من منا لا يعرف “التغريبة الفلسطينية” و”عمر” وثلاثية الأندلس و”الزير سالم” و”أحلام كبيرة” و”الفصول الأربعة”، لقد خلقت هذه الأعمال الدرامية حالة فريدة من نوعها على مستوى الأعمال التليفزيونية العربية، فصالت وجالت لا في منازلنا وحسب، وإنما في وجداننا أيضًا، فرغم أن بعضها قديم لكنها ما زالت قيد المشاهدة لدى الآلاف، وتحفر عميقًا في ذاكرة من شاهدوها في مرة العرض الأولى، كما أنها خلقت حالةً من الجدل الواسع في بعض تفاصيلها بين النقاد والمشاهدين.
يشهد الجميع أن عظمة تلك الأعمال الدرامية تعود إلى مخرجها السوري حاتم علي الذي شاءت الأقدار أن يغادر عالمنا اليوم عن 58 عامًا، مختتمًا برحيله عامًا كارثيًا مروعًا، ومسيرة فنية آسرة، بأزمة قلبية في أحد الفنادق مصر، كما ذكرت وسائل إعلامية عدة. كان حاتم علي حالة فنية فريدة عربيًا، قلما تجد لأعماله نظيرًا، وكم تحلقت العوائل أمام الشاشات بانتظار جديد أعماله، التي تلامس واقع الناس وحياتهم.
ولد حاتم علي في يونيو/حزيران من عام 1962 وينحدر من الجولان السوري المحتل وهو أحد سكان مخيم اليرموك بدمشق، بدأ المخرج السوري حياته الفنية ككاتب مسرحي بالإضافة إلى إعداد النصوص الدرامية والقصص القصيرة، يقول الراحل علي: “نشرت مجموعتين، الأولى بعنوان موت مدرس التاريخ، والثانية بعنوان حدث وما لم يحدث، ونشرت أيضًا مجموعة مسرحيات ضمن كتاب عنوانه ثلاث مسرحيات فلسطينية ضمن الحصار، وبعدها أشرفت على عرضين مسرحيين لطلبة المعهد العالي للفنون المسرحية، أي أن البداية الفعلية كانت عام 1982، من بداية دراستي”، وفي عام 1986 تخرج في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق حاصلًا على إجازة في الفنون المسرحية من قسم التمثيل وذلك بعد أن درس الفلسفة، ويعتبر حاتم علي عضوًا في نقابة الفنانين بسوريا.
بدأ المخرج حاتم علي بمجال التمثيل مع المخرج هيثم حقي في مسلسل دائرة النور عام 1988 كما توالت مشاركته بتجسيد شخصيات مختلفة متنوعة بين الأدوار التاريخية والبدوية والشخصيات المعاصرة، وأثبت نفسه كأهم المخرجين العرب عندما بدأ مشواره الإخراجي، حيث توجه إلى الإخراج التليفزيوني في منتصف التسعينيات وقدم رصيدًا كبيرًا من الأفلام التليفزيونية الروائية إضافةً إلى مسلسلات ثلاثية وسباعية.
قدم حاتم علي مسلسلات اجتماعية وتاريخية عظيمة، ومن أهم ما قدمه مسلسل “الزير سالم” الذي يعده النقاد والباحثون في مجال الدراما نقطة تحول في مسيرته الفنية، إلى ذلك برزت الرباعية الأندلسية التي أنجز منها 3 أجزاء ولم ينجز الرابع وتُعتبر هذه السلسلة هي الأهم التي تتحدث عن الدراما التاريخية العربية، إضافةً إلى المسلسل الذي يروي سيرة الخليفة عمر بن الخطاب.
كما أخرج “علي” عددًا من المسلسلات المصرية بداية بمسلسل “تحت الأرض” وبعدها أخرج مسلسل “حجر جهنم”، وفي عالم المسرح كتب ثلاث مسرحيات بالتعاون مع المخرج المسرحي زيناتي قدسية بعنوان الحصار، كما كتب مسرحية “حكاية مسعود” التي أخرجها زيناتي قدسية لصالح فرقة القنيطرة، أما أعماله المسرحية التي كتبها فهي: “مات 3 مرات” عام 1996 و”البارحة – اليوم – وغدًا” عام 1998 و”أهل الهوى” عام 2003.
أهم الأعمال
الرباعية غير المكتملة
بذل حاتم علي جهدًا كبيرًا بإخراج هذه السلسلة لتصديرها للعالم العربي واكتملت 3 أجزاء إلا أن الجزء الرابع لم يتم حيث كان من المقرر إنتاجه عام 2007 بعنوان “سقوط غرناطة”، وصرَّح حينها قائلًا: “سبب التأجيل كان عدم وجود جهة منتجة تنتج العمل، وأن المسلسل مكتوب ونصُّه جاهز، فقد انتهى وليد سيف من كتابته منذ سنوات إلا أن مشكلة عدم توافر شركة الإنتاج هي التي عطلت المسلسل”.
يقول حاتم علي عن سلسلة الأندلس: “أعتقد أنه عندما بدأنا بصقر قريش، كانت الأندلس أرضًا خصبة لأعمال فنية ذات مناخ وفضاء فني مختلف، بطبيعة الحال أصبح هناك أكثر من عمل تبنته أكثر من جهة يسير في الإطار نفسه، وربما هذا ما أوقعنا بالتكرار. ومع ذلك أنا شخصيًا لا أحبذ أن آخذ دور أساتذة التاريخ في كليات التاريخ”، ويضيف الراحل “العمل التاريخي لا يستمد مشروعيته إلا من قدرته على طرح أسئلة راهنة ومعاصرة، لكن من دون السقوط في فخ الإسقاط وهو قياس أحداث الماضي بمسطرة الحاضر. صحيح أن التاريخ يعيد نفسه لكن ليس بهذا الشكل المبسط، لأن آليات التاريخ نفسه التي تتكرر”.
يقول الكاتب إسلام السقا عن هذا المسلسل: “كان التعامل مع الأندلس محفوفًا بالمخاطر، وكأن حاتم علي يلقي بنفسه وسط حقل من الألغام، كيف لا وهي التي تملك في وجدان الكثيرين محبةً كبيرةً وتطلعًا إلى عصر زال وتمنّيات بعودته، لذا فإن الخطأ فيه بألف، ومع ذلك يستطيع حاتم علي أن يخلق لكل مسلسل في الثلاثية أجواءً مميزةً وألوانًا خاصةً تخدم اللحظة التاريخية التي يتناولها العمل”.
التغريبة الفلسطينية
دأب المخرج الراحل على إظهار المعاناة التي يعاني منها الشعب الفلسطيني وظهر ذلك الاهتمام عندما أخرج مسلسل التغريبة الفلسطينية الذي حجز دورًا في أفضل ما أنتج عن القضية المركزية للعرب، ويتحدث عن الثورة الفلسطينية ضد الاستعمار البريطاني مرورًا بالنكبة ومذابح الصهاينة.
في رده على سؤال: هل سيكون هناك استكمال للفترة التاريخية التي توقفت عندها التغريبة الفلسطينية؟ يجيب حاتم علي: “هذا الموضوع مهم جدًا وتناقشنا فيه كثيرًا لكنه ليس سهلًا فهو يشبه المشي في حقل من الألغام، لأن أي متابعة بعد اللحظة التي توقفنا عندها، ستدخلك في مراحل مختلف عليها ومواضيع شائكة ما عادت تخص الفلسطينيين وحدهم، بل تخص أنظمة عربية كثيرة، ولا ننسى أن العمل التليفزيوني في النهاية محكوم بوسائل عرضه وأقصد هنا أن التليفزيونات العربية سواء كانت خاصة أم عامة في نهاية الأمر مرتهنة، وهي جزء من الإعلام الرسمي الملحقة به، وبالتالي فإن جزءًا ثانيًا للتغريبة الفلسطينية سيكون مشروعًا مرحليًا مؤشرًا”.
إضافة إلى هذه المسلسلات أخرج حاتم علي عشرات المسلسلات وشارك بالتمثيل في العشرات أيضًا إضافة إلى عمله المسرحي، حاز حاتم العديد من الجوائز في مهرجانات متعددة في الدول العربية.
حاتم في السياسة
لم يبرز اصطفاف حاتم علي خلال أحداث الثورة السورية إلى جانب أحد، لكن صدرت له تصريحات قال فيها: “الثورات لم تكتمل بعد، وتحتاج إلى دراسة لتنفيذ أهدافها التي تُخرِج الشعوب من النفق الضيق الذي يعيشون فيه إلى طريق الحريات، ولا بد أن ينتبهوا إلى أن تمزيق الوطن ليس في صالح ثوراتهم”، ويضيف علي بخصوص الأزمة السورية: “سوريا ليست بخير، ويعيش شعبها مأساة حقيقية ورائحة الدم تفوح في الشوارع، ولم أتخيل يومًا أن تكون سوريا بها أحداث دموية، الذي يحدث يجعلني قلقًا على الشعب، وإذا استمر الوضع كثيرًا فمن الصعب الرجوع إلى الاستقرار بسهولة، ولا نملك إلا الدعاء لحماية الشعب السوري”.
عقب انتشار خبر وفاته ظهر اليوم الثلاثاء، سرت على شبكات التواصل الاجتماعي رثاءات السوريين لرحيل حاتم علي، وفي السياق غرد الباحث والكاتب السوري أحمد أبازيد على “تويتر”، “حاتم علي فنان كبير ومبدع حقيقي أحدث ثورة في الدراما العربية وأخرج أفضل مسلسلات شاهدها العرب في آخر عقدين وأصبحت أعماله جزءًا من الثقافة العامة للجميع: من الزير سالم إلى التغريبة الفلسطينية وعمر وأحلام كبيرة وثلاثية الأندلس رحمه الله”.
#حاتم_علي فنان كبير ومبدع حقيقي
أحدث ثورة في الدراما العربية وأخرج أفضل مسلسلات شاهدها العرب في آخر عقدين وأصبحت أعماله جزءاً من الثقافة العامة للجميع: من الزير سالم إلى التغريبة الفلسطينية وعمر وأحلام كبيرة وثلاثية الأندلس
رحمه الله
— أحمد أبازيد (@abazeid89) December 29, 2020
يقول الناشر السعودي نواف القديمي عن حاتم علي: “رحم الله حاتم علي، ابن الجولان الذي أخرج أعظم أعمال الدراما العربية، وفاته المفاجئة خبر صادم. في الحوار الطويل الذي أجري معه وصدر في كتاب قال أنه يعرف ماذا يعني النزوح والتهجير لأنه جربه، لذلك حين أخرج ملحمة التغريبة الفلسطينية كان يتعامل مع تجربة عايشها”.
رحم الله حاتم علي، ابن الجولان الذي أخرج أعظم أعمال الدراما العربية، وفاته المفاجئة خبر صادم.
في الحوار الطويل الذي أجري معه وصدر في كتاب قال أنه يعرف ماذا يعني النزوح والتهجير لأنه جربه، لذلك حين أخرج ملحمة التغريبة الفلسطينية كان يتعامل مع تجربة عايشها .. pic.twitter.com/L2aEvR1Orr
— نواف القديمي (@Alqudaimi) December 29, 2020
كتب الصحفي منير ربيح يرثي علي: “مات عرّاب دراسة ملوك الطوائف.. مات الذي أحيا أمواتا.. كانت فصولنا أربعة.. رسمها حاتم علي بقلم حمرة.. دفنه الصراع على الرمال.. في ربيع قرطبة وخريف أيامنا.. أحلامنا كبيرة.. لكن التغريبة أقصى وأعنف.. مات صانع أيقونة التاريخ.. صقر قريش وصلاح الدين.. والزير سالم.. مات وضربنا بحجر جهنم.. لعلّ آخر الليل يأتي من خارج الزمن.. فنحيطك بطوق الياسمين”.
ينعي الصحفي التونسي عبد السلام المرخي المخرج السوري: “مدينون بالكثير لحاتم علي، لعواطفنا القوية وذاكرتنا المنسية، للماضي الذي صار منا وللقضية التي رسخت فينا.. رحل ابن الجولان المحتل حاملاً ما تبقى من فتات الأندلس، وتاركًا الفلسطينيين في تغربيتهم.. وأمثاله لا يرحلون”.
مدينون بالكثير لحاتم علي، لعواطفنا القوية وذاكرتنا المنسية، للماضي الذي صار منا وللقضية التي رسخت فينا.. رحل ابن الجولان المحتل حاملاً مع ما تبقى من فتات الأندلس، وتاركاً الفلسطنيين في تغربيتهم.. وأمثاله لا يرحلون #حاتم_علي
— عبد السلام المرخي (@merk5i) December 29, 2020
الناشط السوري ماجد عبد النور من جهته كتب على تويتر: “رحم الله حاتم علي، له حيّز كبير في ذاكرة السوريين والعرب كأفضل مخرج لأعظم مسلسات عرفتها الدراما العربية، لم يُسجل لحاتم علي موقف مؤيد لطاغية دمشق كغيره من المنافقين، مات غريبا في أرض مصر بعد أن عاش شاهدًا على تغريبة السوريين”.
رحم الله حاتم علي ، له حيّز كبير في ذاكرة السوريين والعرب كأفضل مخرج لأعظم مسلسات عرفتها الدراما العربية، لم يُسجل لحاتم علي موقف مؤيد لطاغية دمشق كغيره من المنافقين، مات غريبا في أرض مصر بعد أن عاش شاهداً على تغريبة السوريين . pic.twitter.com/vIcamlitmh
— ماجد عبد النور (@Magedabdelnour1) December 29, 2020
يودع السوريون اليوم بحزن مخرجًا كبيرًا سار معهم بأعماله التي لامست قلوبهم وطنيًا ودينيًا وتاريخيًا واجتماعيًا، حيث رسم بسمة على الأفواه في الفصول الأربعة وأسال الدموع على تغريبة العرب الفلسطينية كما قدّم لنا تاريخنا المشرق بعمر وصلاح الدين، ولم ينس علي أن يستخلص العبر من تاريخ الأندلس.