الإسكافي.. حرفة تواجه خطري الاندثار والبطالة في غزة

4DA97AD9-0955-4D54-BE34-0A38060D387C

تراهم مصطفين بجانب بعضهم البعض، يُحيكون حذاءً تلو الآخر، لا أحد ينظر لرزق الآخر، فلكل صانع منهم زبونه الخاص، مهنة اكتسبوها أبًا عن جد منذ فترة الستينيات، فلا يوجد دخيل عليهم من رواد هذه الصنعة حديثًا. إنها مهنة الإسكافي التي يُطلق عليها أحيانًا “الجزمجي” وهو كل من يرمم الأحذية المهترئة.

ينتشر رواد هذه المهنة بماكيناتهم المُخصصة في سوق الزاوية وسط مدينة غزة، وبجوار قلعة برقوق بمدينة خانيونس جنوب القطاع، وفي سوق مخيم جباليا في الشمال، وهي أسواق شعبية قديمة، بدأ تأسيسها من خلالهم حتى أصبح هناك شارع في السوق مخصص لخياطي الأحذية وشارع آخر لخياطي الملابس وآخر لصُناع الحلويات وأصبحت تلك الأسواق تلبي كل احتياجات المواطن انطلاقًا من الإسكافيين الذين وضعوا لها حجر الأساس الأول.

محمد النبيل أحد رواد هذه المهنة، في كل صباح يفتح أبواب كوخه الصغير في سوق الزاوية، وهو أقدم الأسواق الشعبية في فلسطين على الإطلاق، ويُخرج آلته الثقيلة المخصصة لترميم الأحذية، ليستفتح بها رزقه حتى آخر النهار، ليعود لذويه بعدد من الشواقل التي اكتسبها من خلال خياطة الأحذية.

يقول لـ”نون بوست”: “نحن نقوم بخياطة الأحذية وحياكتها إذا كانت ممزقة، وأحيانًا نفرشها من الداخل وندهنها ونُضيف لها ربطات جديدة، فتخرج كأنها صُنعت حاليًّا، وتتراوح تسعيرة ترميم الحذاء من نصف دولار إلى دولار ونصف كحد أقصى، حسب الإصلاحات التي تمت إضافتها لتُعيده إلى هيئته”.

أما السيد نضال الغندور الذي يعمل إسكافيًا في ساحة قلعة برقوق القديمة بمدينة خانيونس، فيقول لـ”نون بوست”: “هذه المهنة ورثناها عن جدي الذي عمل بها 15 عامًا من منتصف الستينيات من القرن الماضي حتى أول الثمانينيات، وورثها والدي عنه بعدها حتى 1989، ثم أخي الأكبر حتى عام 2000، وورثتها أنا منهم، وما زلت أعمل بها منذ 20 عامًا، وتزوجنا ونشأنا وعلمنا أولادنا من هذا الرزق الحلال، وسأورثها إن شاء الله لأولادي، إذ تبقى عاملًا مهمًا للمعيشة في ظل البطالة الكثيفة في غزة وعدم استفادتنا من شهاداتنا الجامعية”.

ح

“نحن تعلمنا هذه المهنة من مصر عندما كان قطاع غزة تحت الإدارة المصرية، فكان الكثير من فلسطينيي غزة يعملون كمهنيين في مصر، في منتصف الخمسينيات، وكان جدي يعمل في دكانة صغيرة لدى معمله بكار صناعة الأحذية الجلد أو ترميم الأحذية الكلاسيكية في ميدان “الفلكي” وسط القاهرة، مقابل نصف جنيه يوميًا، وبعدما عاد جدي لأرض الوطن أحضر معه هذه الماكينة التي اشتراها وشحنها عبر القطار الذي يصل بين مصر وغزة في تلك الفترة، وفتح له كشكًا بجوار قلعة خانيونس” يقول الغندور.

ويضيف “كان الكثير من زبائننا بخانيونس في تلك الفترة من الفنانين ورجال الأعمال المصريين الذين يرغبون بتلميع أحذيتهم بعد عناء السفر وغبار الطريق، لأنهم كانوا يأتون إلى غزة لشراء الاحتياجات غير المتوفرة في مصر بسبب سياسات عبد الناصر حينها بالاكتفاء الذاتي ومحاربة البضائع الغربية”، مشيرًا إلى أنهم لم يغادروا هذه البقعة الصغيرة المخصصة لهم للعمل، “فلم نبرح مكاننا ولم نُغير بقعتنا بتغير الأجيال التي حافظت على هذه المهنة عبر التوارث الأسري”.

مهنة تخدم الفقراء

المختص في الشأن الاقتصادي الفلسطيني الدكتور سمير أبو مدللة أوضح لـ”نون بوست” أنها مهنة يستحيل أن تواجه الاندثار في قطاع غزة، بسبب الفقر المتزايد الذي أصاب أكثر من نصف السكان، بنسبة 62%، وهي النسبة الأعلى في العالم، فَيُعد ترميم الأحذية بنصف دولار أو دولار واحد كأقصى سعر له، خيرٌ له من شراء الأحذية الجديدة، حيث يصل سعر الحذاء التقليدي الصيني العادي إلى 15 دولارًا حتى 50 دولارًا وبعضها يتعدى هذا السعر، في حين أن المواطن الفلسطيني في قطاع غزة، يعيش على أقل من دولار ونصف في اليوم الواحد، وحسب الموازنة المطروحة فإن الفرد يحتاج إلى 7 دولارات يوميًا فما فوق لتأمين قوت يومه.

ك

مهنة تخدم أبناء الطبقات المتوسطة والثرية

الأمر غير مرتبط بالمعيشة الصعبة في قطاع غزة فقط، ففي غزة، بعض الزبائن من الطبقات الثرية غالبًا أو المتوسطة، فكما يوضح تاجر الأحذية من غزة عدنان شراب فإن “إسرائيل” تمنع دخول الماركات العالمية من الأحذية إلى قطاع غزة، مثل أديداس ونايك وريبوك ونيوتشيك وغيرها، لأسباب غير معروفة حتى الآن، وكل ما هو في البلد ماركات مقلدة تبدأ من “نخب أول” فما دون، وهي صناعات صينية أو مصرية وأحيانًا تركية.

لكن هذا لا يغني عن سعي العديد من المواطنين الاجتهاد طويلًا من أجل الحصول على إحدى هذه الأحذية، من خلال التهريب بطرقه الخاصة أو عبر المسافرين، وهذا الأمر يفسر وجود العديد من الزبائن من الطبقات الثرية عند خياطي الأحذية.

يوضح الصحفي أحمد الباز بأنه خرج في رحلة سياحية للإمارات عام 2019، وأحضر معه حذائين، وقبل أن يدخل بهما عبر معبر رفح البري، طمع بهما الضباط المصريون وادعوا أن ممنوع دخولهما ليأخذوهما، “بينما استطعت تهريب حذاء ثالث عبر حقيبة زميلي الآخر، وكلفني كل حذاء أصلي ما يُقارب 200 دولار، وهو السعر المتعارف عليه للماركات العالمية”، يقول الصحفي أحمد الباز.

ويضيف الباز “بصفتي جربت المعاناة التي تدخل بها هذه الأحذية للبلاد وأنه في حال فرطت بالحذاء الوحيد الذي بحوزتي، فإنه يتوجب إما السفر للخارج مرة أخرى وإما اللجوء لعملية تهريب، فسأضطر لترميمه عند رواد مهنة الإسكافي إذا حدث به أي تمزق أو عطل في أنسجة الرباط، وهذا خير لي من التعب مرة أخرى للحصول على شبيه له من خارج الوطن بدلًا من رميه”.

وقد تطورت هذه المهنة عبر العقد الأخير من الزمن لتشمل حياكات أخرى، فأحيانًا يصنعون حقائب الجلد المكتبية وأحيانًا يُخيّطون حقائب السفر والحصائر والستائر وغيرها، إذ دفع الفقر المدقع في قطاع غزة هؤلاء المهنيين إلى إدخال المواد القماشية والجلدية المختلفة للعمل عليها ضمن ماكينة خياطة الأحذية.