاب السياسية والمدنية، فريق يرفض هذه الانتكاسة ويتزعمه 5 أحزاب رئيسية داخل تحالف “الحرية والتغيير” على رأسها حزب “الأمة القومي” بجانب الأحزاب اليسارية الأخرى فضلًا عن الأحزاب الإسلامية، في مقابل بعض الأحزاب الأخرى المؤيدة لهذا التحرك من باب “مصالح السودان أولًا”.
إنهاء العزلة الدولية
أغرت واشنطن الخرطوم بمكاسب عدة نظير انخراطها في موجة التطبيع، حيث تعهدت إدارة ترامب برفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وهو ما حدث بالفعل في 14 من ديسمبر/كانون الأول ليسدل الستار على 27 عامًا من العقوبات المختلفة التي فرضت على البلد العربي وما تبعها من أشكال متنوعة من المقاطعة الاقتصادية الدولية.
علاوة على ذلك عرض ترامب دفع 700 مليون دولار للمتضررين جراء هجمات 11 سبتمبر لدفعهم إلى التخلي عن دعاواهم القضائية ضد السودان، غير أن محامي المتضررين طالب بتعويضات تبلغ قيمتها 4 مليارات دولار، وهو ما رفضه الجمهوريون داخل مجلس الشيوخ.
ونقلت القناة في تقرير نشرته يوم الجمعة عن مصدرين مطلعين على المفاوضات بشأن الموضوع تأكيدهما أن هذا العرض جاء في محاولة يائسة من البيت الأبيض لإنقاذ الاتفاق المبرم في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي مع السودان، لكن محاميي متضرري 11 سبتمبر في المقابل طالبوا دفع تعويضات بقيمة أربعة مليارات دولار، أي مبلغ هائل رفضته إدارة ترامب والجمهوريون في مجلس الشيوخ.
من أكثر التظاهرات التي شهدتها البلاد تظاهرات الذكرى الثانية لانطلاق الثورة السودانية، في 19 من ديسمبر/كانون الأول، حيث خرج الآلاف من السودانيين في فعاليات متفرقة في العاصمة وبعض المدن الرئيسية يطالبون بالالتزام بالمسار الثوري
يسابق الرئيس الأمريكي الزمن لإبرام الاتفاق السوداني الإسرائيلي لتحقيق انتصار دبلوماسي يحسب له في هذا الملف الذي لم ينجح أي رئيس أمريكي سابق في تحقيق ما حققه ترامب، ففي عام واحد فقط انضمت 4 دول عربية لقاطرة التطبيع (الإمارات والبحرين والمغرب والسودان) في الوقت الذي لم تنجح “إسرائيل” طيلة أكثر من 60 عامًا في الحصول إلا على اتفاقيتي تطبيع فقط مع مصر والأردن.
وفي 22 من ديسمبر/كانون الأول الحاليّ أقر الكونغرس الأمريكي قانونًا يمنح السودان حصانة من أيّ ملاحقة قضائية جديدة في الولايات المتحدة تتعلق بهجمات سابقة، الأمر الذي يحمل معه شهادة وفاة رسمية للعزلة الدولية التي عانت البلاد منها لسنوات طويلة، كان لها تأثيرها السلبي على الاقتصاد والحالة المعيشية للبلاد.
احتجاجات تصحيح المسار
لم يخل 2020 من التظاهرات الاحتجاجية التي قام بها قطاع ليس بالقليل من الشعب السوداني اعتراضًا على استمرار تردي الأوضاع المعيشية على وجه التحديد، هذا بجانب المطالب السياسية الأخرى التي تندرج تحت شعار “احتجاجات تصحيح المسار”.
ومن أكثر التظاهرات التي شهدتها البلاد تظاهرات الذكرى الثانية لانطلاق الثورة السودانية، في 19 من ديسمبر/كانون الأول، حيث خرج آلاف السودانيين في فعاليات متفرقة في العاصمة وبعض المدن الرئيسية يطالبون بالالتزام بالمسار الثوري والعودة إلى المبادئ التي تم الاتفاق عليها إبان الفعاليات الثورية قبل عامين.
التظاهرات هذا العام كان لها خصوصية مميزة، كونها تأتي في وقت يهرول فيه المكون العسكري لإحكام قبضته على الحكم، مهمشًا المكون المدني وهو المطلب الرئيسي للثورة، إقامة نظام حكم مدني، السيناريو الذي أخاف السودانيين من العودة بعقارب الساعة للوراء مرة أخرى.
هذا بجانب الفشل الواضح لسلطات الحكم في تلبية الحد الأدنى من أهداف الثورة، إذ تسير الأوضاع المعيشية من سيئ إلى أسوأ، وتزداد معدلات البطالة ونسب التضخم وتقفز أرقام الفقر بصورة كبيرة، إضافة إلى زيادة القيود المفروضة على حريات التعبير والممارسة السياسية.
التوتر الحدودي مع إثيوبيا
من الأحداث الاستثنائية التي شهدها السودان هذا العام التصدي لاعتداءات المليشيات الإثيوبية على الحدود الشرقية، وذلك بعد أكثر من 60 عامًا من الصمت والتغاضي عن تلك الانتهاكات التي أسقطت عشرات الضحايا في صفوف السودانيين ما بين عسكريين ومدنيين.
التطورات العسكرية التي تشهدها الحدود السودانية الإثيوبية خلال الأيام الأخيرة ورد الفعل القوي من الجانب السوداني على الاعتداءات التي تعرضت لها بعض الوحدات العسكرية في منطقة الفقشة الحدودية في 28 من مايو/أيار الماضي، والنجاحات التي حققها ميدانيًا، تشير إلى أن هناك نقلةً كبيرةً في الخطاب السوداني.
وفي قراءة سياسية لما يدور في منطقة القفشة وولاية القضارف الحدودية الشرقية يلاحظ أن هذا التحرك الحازم من الجيش السوداني، والدعم الواضح من الحكومة وكل ألوان الطيف السياسي الداخلي، كان أحد مسبباته إنهاء العزلة الدولية التي كانت تعاني منها البلاد ورفع اسمها من قوائم الإرهاب، وما لمثل هذه التطورات من تأثير إيجابي على القرار السوداني، سياسيًا كان أو عسكريًا.
يعد هذا العام الاستثنائي أحد الأعوام المؤثرة وبشكل كبير في المشهد السوداني ومن المتوقع أن يمتد تأثيره لسنوات أخرى قادمة
كما شهد 2020 حزمة أحداث أخرى كان لها تأثيرها الكبير، منها استعادة الخرطوم ثقلها في مسار مفاوضات سد النهضة، حيث بعثت برسالة إلى إلى مجلس الأمن في بداية حزيران/ يونيو الماضي، تشرح موقف الخرطوم من التطورات المتعلقة بمفاوضات السد، محذرة من مغبة أي إجراءات أحادية تؤثر على المسار برمته.
كذلك الكارثة البيئية التي تعرضت لها ولاية الأزرق السودانية في أعقاب انهيار مفاجئ لأحد السدود بها في نهاية يوليو/تموز، وهو الانهيار الذي تسبب في سقوط 102 ضحية بين قتيل ومصاب، فيما تم تدمير أكثر من 600 منزل وتشريد الآلاف من السودانيين.
وفي المحصلة يعد هذا العام الاستثنائي أحد الأعوام المؤثرة وبشكل كبير في المشهد السوداني ومن المتوقع أن يمتد تأثيره لسنوات أخرى قادمة، لاسيما وهو العام الذي انتقلت فيه الخرطوم من عاصمة اللاءات الثلاث عام 1967 إلى رقم في قائمة الدول المنبطحة امام دولة الاحتلال في 2020، وذلك نظير الحصول على مكاسب لا تزال في طور الوعود.