تُعرف غويانا التابعة لأقاليم فرنسا ما وراء البحار، بمركز كورو الفضائي على ساحل المحيط الأطلسي بأمريكا الجنوبية، الذي تستغله باريس لتقوية نفوذها العسكري ودعم حلفائها من القادة المستبدين، حيث يستقبل عمل الدول التي تسعى للتجسس على مواطنيها.
ليس هذا فقط، فهذه الجزيرة التي استحوذت عليها فرنسا الاستعمارية بقوة السلاح، تحكي أيضًا جزءًا من جرائم فرنسا الكثيرة، حيث أصبحت بعد أن ضمتها باريس إليها أشبه بمركز موت في الهواء الطلق، يتم فيه نفي المعارضين والمُدانين الفرنسيين، ولم يكونوا الوحيدين المعرضين للهلاك، بل حراس السجن أيضًا، كذلك العبيد الذي ينقلون إلى الجزيرة لمساعدة المستوطنين على بنائها.
في هذا التقرير الجديد لـ”نون بوست” ضمن ملف “أقاليم ما وراء البحار” سنتطرق لكيفية استحواذ فرنسا على هذا الإقليم في أمريكا اللاتينية، وتحويله بعد ذلك إلى مركز موت في الهواء الطلق دون أن تخشى التتبع القانوني، فهذه الدولة الأوروبية الاستعمارية فوق القانون.
إقليم فرنسي في أمريكا اللاتينية
تقع غويانا على الساحل الشمالي لأمريكا الجنوبية ولها حدود مع دولتي البرازيل وسورينام، تبلغ مساحتها أكثر من 83000 كيلومترًا مربعًا، وهي قليلة السكان، حيث يعيش أقل من 3 أشخاص في كل كيلومتر مربع.
يعيش معظم السكان البالغ عددهم نحو 270 ألف نسمة في العاصمة كاين أو في كورو حيث مركز الأبحاث الفضائية، لكن لسائل أن يسأل كيف امتدت يد فرنسا إلى أمريكا الجنوبية واستحوذت على هذه المنطقة الثرية؟
سنة 1498، اكتشف كريستوفر كولومبوس ساحل غويانا، بعدها بأربع سنوات فقط، بدأت أولى المستوطنات الفرنسية بالظهور بالمنطقة، قبل أن تضطر للتنازل عنها بعد أكثر من قرن لصالح البرتغال التي اعتبرت قيام مستعمرة فرنسية في أمريكا الجنوبية حيث الأراضي المقتسمة بينها وبين إسبانيا، خرقًا لمعاهدة توردسيلاس.
خلال القرن السابع عشر مباشرة بعد انهيار الإمبراطورية البرتغالية، عاد الفرنسيون لاستعمار المنطقة، فأنشأوا مستعمرات ومزارع، لكن مرة أخرى اضطروا للرحيل منها بسبب الهجمات المستمرة للسكان الأصليين ومقاومتهم هذا الاحتلال.
بفضل هؤلاء العبيد الذين يعملون على إيقاع السوط وتحت العين الساهرة للسيد القاسي، أصبحت غويانا إحدى أبرز المستعمرات الفرنسية في أمريكا اللاتينية
بعد ذلك، تناوب الهولنديون والبريطانيون على السيطرة على غويانا، لكن بعد إبرام معاهدة بريدا بتاريخ 31 من يوليو/تموز 1667، أعيدت جميع الأراضي إلى فرنسا مجددًا، وبعد إبرام معاهدة باريس سنة 1763، التي انتزعت من فرنسا جميع مستعمراتها في الأمريكيتين عدا غويانا وبعض الجزر، أرسل الملك لويس الخامس عشر آلاف المستوطنين إلى غويانا ليقطنوها.
كانت غاية هؤلاء المستوطنين جمع الذهب، فالحكومة الفرنسية قالت إن غويانا مليئة بالذهب، لكن اكتشفوا عكس ذلك، فقد تعاون المناخ الحار والأمراض الاستوائية والسكان الأصليين على إبادة الأغلبية الساحقة منهم ولم ينج إلا بضع مئات هربوا إلى جزر قبالة الشاطئ أطلقوا عليها اسم جزر الخلاص ثم عادوا بعد ذلك إلى فرنسا.
العبيد.. يحيون الأرض ثم يقتلون
أيقنت فرنسا صعوبة توطين فرنسيين في تلك الربوع، فقرّرت إرسال العبيد إلى هناك قصد المساهمة في بناء المستوطنات، نتيجة ذلك حولت العديد من الدول أبرزها السنغال وكوت ديفوار وبنين إلى مراكز لتجارة العبيد، استنادًا إلى أيديولوجية عنصرية بارزة.
استولى البحارة الفرنسيون بدعم مباشر من الدولة على العبيد الأفارقة المغلوبين على أمرهم، وتم ترحيلهم على متن سفن الرقيق إلى مستعمرة غويانا في القارة الأمريكية، حتى يحلوا محل الفرنسيين الهاربين من قسوة الحياة هناك، فإلى غاية عام 1848، كان العمل البدني للعبيد هو الطاقة الوحيدة التي تم حشدها لإنجاز أعمال الاستعمار والتنمية الاقتصادية.
شجّع الملك لويس الرابع عشر سنة 1672 على تجارة الرقيق من خلال تقديم إعانة مالية قدرها 13 جنيهًا لكل “رأس زنجي” مستورد من المستعمرات، كما أصدر قانونًا سنة 1685، ينظم حياة العبيد في المستعمرات الفرنسية، وتحرم المادة 44 من هذا القانون جميع الحقوق القانونية للعبد وتضفي الطابع الرسمي على وضع العبيد “كممتلكات منقولة” يمكن للشخص امتلاكها أو بيعها أو استبدالها.
كان تجار العبيد يفرقون العائلة الواحدة إلى وجهات متعددة عند ترحيلهم، ثم يتم مسح هويتهم حيث يعطونهم أسماءً جديدةً قبل أن يتفننوا في تعذيبهم حتى يصبحوا عبيدًا مستسلمين، فالمهم هو بناء مستوطنات جديدة في غويانا.
يحشر العبيد عراة في الظلام بين طوابق سفن تحمل ما متوسطه 350 إلى 450 منهم، الرجال والنساء والأطفال في الخلف، وغالبا ما يموت ما بين 10 و20% في الطريق، بسبب الزحام والجدري والحصبة والعطش والجوع وسوء المعاملة ومحاولة التمرد.
يعكس إقليم غويانا جرائم فرنسا ضد الإنسانية، التي لم تعترف بالغالبية منها إلى الآن رغم المطالب الحقوقية بذلك
الغريب أن أسماء السفن والطرادات والفرقاطات – التي نقلت العبيد من السواحل الإفريقية إلى المستعمرات الفرنسية الجديدة – كانت من قبيل “المحسن، المحبوب، الفضيلة، العدالة، المساواة، الأخوة، أب العائلة، الإخوة الطيبون، المواطن الصالح”.
بفضل هؤلاء العبيد الذين يعملون على إيقاع السوط وتحت العين الساهرة للسيد القاسي، أصبحت غويانا إحدى أبرز المستعمرات الفرنسية في أمريكا اللاتينية، لذلك كانت تجارة العبيد مربحة لهم رغم تعارضها مع مبادئ حقوق الإنسان.
لكن رغم ما قدم العبيد لفرنسا، فإنهم لم ينجوا من ظروف الرق القاسية، فكان يتم إطعامهم بشكل غير متساوٍ ويخضعون لإشراف سيئ ويكادون يرتدون ملابس، ولا يتلقون رعاية جيدة في حالة المرض والإصابة، وأغلب السادة يتسمون بالوحشية، حتى إن قدرتهم على التحمل لم تنصفهم، فقد مات أغلبيتهم تحت أنظار سلطات فرنسا الاستعمارية.
مستعمرة عقابية
إلى جانب ذلك، كانت غويانا أيضًا مكانًا لترحيل المعارضين السياسيين للأنظمة الثورية المختلفة التي خلفت بعضها البعض في فرنسا، ومكانًا لنفي المدانين بالأعمال الشاقة، حيث قرر الأمير لويس نابليون (لاحقًا نابليون الثالث)، عام 1852، إرسال عدد معين من المدانين إلى غويانا.
أنشأ الفرنسيون هناك، مستعمرة عقابية في ظل تناقص عدد العبيد بسبب الموت، فقد كان يجب على المدانين البقاء في الإقليم لفترة تساوي عدد سنوات السجن، وذلك حتى يساهموا في تنمية المنطقة اقتصاديا.
اشتهرت جزيرة الخلاص المقابلة لغويانا بإيوائها المجرمين السياسيين المحكوم عليهم بالحبس الانفرادي، وبقسوة العيش فيها، وكذلك كان الحال بالنسبة لجزيرة الشيطان، ومن المساجين السياسيين المشهورين الذين أمضوا فترة سجن على تلك الجزر: ألفرد دريفوس وهنري شاريه.
كانت السلطات الفرنسية تعلم جيدًا أن أغلب المدانين بالسجن لن يفلحوا في العودة إلى فرنسا بسبب ارتفاع تكلفة الرحلة إلى هناك وسيضطرون للبقاء في غويانا حتى بعد فترة عقوبتهم السجنية، وهو ما تسعى إليه من البداية.
سنة 1852 وصلت السفينة الأولى حاملة الفوج الأول منهم، وفي سنة 1885 أصدر البرلمان الفرنسي قانونًا ينص على أن أي مواطن فرنسي سواء كان رجلًا أم امرأةً يُحكم عليه بأكثر من 3 عقوبات تزيد مدة كل منها على 3 أشهر لارتكابه جرم سرقة، سوف “يُنبذ” إلى غويانا.
كانت نية الحكومة الفرنسية من وراء تشريع هذا القانون التخلص من المجرمين في سجونها فضلًا عن زيادة عدد سكان المستعمرة الجديدة وتنمية اقتصادها، لذا كان هؤلاء المنبوذين يقضون فترة سجن تصل إلى 6 أشهر في تلك المنطقة، قبل أن يُطلق سراحهم ليصبحوا مواطنين عاديين فيها، وقد تم ترحيل أكثر من 70 ألف من المدانين الفرنسيين إلى غويانا ما بين عامي 1852 و1939.
يتبين من هنا أن إرسال المدانين إلى غويانا لم يكن سوى حكم مؤبد بالسجن، حيث توفي الكثير من المساجين جرّاء الأمراض المختلفة كالملاريا أو الحمى الصفراء التي لم تعتدها أجسادهم، ونتيجة سوء التغذية أيضًا.
لم يتم إلغاء عقوبات العمل الإجباري في القانون الجنائي الفرنسي إلا سنة 1938، وفي عام 1945، تم إغلاق المستعمرة العقابية نهائيًا، لكن بقيت آثار الفظائع والتجاوزات التي عانى منها المحكوم عليهم في المنطقة إلى الآن.
لم يكن المدانون والمعارضون الضحية الوحيدة للجشع الفرنسي، فقد كان حراس المعتقلات ضحايا لهذا الجشع أيضًا، فمن ساعة توظيفهم هناك يتم نسيانهم، ما جعل العديد منهم يموتون جراء الأمراض المنتشرة في الإقليم فضلًا عن سوء التغذية والإهمال.
يعكس إقليم غويانا جرائم فرنسا ضد الإنسانية، التي لم تعترف بالغالبية منها إلى الآن رغم المطالب الحقوقية بذلك، فهذا الإقليم مثّل لوقت طويل مركز موت في الهواء الطلق، فيه تُمارس فرنسا الاستعمارية عنجهيتها ضد السكان الأصليين والعبيد وحتى معارضي سياستها من الفرنسيين.