منذ الحرب العالمية الأولى، تم استخدام الفلسطينيين كورقة مساومة من قبل أنظمة عربية مختلفة لتعزيز مصالحها من خلال التضحية بحقوق الفلسطينيين. ومع ذلك، فإن المدافعين عن الأنظمة العربية، التي قامت مؤخرًا بتطبيع علاقاتها مع “إسرائيل”، يدافعون عن قرار هذه الأنظمة منتحلين ذات الحجج التي استخدمها رائدا التطبيع -مصر والأردن – منذ عقود، والمتمثلة في أن هذه الدول قدمت تضحيات منذ عام 1948 من خلال وضع المصالح الفلسطينية فوق مصالحها “الوطنية” (اقرأ مصالح نظامها).
وفي المقابل، يُقال لنا إن قرار هذه الدول في الأشهر القليلة الماضية بالتطبيع مع “إسرائيل” قد أعاد ترتيب مصالحها الوطنية أخيرًا لتصبح في المقام الأول، وفي الوقت ذاته، فإن تطبيعها مع “إسرائيل” لن يثنيها عن مساعدة الفلسطينيين أيضًا!
ترتبط إحدى الحجج الرئيسة المطروحة في هذا الصدد بالفكرة الأيديولوجية التي ترعاها أمريكا عن “السلام”. ومفهوم “السلام” هو حجر الزاوية في الدعاية الأمريكية ضد الشعوب التي تناضل ضد الاضطهاد الاستعماري والعنصري، سواء في العالم المستعمَر أو داخل الولايات المتحدة نفسها، حيث يقال لنا إن “السلام” الذي يحافظ على العلاقات الاستعمارية والعنصرية القمعية يجلب الرخاء، بينما النضال ضد الظلم والقمع الاستعماري والعنصري، الذي يطلق عليه اسم “الحرب” في اللغة الأمريكية، لا يجلب سوى الدمار والفقر.
وكما ذكرت في مقال سابق هنا، فلطالما وضعت الأنظمة العربية مصالحها “الوطنية” أولًا وأقامت علاقات وتعاونت مع “إسرائيل” منذ عام 1948 (وفي حالة الأمير فيصل الهاشمي منذ عام 1919). ادعى المدافعون عن استسلام أنور السادات لإسرائيل منذ عقود أن حماس الرئيس جمال عبد الناصر “المفرط” للدفاع عن الفلسطينيين دفع مصر، كما قال الرئيس عبد الفتاح السيسي في عام 2014، للتضحية بـ”100 ألف شهيد مصري” من أجل الفلسطينيين! بينما الحقيقة هي أن خسائر مصر في حرب عام 1948، وفقًا لمصادر عسكرية مصرية، لم تتجاوز 1168 شهيدًا من الجنود والضباط والمتطوعين، فيما قدّرت مصادر رسمية مصرية أخرى عدد قتلى الحرب من الجيش المصري بـ1400شهيدًا. أما دخول الملك فاروق في حرب عام 1948، فلم يكن لأنه قدّم المصالح الفلسطينية على مصالح مصر، بل بسبب تنافسه مع النظام الملكي العراقي للهيمنة على العالم العربي في عصر الاستقلال.
أما عبد الناصر، فلم يشن حربًا واحدة على “إسرائيل”، بل كانت جميع حروبه مع “إسرائيل” حروب دفاع عن مصر، لا عن الفلسطينيين. ففي عامي 1956 و1967، غزت “إسرائيل” مصر واحتلت سيناء. وقد استشهد الجنود المصريون في هذه الحروب دفاعا عن وطنهم وليس عن الفلسطينيين. وبين عامي 1968 و1970، خاضت مصر مع “إسرائيل” “حرب الاستنزاف” التي استشهد فيها جنود مصريون دفاعًا عن بلادهم ضد العدوان الإسرائيلي المستمر، وهي حرب دارت رحاها على الأراضي المصرية. وفي عام 1973 شنت مصر حربًا لتحرير سيناء وليس فلسطين، واستشهد جنود مصريون مرة أخرى وهم يدافعون عن بلادهم ضد الاحتلال الأجنبي. وعندما وقّع السادات اتفاقية كامب ديفيد في عام 1978، لم يقم بذلك دفاعًا عن الفلسطينيين، بل ضحّى بالفلسطينيين وبحقهم في الاستقلال مقابل عودة سيناء إلى مصر (بدون سيادة مصرية كاملة) وحزمة مساعدات أمريكية سخية، أدت إلى إثراء الطبقات العليا في مصر وإفقار معظم السكان.
قيل تاريخيًا للجنود المصريين والأردنيين بأنهم خاضوا هذه الحروب من أجل فلسطين، فإن حقيقة الأمر هي أنهم، دون علمهم، قاتلوا من أجل مصالح نظاميهم
دخل النظام الأردني بدوره، الذي قاد جيشه جنرال استعماري بريطاني، حرب 1948 لتوسيع أراضيه، وهو ما فعله بضم وسط فلسطين (أعيدت تسميتها “الضفة الغربية”) بعد الحرب. وفي عام 1967، غزا الإسرائيليون الأردن واحتلوا الضفة الغربية. في كلتا الحربين، استشهد جنود أردنيون لمصلحة النظام الأردني وليس لمصلحة الفلسطينيين. وعندما وقّع الأردن في عام 1994 معاهدة السلام مع “إسرائيل”، تمت التضحية بالمصالح الفلسطينية مرة أخرى من خلال اعتراف الأردن بحق “إسرائيل” في الوجود على الأرض الفلسطينية المسروقة، ومن خلال تأمين دور هاشمي غير محدد على الأماكن المقدسة الإسلامية في القدس.
في المقابل، تلقى الأردن أيضًا حزمة مساعدات أمريكية سخية استفاد منها النظام والطبقات العليا. وعلى النقيض من صفقة مصر، تم إبرام صفقة الأردن دون مطالبة “إسرائيل” بالانسحاب من أي من الأراضي التي احتلتها عام 1967. ونتيجة لذلك، شرّع “سلام” الأردن مع “إسرائيل” الاحتلال الإسرائيلي ولم ينقض أيًا منه.
وبينما قيل تاريخيًا للجنود المصريين والأردنيين بأنهم خاضوا هذه الحروب من أجل فلسطين، فإن حقيقة الأمر هي أنهم، دون علمهم، قاتلوا من أجل مصالح نظاميهم. أما بالنسبة إلى السودان والمغرب والبحرين والإمارات العربية المتحدة، فلا يزال من غير الواضح كيف ومتى كانوا قد وضعوا المصالح الفلسطينية فوق مصالحهم.
لا يخفي مسؤولون أردنيون ممن يدعمون اتفاق السلام لغاية اليوم استياءهم من أن الأردن لم يستفد بشكل كاف من “عوائد السلام”
يطرح المدافعون عن التطبيع حجة أخرى ذات الصلة وهي ما يسمى بـ”عوائد السلام”، التي سوّقها الأمريكيون بحماس منذ سبعينيات القرن الماضي، حيث يقال لنا إن جميع الأموال التي تُنفق على التسليح والحروب مع “إسرائيل” ستُستخدم بعد إبرام السلام للتنمية الاقتصادية والازدهار. المفارقة بالطبع هي أن الميزانيات العسكرية لمصر والأردن، والتي تشجع المساعدات العسكرية الأمريكية على تضخّمها، ارتفعت بشكل كبير منذ تطبيعها مع “إسرائيل”. وتقوم الولايات المتحدة بتقديم هذه المساعدات العسكرية كمكافأة لهذين النظامين مقابل انتهاجهما سبل التطبيع و”السلام”. في المقابل، انحدرت مستويات التنمية الاقتصادية والخدمات الاجتماعية إلى مستويات غير مسبوقة في كلا البلدين، مما تسبب بفقر مدقع لأغلبية الشعبين، وتراجع مروّع في مستوى الخدمات التعليمية والصحية التي تقدمها الدولة. ولا يخفي مسؤولون أردنيون ممن يدعمون اتفاق السلام لغاية اليوم استياءهم من أن الأردن لم يستفد بشكل كاف من “عوائد السلام”.
أما على صعيد العلاقات العامة، ونتيجة لعداء الكونغرس والإعلام الأمريكي للسعوديين ودول الخليج الأخرى بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، فقد قررت عائلات النفط الحاكمة مرة أخرى الاستفادة على حساب المصالح الفلسطينية من خلال التخلي عن مطالبها بأن تلتزم “إسرائيل” بالقانون الدولي والانسحاب من الأراضي المحتلة كشرط أساسي لتوطيد علاقاتها مع “إسرائيل”. وسرعان ما تقربت هذه الدول من “إسرائيل” واللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة لوقف موجة العداء لها هناك من خلال الوعود بتوثيق علاقاتها ب”إسرائيل”، والتي غدت اليوم علانية.
استغلت الأنظمة العربية كل فرصة سانحة لمقايضة حقوق الفلسطينيين لتعزيز مصالحها هي دون توقف، ولم تضحّ بمصالحها الوطنية من أجلهم قط، كما يسوّق دعائيوها
ليست هذه الترتيبات جزء من ماض ولى، بل هي جزء من عملية التطبيع المستمرة، حيث أعلن الرئيس ترامب عن صفقات ضخمة لشراء الأسلحة الأمريكية مع السعودية، والمغرب، والبحرين، والإمارات أثناء التحضير لصفقات التطبيع والسمسرة فيها منذ عام 2019، حيث تتم عسكرة المنطقة أكثر من أي وقت مضى. وقد هاجم المسؤولون الخليجيون بلا توقف الفلسطينيين في وسائل الإعلام والصحافة الخليجية المملوكة للعائلات النفطية في السنوات القليلة الماضية لإثبات ولائهم لسياسات الولايات المتحدة و”إسرائيل” المعادية للفلسطينيين. وقد تصاعدت وتيرة هذه الحملات مؤخرًا، لا سيما في وسائل الإعلام السعودية والإماراتية.
ومن المفارقات أن دولة الإمارات كانت تأمل في الحصول على طائرات مقاتلة متطورة من طراز F-35 من الولايات المتحدة مقابل سلامها مع “إسرائيل”، إلا أن “إسرائيل” وأنصارها في الكونغرس يرفضون السماح لها بذلك. ونتيجة هذا الإذلال لدولة الإمارات، ومن أجل تهدئة المخاوف الإسرائيلية، اقترح الإماراتيون مؤخرًا على بنيامين نتنياهو أن يتولى الطيارون الحربيون الإسرائيليون مسؤولية طائرات F-35 لفترة مؤقتة، وبعد ذلك يقومون بتدريب الطيارين الإماراتيين ليحلوا محلهم.
أما المغرب، فقد حصل أخيرًا على شرعنة الولايات المتحدة لضمه للصحراء الغربية. كما تم شطب السودان بدوره من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، وذلك دون أن يتنازل أي من هذين البلدين أو يضحي بأي جزء من مصلحته الوطنية للحصول على هذه المكافآت. بل بدلًا من ذلك، وشأنهما شأن الدول العربية الأخرى منذ عام 1948، فقد قاما بالتضحية بالحقوق الفلسطينية المنصوص عليها في القانون الدولي للحصول على مكاسب لنظاميهما. وقد انضمت الجامعة العربية إلى هذا الركب (والجامعة العربية لطالما كانت عدوة للمصالح الفلسطينية منذ إنشائها) ورفضت إدانة اتفاقيات السلام هذه رغم أنها تتعارض مع سياستها القائمة.
لقد استغلت الأنظمة العربية كل فرصة سانحة لمقايضة حقوق الفلسطينيين لتعزيز مصالحها هي دون توقف، ولم تضحّ بمصالحها الوطنية من أجلهم قط، كما يسوّق دعائيوها. فبدءًا من الأمير فيصل الهاشمي الذي تعاون وتآمر مع الصهاينة لضمان دعمهم لمملكته السورية في عام 1919، وصولًا إلى تطبيع الملك محمد السادس مع “إسرائيل” مقابل الصحراء الغربية اليوم، كان الفلسطينيون بمثابة نعمة إلهية مُنِحت للأنظمة العربية التي استغلتهم واستمرت في استغلالهم وإساءة معاملتهم لمصلحتها الخاصة.