في عام 1801، طويت صفحة الوجود الفرنسي في مصر، حيث حاصرت القوات الفرنسية جيوش الإمبراطورية البريطانية والدولة العثمانية برًا وبحرًا، وكان الجيش الأخير الذي أرسله السلطان العثماني إلى مصر ليساعد القوات البريطانية على إجلاء جيش الشرق البونابرتي، يضم شخصيتين أثرتا أيما تأثير في تاريخ بعضهما البعض، محمد علي الشخصية الأبرز في تاريخ مصر والدولة العثمانية الحديث، ومحمد خسرو باشا الذي تولى حكم مصر سنة ومنصب الصدر الأعظم للدولة العثمانية أكثر من مرة، وبخلاف ذلك كان خسرو من أهم الذين أسهموا في إصلاحات الدولة العثمانية العسكرية.
منذ دخولهما إلى مصر في ذلك العام بدأت حقبة من الكراهية ستمتد طيلة حياتهما، فسيصر محمد علي باشا دائمًا على أن خسرو يقود عصبة في إسطنبول تصمم على إعاقة طموحة وتحرمه من ثمار انتصاراته المختلفة على جيوش السلطان، وفي كتب التاريخ لم يحظ خسرو باشا بهذا القدر الحافل من الكتابة والاهتمام كعدوه، إلا أنه في حياة محمد علي كان لخسرو باشا النصيب الأكبر من الكراهية التي تبادلاها طيلة حياتهما.
الوالي خسرو باشا
كان كوتشوك حسين باشا “حسين القبطان” الصديق الأقرب للسلطان سليم الثالث (1789-1807)، لذلك عينه قائدًا عامًا للأسطول العثماني عام 1792، وكان كوتشوك من أنصار قضية الإصلاح العسكري في الدولة العثمانية، والأسطول على وجه تحديد، أما خسرو باشا فكان من محاسيب كوتشوك، لذلك عينه ملازمًا له وأشركه في الحملة على مصر، وعلى الطرف الآخر عُين محمد علي نائبًا لقائد قوة عددها 300 مقاتل ألباني، يترأسها طاهر باشا.
نجح الجيشان العثماني والبريطاني في هزيمة جيوش الجنرال مينو الفرنسي، وعادت مصر إلى الدولة العثمانية بعد انسحاب القوات البريطانية، وكانت العادة في تعيين الولاة أن يعين أعلى الموظفين مرتبة في الحملة، لكن عودة الصدر الأعظم يوسف زيدون باشا والقائد العام للأسطول إلى إسطنبول، جعلت القدر يلعب لعبته الأولى في حياة خسرو باشا، فُعين واليًا على مصر في 12 من جمادي الأول سنة 1216هـ/1801م.
وجد خسرو باشا نفسه يحكم ولاية عثمانية غنية كمصر بإمكانها أن تتيح له فرصة تطبيق أحلامه في الإصلاح العسكري للدولة، لكن كان عليه من اليوم الأول أن يستمر في مطاردة المماليك ويواجه تمردهم المستمر بقيادة عثمان بك البرديسي ومحمد الألفي اللذين أخضعا مصر العليا “صعيد مصر” واتخذاها مقرًا للهجوم على سلطة الوالي الذي لم يعد في يديه إلا ما بين القاهرة والإسكندرية.
فشل خسرو باشا في التصدي لهما، وهنا وقع صدامه الأول مع محمد علي الذي كان قد ترقى وصار قائدًا لأربعة آلاف من الجند الألبان، فأمره خسرو باشا أن يزحف إلى الصعيد برجاله، ليكون مددًا للحملة التي أرسلها لتأديب المماليك، إلا أن الحملة كان قد خاب مسعاها بالفعل، وألقى قائدها باللوم على محمد علي لأنه جاء متأخرًا، ما أشعل الحقد في قلب خسرو باشا فأقر على إعدام محمد علي سرًا، وكتب إليه أن يحضر في منتصف الليل ليتداولا في بعض الشؤون، فأدرك محمد علي أن تلك مكيدة للإيقاع به ولم يلب الدعوة، وبدأ محمد علي في التحالف مع المماليك والاستقواء بهم في تمرده ضد الوالي.
عام 1803م عجز خسرو باشا عن دفع رواتب الجنود، فثاروا عليه وأحاطوا منزله، فأمر بأن تضرب المدافع عليهم، وتوسط طاهر باشا قائد فرقة الألبان وأركان حرب خسرو باشا، فرفض خسرو باشا وساطته واتهمه بأنه قائد التمرد، فثارت ثائرة طاهر باشا وانضم للجنود الغاضبة وأطبق الحصار على والي مصر حتى دفعه إلى الفرار بأسرته وماله إلى دمياط، وتوجه محمد علي نحو خسرو باشا وأسره.
شكل السلطان محمود الثاني (1808-1839) جيشًا نظاميًا جديدًا، سمي “العساكر المنصورة المحمدية” وعين عليه قائدًا عامًا للجيش خسرو باشا
اغتيل طاهر باشا بأيدي رجلين من رجاله فيما بعد بسبب العجز عن دفع الرواتب، ومرد هذا الأمر وفقًا لبعض المؤرخين هو تحريض محمد علي، وخلا الطريق إلى القصر، وفي أعقاب تلك الحوادث، عام 1804م انقلب محمد علي وجنده الألبان على عثمان بك البرديسي الذي كان واليًا على مصر، وانضموا إلى صفوف الشعب الثائر.
هرب البرديسي ولم يبق في القاهرة من أطراف الصراع السياسي إلا محمد علي، فاجتمع بالعلماء والمشايخ وقرروا إخلاء سبيل خسرو باشا وإعادته لكرسي الحكم، لكن خسرو باشا لم يحكم إلا يومًا واحدًا، فقد كان مجرد أداة لوح بها محمد علي ليظهر زهده في أي منصب سياسي، إلا أن الجنود الألبان اعترضوا على قرار تعيين خسرو باشا فوافق محمد علي على ترحيله من مصر إلى الأستانة وتعيين خورشيد باشا.
عامًا بعد ذلك، عين محمد علي واليًا على مصر 1805م، فأسرها خسرو باشا في نفسه واستحكمت العداوة بينهما في ذلك الوقت المبكر من حياتهما، حيث كانا يبلغان من العمر 36 عامًا، فقد ولدا معًا عام 1769، وولدت عداوتهما وستستمر على مدى حياتهما الطويلة.
كرهٌ قديم عميق
لم يكن انتهاء دور خسرو باشا في مصر يعني أنه قد انتهى من التاريخ العثماني أيضًا، فالرجل سيتقلد العديد من المناصب المهمة في الدولة التي ستجعله كالحصوة في حذاء محمد علي.
فقد عُين واليًا للبوسنة في أثناء الانتفاضة الصربية 1806م، ثم واليًا لأرضروم في أثناء التمرد الكردي 1818م، وتولى منصب القائد العام للأسطول العثماني 1822م خلال الحرب اليونانية، حيث اصطدم خسرو باشا مع محمد علي للمرة الأولى منذ لقائهما الأخير، فرغم أن الرجل استطاع أن يبني أسطولًا من المراكب الصغيرة التي استطاعت أن تناور في مياة بحر إيجة، وقطعت خطوط المواصلات على المتمردين اليونانيين، فإنه فشل مرة أخرى في الظهور بمظهر البطل في نظر السلطان على حساب محمد علي بسبب ابنه إبراهيم باشا.
لقد ظل محمد علي معتقدًا أن وجود خسرو باشا على رأس القيادة العامة للجيوش في حرب اليونان، يجعله يتدخل في عمل ابنه إبراهيم، ما يفسد عملية التنسيق بينهما، وبعد شهور من محاولات إبراهيم للتعاون والتنسيق مع خسرو كتب إلى نجيب أفندي مندوب أبيه في الباب العالي، بأن فرصة نجاح جهود مشتركة ومنسقة لقوات الأسطولين المصري والعثماني، تكاد تنعدم، بسبب انقسام قيادتهما واستحالة اتحادهما وتعاونهما بسبب “الكره القديم العميق الذي يحمله خسرو لأسرتنا” ما تسبب في إزاحة خسرو من منصبه بعد ضغوط مارسها محمد علي على الباب العالي، مما زاد في إشعال نيران الكراهية في صدر خسرو ضد محمد علي.
شكل السلطان محمود الثاني (1808-1839) جيشًا نظاميًا جديدًا، سمي “العساكر المنصورة المحمدية” وعين عليه قائدًا عامًا وهو خسرو باشا، فبدأ بإجراء إصلاحات عسكرية تشبه تلك التي كان محمد علي يفعلها في جيشه المصري، لكن على نطاق أضيق، وقد شغل خسرو باشا هذا المنصب حتى اندلعت الحرب السورية، فكان للحرب السورية أن تكون ساحة أخرى للقاء بين خسرو باشا ومحمد علي.
ففي معركة قونية أسر إبراهيم باشا الصدر الأعظم محمد رشيد باشا، وكان هذا عبدًا شخصيًا لخسرو باشا في السابق، وقد كان حديثًا في منصبه بعد إصرار خسرو باشا على تعيينه، واستشعر محمد علي ونجيب أفندي مبعوثه في إسطنبول، أن وجود خسرو دائمًا ما يدمر مصالحهما، حيث تتاح له فرصة الاتصال بالسلطان بسهولة والتأثير عليه وتسيير الأمور في القصر، وأبرمت هدنة “كوتاهية” في مارس 1833 وبمقتضاها عين إبراهيم باشا واليًا على الولايات السورية وأعيد تنصيب محمد علي واليًا على مصر.
كان محمد علي يعتبر خسرو عقبته الأولى التي عليه أن يزيحها من طريقه في إسطنبول، وكانت هدنة كوتاهية ليست بتسوية دائمة لخلافات محمد علي والسلطان العثماني، لكنها كانت مجرد اتفاق، ولم يوقع عليه أي من السلطان العثماني أو محمد علي، وكان الاتفاق يُجدد سنويًا، ذلك الأمر الذي أشعر محمد علي بأنه لم يؤمن لأسرته المستقبل الذي كافح وبنى إمبراطوريته من أجله، بالإضافة إلى أنه كان يدفع جزية سنوية للباب العالي في إسطنبول، وذلك الأمر كان محل شقاق وخلاف في سنوات امتدت بين عامي 1833و1839م.
فقد كان السلطان العثماني دومًا ما يدعي أن له متأخرات هائلة رفض الباشا أن يدفعها، وازدادت حدة القضية لقناعة محمد علي أن وجود خسرو في منصب القائد العام في إسطنبول يزيد من المؤامرات التي تحاك ضده، لذلك كان سعي محمد علي الدؤوب في الضغط على السلطان قائلًا: “المشاكل ستظل قائمة بيننا طالما بقي عدوي القديم في الديوان”، وقال إن السلطان لو اكتفى بمجرد إزاحة خسرو من ديوانه، فإنه لن يكتفي بدفع الجزية بانتظام، لكنه أيضًا سيدفع جزءًا كبيرًا مما يطالبه به بصفة متأخرات، إلا أن مسعى محمد علي لم يكلل بالنجاح.
كاد خسرو باشا أن يرضخ لضغوطات محمد علي إلا أن موقفه تلك المرة لم يكن رهينًا بقراره وحده، فللمرة الأولى والأخيرة اتخذت أوروبا موقفًا حاسمًا من الصراع المصري العثماني
اللكمة الأخيرة
معركة “نصيبين” في 24 من يونيو/حزيران 1839م، شهدت انتصارًا ساحقًا لإبراهيم باشا، فقد كان السلطان محمود الثاني محظوظًا لوفاته بعد أسبوع قبل أن تصله أخبار تلك الكارثة التي لحقت بجيشه الذي أعده ونظمه حديثًا.
تكافأت قوات إبراهيم باشا وقوات السلطان العثماني، إلا أن النتيجة جاءت كارثية على جيش السلطان، فسيترك الجيش التركي وراءه ما يزيد على مئة مدفع ومعداتهم وذخيرتهم، التي كانت بمثابة كنز حرب، وتشير الأرقام إلى أن 45 ألف جندي عثماني قتلوا و8500 أسير، وكتب إبراهيم باشا لأبيه قائلًا: “أعلمكم أنني هاجمت في نصيبين، وفي أقل من ساعتين، أخذت من العدو مدفعيته وذخيرته الحربية، وأخضعت الجيش التركي تمامًا، ولم أتوقف إلا في قونية، أعلنوا هذا الخبر السار للعامة يا أبي”.
وبعد يومين غادر إبراهيم باشا على رأس ثلاثة ألوية، وغادرت القوات التركية مكانها، واحتل إبراهيم عينتاب.
بعد أن توفي السلطان محمود الثاني، ترك الحكم لابنه عبد المجيد البالغ من العمر 16 عامًا، وبينما كانت العاصمة مذعورة من الانتصارات المتتابعة للجيش المصري في سوريا، وكونه بات على أعتاب عاصمة الدولة، قرر أحمد فوزي باشا القائد العام للأسطول العثماني دون أن ينسق مع القائد العام لجيش السلطان العثماني خسرو باشا، أن يتجه للإسكندرية ليسلم الأسطول العثماني بأكمله لمحمد علي.
فقد أوعز محمد علي إلى أحمد فوزي باشا بأن خسرو باشا سيسلم أسطوله إلى الروس لكي يهاجما معًا محمد علي، مما دعاه إلى دعوة فوزي باشا إلى الإسكندرية ليناقشا المسألة، ويسلم فوزي باشا أسطوله ليُفقد الدولة العثمانية سلطانها وجيشها وأسطولها في أقل من شهر، وبذلك يصبح محمد علي الرجل الأقوى في الدولة العثمانية، فأصبح يمتلك في يديه الآن أسطولًا مصريًا عثمانيًا مشتركًا قادرًا على أن يحقق سيطرة فعالة على مياة شرق المتوسط، ويقوي موقفه في مفاوضاته المقبلة مع إسطنبول طلبًا للاستقلال.
في الجهة الأخرى كان خسرو باشا قد استولى فعليًا على السلطة في إسطنبول، بينما كان محمود الثاني يُشيع إلى مثواه الأخير، انتزع خسرو الأختام السلطانية وعين نفسه الصدر الأعظم للدولة، وحينما وصلت الأخبار لمحمد علي شن عليه حملة لخلعه عن منصبه، وكتب في اليوم التالي لوالدة السلطان الطفل لهذا الغرض، وكتب لخسرو نفسه محذرًا من “أن إراقة الدماء لن تتوقف إذا لم يستقيل”، وواصل إرسال الخطابات لبعض الموظفين في إسطنبول للضغط على خسرو باشا وطرده.
وقف خسرو في وجه محمد علي ولم يرضخ لضغوطاته وتهديداته، بل طالبه أن يتخلى عن كل أملاكه في الشام وشبه الجزيرة العربية والسودان وأن يكتفي بباشوية مصر وحدها، وحين تسلم محمد علي لائحة طلبات خسرو، كتب إليه ساخرًا يسأله عن الذي يدفعه على قبول هذه الشروط؟ بينما كان قد رفض قبلها شروطًا أفضل عرضها عليه السلطان محمود، وكرر طلبه لخسرو بأن يستقيل، وقال له إنه لو كان قلقًا بشأن أمور معيشته بعد التقاعد، فإنه سيوفر له كل مصروفاته ومصروفات أهل بيته وأتباعه مهما غلى ثمنها.
ودعاه لأن يتقاعدا معًا في الحجاز حيث بنى لنفسه مقرين: أحدهما شتوي في مكة والآخر الصيفي في مدينة الطائف، حيث يمكنهما أن يتقاعدا في راحة وسلام، ويخصصا وقتهما للصلاة والتأمل.
كاد خسرو باشا أن يرضخ لضغوطات محمد علي إلا أن موقفه تلك المرة لم يكن رهينًا بقراره وحده، فللمرة الأولى والأخيرة اتخذت أوروبا موقفًا حاسمًا من الصراع المصري العثماني، ففي الخامسة من صباح 27 من يوليو/تموز 1839م سلم ممثلو القوى الأوروبية الخمسة (بريطانيا وفرنسا وألمانيا “بروسيا” والنمسا وروسيا) خسرو باشا مذكرة طلبوا فيها من الباب العالي أن يوقف أي قرار نهائي بشأن المسألة الشرقية يُتخذ دون اتفاق معهم، فشعر خسرو بالقوة للمرة الأولى في وجه محمد علي، فلم يكتف بأن يرفض طلب الوالي له بالاستقالة، وإنما كرر طلبه منه بإعادة الأراضي التي أخذها عنوة من السلطان وإعادة الأسطول العثماني.
فارق خسرو باشا الحياة بعدها بستة أعوام، كان شغله في أيامه الأخيرة عمل الخيرات حتى مات، ولم يقضيا أيامهما الأخيرة متحابين في أحد قصور مكة، يصليا ويتأملا.
وفي الـ7 من أغسطس/آب 1839م، أرسل السلطان “الطفل” رسالة إلى القاهرة، حملها منيب أفندي الذي عين حديثًا كمندوب لمحمد علي في إسطنبول، كان مفادها إن الأمور الآن ليست في يده أو في يد خسرو، إنما سيقررها السفراء الأوروبيون في إسطنبول”.
وهو ما تأكد بعد يومين حين التقى القنصلان البريطاني والفرنسي في القاهرة بمحمد علي وأنذراه بعواقب عدم انصياعه، حيث سيصل إلى الشواطئ المصرية أسطولين أحدهما فرنسي والآخر بريطاني.
وكان رد الباشا على التهديد أنه سيغلق ميناء الإسكندرية بسلسلة حديدية ويستدعي قواته من الحجاز، وسيأمر إبراهيم بالتوجه إلى الأناضول، فأجاباه بأن هذا التصرف سيكون قاتلًا، لأنه إذا استمر في تلك الخطة فسوف يتعين عليه أن يقاتل روسيا وليس تركيا، بموجب معاهدة “هنكار إسكله سي” التي أبرمت بين روسيا والدولة العثمانية للدفاع المشترك، إلا أن الباشا أصر على عناده قائلًا: “لو أرادت القوى الأوروبية إراقة الدماء، فسيراق”.
كتب محمد علي إلى ابنه يفصح له عن شكوكه في وجود معاهدة روسية بريطانية تنتوي تقسيم الدولة العثمانية، تحتل بمقتضاها روسيا إسطنبول، وتحتل إنجلترا مصر، وأن الدول الأوروبية ستجبره على سحب قواته من سوريا والحجاز لمنع تقسيم الدولة العثمانية، مما لا يدع حلًا إلا القتال، فأمر ابنه ألا ينسحب من سوريا أو يسحب أي قوات من ولاية أخرى، وظلت الأوضاع متوترة عامًا بأكمله، وقائمة على ما هي عليه.
عقد اللورد بالمرستون وزير الخارجية البريطانية مؤتمر “تهدئة شرق المتوسط” في لندن عام 1840، دعا إليه كل القوى الأوروبية، وكانت نتيجته أن قدمت إنذارًا نهائيًا لمحمد علي بأن ينسحب من سوريا وأضنة وكريت والحجاز، وحين رفض، أنزلت بريطانيا قوة بحرية في بيروت وأجبرت إبراهيم على الانسحاب، مما أجبر الباشا على قبول الشروط الأوروبية، واتبعه إصدار السلطان فرمانًا في يونيو/حزيران 1841، يفيد بتعيين محمد علي واليًا على مصر مدى الحياة، وحق وراثته في سلالته من الذكور، وأن يخفض جنوده إلى 18 ألف جندي وقت السلم، وجاء نصها الأخير ملزمًا لكل ولاية تابعة للدولة العثمانية أن تطبق أي معاهدة يبرمها الباب العالي مع القوى الصديقة.
بمعنى آخر، أن مصر ستطبق معاهدة “بالطة ليمان” التجارية التي عقدتها بريطانيا العظمى مع الدولة العثمانية، التي ستؤدي في النهاية إلى انهيار نظام الاحتكار الذي طبقه محمد علي وفتح السوق المصرية وتداعي أركان دولته.
كان خسرو باشا شريكًا في اللكمة الأخيرة التي وجهت إلى محمد علي وقضت على أحلامه، وفي النهاية تعبا من تبادل اللكمات، فعاش محمد علي سنواته الأخيرة في حالة اضطراب عقلي، وفي عام 1848م أعلن الأطباء أن الرجل الذي هز أركان الإمبراطورية العثمانية لا تجوز معاملته إلا كطفل حتى يواري الثرى في 1849م، دون طلقة مدفع أو جنازة عسكرية، فكانت تلك إرادة حفيده عباس.
أما خسرو باشا ففارق الحياة بعدها بستة أعوام، وكان شغله في أيامه الأخيرة عمل الخيرات حتى مات، ولم يقضيا أيامهما الأخيرة متحابين في أحد قصور مكة، يصليا ويتأملا.