لدى منطقة المتوسط دور أساسي في السياسة الدولية وعجلة الاقتصاد العالمي، بيد أن هذه المكانة الحيوية زادت من تعقيدات الحالة الأمنية التي تتعرض لها المنطقة، ولعل هذا ما يجعل العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والبلدان المتاخمة له تبدو مختلة وغير متكافئة، أي عندما يعول الاتحاد المغاربي على الاستثمار والاقتصاد يتجه الجانب الأوروبي لمنح الأسبقية للجوانب الأمنية، لهذا السبب لم تتحقق معادلة رابح – رابح رغم مرور عقود على هذه الشراكة الإستراتيجية.
بعث النفوذ
انطلاقًا من أهمية منطقة المغرب العربي، عمل الاتحاد الأوروبي على تطوير سياسة التعاون بهدف إنشاء منطقة للسلام والازدهار والأمن وتحرير التجارة، لقد شكل مؤتمر الشراكة الأوروبية المتوسطية، المنعقد في برشلونة بإسبانيا عام 1995 بدايةً لتدخل أوروبي جديد في المنطقة الجنوبية لحوض المتوسط، وهي منطقة شكلت محورًا أساسيًا للسياسات الأوروبية في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية.
لكن بعد نهاية الحرب الباردة، أتاح سقوط الاتحاد السوفييتي الفرصة لبلدان القارة العجوز لبعث نفوذها من جديد في حوض المتوسط، بعدما كانت منطقة للصراع على النفوذ بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي.
صناع القرار الأوروبي بدوا آنذاك أكثر انشغالًا بالأمن والاستقرار والتنمية في البلدان المغاربية
تواترت الاتفاقيات بين الجانبين منذ إعلان برشلونة، ففي يونيو/حزيران 2002، تعمقت الشراكة الأورو متوسطية المنطلقة منتصف التسعينيات، من خلال دعوة أطلقها أعضاء البرلمان الأوروبي من ستراسبورغ (شرق فرنسا)، الغاية منها تعزيز التعاون بين دول الاتحاد المغاربي الخمسة في جميع المجالات.
صناع القرار الأوروبي بدوا آنذاك أكثر انشغالًا بالأمن والاستقرار والتنمية في البلدان المغاربية (لبيبا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا)، فالجوار المتصل بالحوض المتوسطي يستأثر بأهمية إستراتيجية للعلاقة بين الجانبين، لهذا أدرك ممثلو الشعوب الأوروبية، سنوات بعد إعلان برشلونة، حتمية انعكاس ما يحدث فيها سلبًا أو إيجابًا على الاتحاد عمومًا وعلى دوله الجنوبية المطلة على المتوسط خصوصًا.
حصيلة دون الطموحات
الإرهاب الدولي والهجرة غير النظامية والتهريب بالإضافة إلى هشاشة الوضع في منطقة الساحل وتمركز الجماعات المسلحة وتأزم الوضع الليبي، أبرز المخاطر والمعضلات التي تحيط بمنطقة المتوسط المحتضنة للجانبين الشمالي والجنوبي.
إذا كان الجانب الأوروبي يتجه صوب القضايا الأمنية، فإنه يهمش الاستثمار والتعاون الاقتصادي، ولهذا السبب، يرى الباحث المغربي في العلوم السياسية إدريس لكريني، بأن الحصيلة الميدانية لم تكن بحجم طموح وانتظارات الدول المغاربية بصدد عدد من الملفات والقضايا ذات الاهتمام المشترك، كما يعتقد الباحث أن المعضلات الأمنية تتطلب حلولًا مستدامة على نحو يتجاوز ردود الفعل الآنية أو الفوقية.
فضلًا عن أن جمود الاتحاد المغاربي يفوت على دوله، التي تعد الأقل ترابطًا من الناحية الاقتصادية والتجارية في العالم، عددًا من الفرص الاقتصادية والإستراتيجية.
الحلم المؤجل
أكثر من ثلاثة عقود مرت على إعلان تأسيس اتحاد المغرب العربي، بهدف توحيد الجهود بين بلدانه الخمس للنهوض بالمنطقة اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا، لكنه ظل حلمًا مؤجلًا بسبب مسيرته التي عرقلتها العلاقات المتوترة بين المغرب وجارته الجزائر، عنوانها نزاع الصحراء ودعم الجزائر لجبهة البوليساريو التي تسعى إلى إقامة جمهورية صحراوية في المنطقة التي تعتبرها المملكة المغربية جزءًا من أراضيها.
تأزم عمل الاتحاد أيضًا بسبب استياء الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي حينما لم يجد دعمًا من الاتحاد المغاربي إبان أزمة لوكربي والتداعيات التي تلتها سنوات لاحقة، لهذا توجهت ليبيا إلى إرساء شراكة واسعة مع القارة الإفريقية، بديلًا عن اتحاد المغرب العربي وحتى الجامعة العربية، إذ انخرطت طرابلس طيلة عهد العقيد في مسلسل طويل لإيجاد أرضية سياسية توافقية مع رؤساء عدد من الدول الإفريقية.
كثيرة هي الفرص الاقتصادية والإستراتيجية التي تفوتها الدول المغاربية بسبب جمود اتحادها
إن فشل الاتحاد المغاربي في تحقيق أهدافه الوجودية، يضع هذه الدول الخمسة في مكانة غير متكافئة أمام شريكه الأوروبي، الذي نجح في توحيد 27 دولة، تفرقت في اللغة والثقافة واجتمعت في الجغرافيا وميدان الحرب، لكنهم نسوا أحقاد الحربين العالميتين، وفكروا في رسم معالم مستقبل أفضل لشعوبهم.
كثيرة هي الفرص الاقتصادية والإستراتيجية التي تفوتها الدول المغاربية بسبب جمود اتحادها، الذي يكلف حتى دول الاتحاد الأوروبي خسائر في مجالات مختلفة، طالما يجد نفسه مجبرًا على التعامل مع كل دولة تتصرف بمنطق أحادي، لهذا اتجه إلى إبرام شراكات ثنائية تقوم على التعامل مع كل دولة على حدة، ما يجعل الطرف الأوروبي رابحًا في هذه المعادلة اللامتكافئة.
صوت ضعيف
علاوة على ذلك، يصب الفارق الاقتصادي الشاسع، بين شمال وجنوب المتوسط، في صالح الميزان التجاري للاتحاد الأوروبي، الذي يسعى بالأساس إلى توسيع نفوذه الاقتصادي والسياسي واحتواء التهديدات التي تأتيه من البلدان المغاربية خاصة مشاكل الهجرة وعدم الاستقرار السياسي.
ما تنعم به الشعوب الأوروبية من رفاهية الحياة والعدالة الاجتماعية، أمام فشل البلدان المغاربية في تحقيق ذلك على نحو لا تستقيم فيه المقارنة على مستوى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بين شمال وجنوب البحر المتوسط، يدفع بعدد لا يستهان به من مواطني البلدان المغاربية الذين لم يظفروا بشروط العيش الكريم بأوطانهم، إلى ركوب قوارب الموت أملًا في الوصول إلى الفردوس الأوروبي، غير أنه في أحيان كثيرة يتحول البحر الأبيض المتوسط إلى مقبرة لأحلامهم.
أضحى صوت الاتحاد المغاربي ضعيفًا أمام نظيره الأوروبي، في ظل تصدع بيته ومشارفته على الانهيار، ما فتح الباب أمام الأوروبيين للمناداة وأحيانًا فرض إصلاحات فوقية تراعي مصالحهم وتتنكر لمصالح الشعوب المغاربية.
أصبح لزامًا على بلدان المغرب العربي أن تكثف جهودها من أجل إحياء العمل التكاملي وتفعيله لفرض موقعها على الساحة الدولية، حتى ولو كان الحديث عن إحياء هذا الاتحاد مجددًا يعتبره بعض الزعماء والساسة مملًا وبلا جدوى، إلا أن غياب هذا الاتحاد يضيع على المنطقة في كل مرة اغتنام فرص أسوة ببلدان أخرى من عالم اليوم التي أصبحت تتجه إلى الاندماج والاتحاد.