إن تزايد أهمية المنصات الرقمية كان من أكبر التغيرات التي طالت الروتين اليومي في العمل الصحافي والإعلامي خاصة مع قرارات العديد من الحكومات إيقاف إصدار الصحف الورقية على اعتبار أن الورق أحد الأسطح المسهلة لانتقال عدوى الفيروس، ولئن كان فيروس كورونا، بما لا يدع الشك، محطةً عصيبةً للعاملين في قطاع الإعلام والاتصال، فإنه كان أيضًا باعثًا على بروز ممارسات مهنية مجددة تستحق الاهتمام لاستشراف مستقبل أحد أكثر القطاعات تأثرًا بالثورة الرقمية.
ذلك أن تأثير كورونا في وضع الشركات الإعلامية الاقتصادي الذي ما انفك يتقهقر ليس خافيًا، فكيف التصدي له والتخفيف من حدته؟ وما الفرص التي سنحت في خضم تجربة كورونا لبلورة خطة مستقبلية كفيلة بدعم قطاع الإعلام والاتصال حتى يحول هذا التهديد الوجودي الناجم عن هذا الوباء؟ وما أولويات معاهد تكوين الصحافيين وتدريبهم مع صحافة البيانات والصحافة العلمية فيما بعد مرحلة الجائحة؟
أي نموذج اقتصادي في ظل كورونا؟
مع تفشي فيروس كورونا تأزمت وضعية المؤسسات الإعلامية الاقتصادية سواء المكتوبة أم السمعية أم البصرية أم الإلكترونية، وذلك بسبب تضافر ثلاثة عوامل تتجلى في حظر التجول وحظر النشر على الورق وانهيار مداخيل الإعلانات في المنصات الإلكترونية بسبب منافسة فيسبوك وغوغل.
كان توقيف طباعة الصحف بالعديد من الدول تهديدًا وجوديًا للصحافة الورقية خاصة المستقلة وغير المستفيدة من الدعم العمومي من الحكومات، توقفٌ تسبب في انهيار مداخيل الإعلانات في ظرفٍ كانت هذه الصحف تعاني من منافسة المنابر الإعلامية الرقمية حتى قبل الجائحة، ما أدى إلى وضع مستقبل المؤسسات الإعلامية الاقتصادي على المحك، فكل المؤشرات تدل على أن الصحافة الورقية بعد منع دام أشهر باتت تعيش أحلك لحظاتها التاريخية بعد صدمة وسائل الإعلام الرقمية منذ بداية الألفية الثانية، وما انفك التهديد المحيق بوجود الوسائط المطبوعة يتفاقم لينتهي، ربما، إلى تسارع إعلانات الإفلاس بين المجلات والصحف التاريخية تحت ضغط الركود الاقتصادي المترتب على الوباء.
لعل هذا التحول المهني والإنتاجي الذي ما كان ليتجلى لولا ما فرضه الوباء من حظر للتنقل والتجول، سيبعث نفسًا جديدًا في حرية الصحافي وقدرته على الوصول إلى الأخبار ومواقع الأحداث
أما المؤسسات الرقمية، فبقاؤها هي الأخرى لن يكون سهلًا أمام المنافسة الشرسة التي تشنها الشركات الكبرى مثل غوغل وفيسبوك في مجال النشر والإشهار، فقد باتت الشركات والمؤسسات، العامة منها والخاصة، تفضل اللجوء إلى خدمات هذه المنصات، منجذبة بأسعارها المعقولة التي لا طاقة لها بمنافستها، فضلًا عن قدرة هذه المنصات على الوصول إلى الجمهور المستهدف بدقة متناهية بفضل خوارزمياتها المتطورة، فهي تحدد مكان القراء وسنهم وجنسهم واهتماماتهم، وحتى زمن دخولهم الشبكة، بحيث يكون توصيل الخطاب الإشهاري إليهم مضمونًا قدر الإمكان.
فرغم حداثة ميلاد القطاع الرقمي بالبلدان العربية، فإن هذه الولادة كانت ولا تزال عسيرة بسبب قلة الموارد الإشهارية وسيطرة الأخبار المجانية في ظل صعوبة إنتاج محتوى ذي جودة قابلة للبيع، ومع ذلك تتوالى مبادرات إطلاق منصات رقمية تعتمد على دفع اشتراكات شهرية رمزية، لا تتجاوز بضعة دولارات، مقابل استهلاك جزء من المضمون الصحافي المختار، وحتى الآن، لم تفلح هذه الاشتراكات في الوصول إلى النضج المطلوب لضمان مستقبل اقتصادي مستدام للشركات الناشرة.
ولعل توجه الإصدارات الأمريكية ونظيراتها الأوروبية إلى طرح باقات اشتراك في مجلات وصحف مواقع معروفة كان ردًا غير كافٍ للصمود أمام ترسخ مجانية الوصول للأخبار عبر مختلف الوسائط الرقمية، وستكون جائحة كورونا، لا محالة، عاملًا مسرعًا لهشاشة المؤسسات الإعلامية الاقتصادية بغض النظر عن قنوات نشرها، سواء مطبوعة أم مسموعة أم مرئية أم على الخط، وذلك لأن وطأة توقف العجلة الاقتصادية كانت ثقيلة بسبب توالي قرارات الحجر الصحي ومنع التجول.
وهذا التحدي الاقتصادي سيحفز، بلا شك، استشراف نماذج اقتصادية مبتكرة كفيلة بضمان بقاء هذه المؤسسات الإعلامية ذات المنفعة العامة التي برز دورها الوظيفي المهم في مواجهة تحديات الوباء ورصد آثارها الاقتصادية والصحية والاجتماعية والبيئية.
العمل عن بعد: الاستثناء الذي بات قاعدة!
كان العمل الصحافي، تاريخيًا ولا يزال، يعتمد على العمل بالميدان، بسبب ضرورة التغطية عن قرب لمواكبة الأحداث اليومية، وبفضل جائحة كورونا، إن جاز التعبير، تحول العمل عن بعد من استثناء تلبيةً لضرورة عابرة إلى قاعدة، فقد قررت فرق العمل بوسائل الإعلام أن تؤدي مهامها انطلاقًا من البيت عوض التنقل إلى مقرات العمل، وهو الوضع الذي دفع الصحافيين والتقنيين، على حد سواء، إلى تجربة أشكال جديدة لإنتاج مواد إخبارية عن بعد ومن مختلف أنحاء العالم.
وقد كان لتطبيقات العمل الجماعي من قبيل واتساب وفايبر ومايكروسوفت تيم وزووم وغوغل تيم، وغيرها الكثير، فضل كبير وجلي في تواصل عقد اجتماعات هيئات التحرير والإدارة بشكل تفاعلي كالمعتاد مهما كان التباعد المكاني والزماني، ومن “بركات” كورونا أنها أقنعت مسؤولي المؤسسات الإعلامية وبرهنت لهم أن وجود الصحافي بعين مكان المؤسسة ليس ضروريًا كي يكون عالي الإنتاجية.
ولعل هذا التحول المهني والإنتاجي الذي ما كان ليتجلى لولا ما فرضه الوباء من حظر للتنقل والتجول، سيبعث نفسًا جديدًا في حرية الصحافي وقدرته على الوصول إلى الأخبار ومواقع الأحداث بعيدًا عن بيروقراطية المكاتب.
على معاهد التدريب الإعلامي أن تقدم للمتخرجين تكوينًا ملائمًا في تملك الكفاءات التقنية بغرض التكيف مع إكراهات العمل عن بعد عوض مفهوم الوظيفة التقليدية بالمقرات المركزية بالمؤسسات الإعلامية
وفضلًا عن ذلك، كان لنضج منصات النشر الرقمية، سواء التقليدية أم الحديثة، وسهولة الولوج إليها واستخدامها دور كبير في فتح فرص مهنية جديدة في وجه الإعلاميين المقيمين خارج المدن الكبرى التي تحتكر مقرات كبريات وسائل الإعلام العمومية والخاصة.
كان المعتقد السائد قبل تفشي وباء كورونا يقضي بأن العمل عن بعد لا يلائم أو لا يصلح إلا لبعض المهام أو القطاعات بعينها، وجاء حظر التجول والتنقل والحجر الصحي بالمنازل وضرورة التباعد الاجتماعي ليحطم هذه الفكرة، فقد استطاعت جل القطاعات والمهن التكيف مع الوضع، إما بتغيير بعض طرق العمل وإما بإحداث منصات تقنية جديدة تلبي هذه الحاجة، ثم إن من مزايا هذا التحول، تمكين المؤسسات الإعلامية التي قاست من انهيار المداخيل من ترشيد مستويات إنفاقها بشكل عام.
صحافة البيانات: فرصة تقنية لزخم مهني جديد
بعثت مواكبة أخبار جائحة كورونا نفَسًا جديدًا في الصحافة يتجاوز الهوس بالتساؤلات الخمس التقليدية والهرم المقلوب، وكان الوباء كذلك، فرصة برزت فيها أهمية صحافة البيانات في إنتاج الخبر ومعالجته ونشره وخاصة مواكبة مؤشرات تطور الوضع الوبائي محليًا ودوليًا.
كانت الجائحة عاملًا سرّع فرص التعاون بين الصحافيين والخبراء الرقميين على بلورة أخبار تعتمد على رؤية صحافية وآليات تقنية تسمح بتوفير مادة إخبارية في قوالب مشوقة وأكثر جاذبية بالصوت والصورة، ولعل هذا الزخم في اللجوء إلى صحافة البيانات فرصةً لتطوير إنتاج مفهوم القصة والرواية الصحافية وكذلك تشجيع عودة الصحافيين لمقاعد التعلم لمحاربة أميتهم الرقمية تحت إشراف الخبراء التقنيين.
ولعل الجائحة لقنت الإعلاميين كذلك درسًا في استغلال أكوام الأرقام والمعلومات المتاحة بشكل واسع ومعالجتها باستعمال قوالب إخبارية تعتمد على صحافة البيانات لتوصيل المعلومة المختزلة المُبسطة للرأي العام.
الصحافة العلمية والصحية: كورونا يكشف المستور
ساهمت جائحة كورونا في إبراز أهمية الصحافة المتخصصة في العلوم والتكنولوجيا، فإكراهات فيروس كورونا بسبب الحجر الصحي وحظر التجول والتباعد الاجتماعي تتطلب متابعة مواكبة إعلامية لتنوير الرأي العام بشكل مبسط وسلس فيما يخص تطور الفيروس وآثاره المحتملة على صحة الإنسان.
وقد فضح واقع الحال، أيام الجائحة، ضعف هذه الصحافة بالإعلام العربي بالمقارنة مع جيوش الصحافيين المختصين بالسياسة والدين والفن والرياضة، فقد كانت أغلب المقالات الصحية والعلمية قبل الجائحة مختزلة في تبييض لون البشرة وتفصيل الحميات الغذائية قصد إنقاص الوزن.
فهل كان لا بد من وباءٍ لإعادة الاعتبار لهذا التخصص الذي طاله الإهمال بالمؤسسات الإعلامية، إذ ليس خافيًا دور الإعلام الذي كان همزة الوصل بين العلماء والأطباء من جهة والمواطنين من جهة، من أجل فهم وشرح رهانات الفيروس وطرق الوقاية بشكل مبسط في متناول أعرض شريحة من القراء والمشاهدين والمستمعين.
فطول مدة تفشي الفيروس، منذ بداية السنة، جعلت ترقب أخبار الحالة الوبائية يزيد كل يوم بما أن الأمر مصيري من أجل عودة الحياة إلى طبيعتها، لذلك، تزايد الطلب على إعلاميين ذوي خلفية إعلامية قادرين على الربط بين ديناميكية البحث الطبي والعلمي والنشر الإعلامي المبسط في مواجهة قلق الرأي العام بشأن مآلات فيروس كورونا وآثاره.
تكوين الإعلاميين بعد كورونا
إن ارتفاع تحديات العمل عن بعد وفرص الصحافة العلمية وصحافة البيانات، مؤشرات باتت تطرح بحدة ضرورة إعادة النظر في مقررات ومسالك معاهد تكوين الإعلاميين، فكما تجلى بوضوح خلال الجائحة، صار لزامًا إعداد برامج جديدة تتلاءم مع تحديات العمل الصحافي والإعلامي في مرحلة كورونا وما بعدها، وفي العصر الحاليّ عمومًا.
فمراجعة برامج التكوين لا بد أن تحدث قطيعة مع مفهوم الصحافي حسب المنبر الإعلامي: الصحافة المكتوبة والسمعية والمرئية والرقمية، فقد أضحت الحاجة ماسة لتكوين صحافيين من طينة جديدة، قادرين على إنتاج مواد وقصص وروايات إخبارية بغض النظر عن وسيلة نشرها، وعلى جيل الصحافيين الجديد أن يكون قادرًا على إنتاج خبر، بالصوت والصورة، لمختلف المنصات الإخبارية مع القدرة على تسخير البيانات واستغلالها لإنتاج قصة إخبارية متلائمة مع تطلعات قراء منشورات منصات من قبيل تيك توك وفيسبوك وإنستغرام وغيرها من الشبكات الاجتماعية التي تنافس الإعلام التقليدي.
فعلى معاهد التدريب الإعلامي أن تقدم للمتخرجين تكوينًا ملائمًا في تملك الكفاءات التقنية بغرض التكيف مع إكراهات العمل عن بعد عوض مفهوم الوظيفة التقليدية بالمقرات المركزية بالمؤسسات الإعلامية، ويجب أن تتلازم تقوية إعلاميي المستقبل مع تقوية اللغات الأجنبية، لأن الوباء بتفشيه عالميًا أثبت تجاوزه الحدود التقليدية ومفهوم القرب الجغرافي الذي كان لصيقًا بالخبر الصحافي.
فولوج معاهد تكوين الإعلاميين والصحافيين يجب أن يصبح مرتبطًا فقط بنتائج دراسية عالية بل بالكفاءات اللغوية واستعمال المنصات الرقمية وأدوات التواصل الحديثة، فالخلفية اللغوية والقدرة على مواكبة التقنية هما ما سيحددان مصير العاملين في قطاع الإعلام والتواصل، فلا مستقبل لجيل لا يتقن إلا الإجابة عن الأسئلة الخمس والهرم المقلوب واحترام قانون القرب.
ذلك أن الطفرة البيداغوجية المترتبة على كورونا لا يجب أن تقتصر على الطلبة، فحتى المهنيين المتمرسين عليهم التأقلم مع متطلبات الثورة التكنولوجية التي تكتسح الإنتاج الصحافي، ويمكن للمعاهد والمراكز المختصة في تكوين المهنيين أن تلعب دورًا رائدًا في تقديم تدريب مستمر للمهنيين حتى يصمدوا أمام تهديدات فناء مؤسساتهم الإعلامية بسبب الطفرة التقنية وثورة المعلومات، ويكونوا قادرين على إنتاج مواد صحافية متعددة الوسائط تقرن بين الرؤية الصحافية ووسائل تقنية معقدة كفيلة بتيسير استغلال فرص صحافة البيانات.