“المقاطعة عنوان الرجولة والحزم، والأمة التي تثبت على مقاطعة من يسيئ إليها تشعر الأمم كلها بالحرمة لها، وفي مقدمة من يحترمها أعداؤها. وبالمقاطعة تعرف الأمة مواطن ضعفها، وتنتبه إلى ما ينقصها في صناعتها وتجارتها”، ربما يخطر للبعض أن هذه الكلمات خرجت في هذه الأيام خلال حملة مقاطعة البضائع الفرنسية من قبل العالم الإسلامي، إلا أنها في الحقيقة كُتِبت في مقال كتبه العلامة السوري محب الدين الخطيب بمجلة الفتح عام 1929، لكنها ترددت في الأونة الأخيرة كثيرًا على لسان المقاطعين.
والشيخ الخطيب هو أحد أعلام العمل الحركي الإسلامي ومن أبرز الشخصيات التي كانت تعمل إلى جانب حسن البنا، إذ كان صحفيًا بارعًا ومؤلفًا بعدد من القضايا، تنقل طوال حياته من مدينة إلى أخرى ينشر فيها المعرفة والتعليم، داعيًا إلى الإسلام ومحبًا للعروبة، وفي هذا الخصوص قال القرضاوي “محب الدين الخطيب انتقل في دنيا الكفاح الإسلامي ما بين دمشق وبيروت وتركيا والقاهرة واليمن ومكة المكرمة، انتقال المكافح الذي يقف في مقدمة الصفوف”.
وعلى الرغم من أن وفاته كانت في 30 من ديسمبر/كانون الأول 1969 لكن كلماته بقيت خالدة وعباراته ما زالت متداولة، فمن هو الشيخ السوري العالم الذي قارع التبشيرية البروتستانتية والاستعمار الفرنسي والحركة الصهيونية ورد على الشيعة؟
حياته
ولد محب الدين الخطيب في دمشق عام 1886 لأسرة دمشقية محافظة ذات أصول عراقية تنحدر من العاصمة بغداد، ونزحت قديمًا إلى سوريا واستقر فرع منها في مدينة حماة وقسم آخر في دمشق وصارت من أكبر الأسر الدمشقية عددًا، ويُقال بأنها امتداد لنسل الشيخ عبد القادر الجيلاني.
يعد والد الشيخ محب الدين من أفاضل رجال دمشق وهو أبو الفتح الخطيب، حيث كان أمين دار الكتب الظاهرية، ثم تولى التدريس والوعظ في الجامع الأموي، وله عدة مؤلفات منها “مختصر تاريخ ابن عساكر” في خمسة أجزاء و”مختصر تيسير الطالب” و”شرح للعوامل”، أما والدته فهي آسية الجلاد المعروفة بالصلاح وعمل الخير، وتوفيت بعد عودتها من رحلة الحج وكان محب الدين صغيرًا.
تعليمه
تعلم محب الدين في دمشق، وكان تلميذًا في مكتب عنبر، وبعد وفاته ترك الدراسة هناك وتوجه لدروس الدين إلى أن عاد الشيخ طاهر الجزائري إلى دمشق فلازمه وأصبح الشيخ الجزائري هو المرشد لمحب الدين، حيث حثه على العلم وقراءة التراث، ويرجع الفضل للشيخ طاهر بحمل محب الدين للعروبة والمنافحة عنها، فقد زرع الجزائري في الخطيب فكرة استنهاض العرب من سباتهم الطويل، وكان محب الدين الخطيب يقول عنه: “من هذا الشيخ الحكيم عرفت عروبتي وإسلامي”.
انتقل الخطيب إلى إسطنبول عندما كانت عاصمةً للدولة العثمانية بعد أن أنهى دراسته الثانويّة في بيروت، والتحق هناك بكليتي الآداب والحقوق، وآنذاك أقنع محب الدين بعض زملائه من الشباب العربي الموجودين في إسطنبول لتعلّم لسان العرب بعد ما شاهده من غياب للغة القرآن على ألسنتهم، وبعد مدة أسس جمعية النهضة العربية.
في ذلك الوقت، شعر الأتراك الاتحاديون بنشاط جمعية النهضة العربية فداهموا غرفة محب الدين، لكنه نجا منهم، وبعد أن اشتدت الرقابة الاتحادية على الخطيب غادر إلى دمشق، ومن العاصمة السورية بدأ رحلته الجديدة باتجاه اليمن، وخلال الرحلة توقف في مصر، حيث التقى شيخه طاهر الجزائري ومحمد كرد علي واتصل فيها بأركان جمعية الشورى العثمانية، الذين كانوا يطالبون بالحكم النيابي وإعلان الدستور وفوضوه بتأسيس فرع جديد لجمعيتهم في اليمن.
نشط الخطيب في اليمن بكل الأصعدة، وبمجرد إعلان الدستور العثماني عام 1908 عاد إلى موطنه دمشق، لينشط في مجال الدفاع عن حقوق العرب بوجه حركة التتريك، وتمت ملاحقته مجددًا لينتقل إلى القاهرة وفيها شارك بجريدة “المؤيد”، وفي سنة 1913م أسس الشيخ محمد رشيد رضا مدرسة الدعوة والإرشاد فدرس فيها الشيخ محب الدين.
لم يسع للانفصال
لم يسع الخطيب للانفصال عن الدولة العثمانية، فكان يقول: “إني أقر بكل صدق، بأني أنا وجميع من استعنت بهم، وتعاونت معهم من رجالات العرب وشبابهم، لم يخطر على بالنا الانفصال عن الدولة العثمانية”، لكن كان عمله كما يقول خدمة للغة العربية ودفاعًا عنه ويذكر: “من مصلحة العرب في الدولة العثمانية، أن تعترف لهم الدولة بلغتهم في الإدارة والتعليم في البلاد التي يتكلم أهلها العربية، وألا تبلغ فيها الحماقة إلى حد أن يكون التعليم في بلادهم بلغة أجنبية عنهم، وإلى حد أن تكون لغتهم محرَّمًا عليهم أن تكون لغة الإدارة والقضاء في صميم الوطن العربي”.
دخل الفرنسيون دمشق عام 1920، فغادرها الخطيب إلى مصر، وعمل في تحرير جريدة الأهرام وأسس المكتبة السلفيّة ومطبعتها وأصدر مجلة الزهراء، ثم أسس مجلة الفتح التي تعد من أقوى المجلات الإسلامية التي ظهرت في العالم العربي، واستمرت 25 عامًا في مرحلة من أصعب المراحل التي مرت بها الأمة الإسلامية في تاريخها الحديث، وقد “تبنت الفتح في تلك المرحلة العصيبة قضايا العالم الإسلامي، واستقطبت حولها كتابًا كثيرين من بلاد العالم الإسلامي كله، وتصدت للدفاع عن حقائق الإسلام وحقوق المسلمين”.
يقول الشيخ محب الدين عن مجلة الفتح: “الفتح أنشئت لمماشاة الحركة الإسلامية، وتسجيل أطوارها، ولسد الحاجة إلى أحد يترنم بحقائق الإسلام، مستهدفًا تثقيف النشء الإسلامي، وصبغه بصبغة إسلامية أصيلة يظهر أثرها في عقائد الشباب وأخلاقهم وتصرفاتهم، وحماية الميراث التاريخي الذي وصلت أمانته إلى هذا الجيل من الأجيال الإسلامية”.
العلاقة مع البنا
أسس جمعية الشبان المسلمين بالتعاون مع عدد من شخصيات مصرية منهم أحمد تيمور ومحمد الخضر حسين شيخ الأزهر الأسبق، كان الهدف منها مقاومة الإلحاد والتغريب وشبهات المستشرقين والدعوة لمكارم الأخلاق والتعامل المرن مع الحضارة الغربية باقتباس النافع والمفيد وتقديم البديل للشباب لقضاء وقت فراغهم في أنشطة رياضية مفيدة، وكان للجمعية دور ملموس في الشباب المصري، ومن أعضائها حسن البنا، قبل إنشائه جماعة الإخوان، وكانت مجلة الفتح بمثابة الناطق الإعلامي للجمعية فتنشر أخبارها وندواتها.
يقول الشيخ يوسف القرضاوي عن علاقة محب الدين الخطيب مع حسن البنا: “السيد محب الدين قد اكتشف من قديم موهبة الشاب النابه، المتخرج حديثًا في دار العلوم: حسن البنا، وطلب إليه أن يكتب في مجلته (الفتح) وشجعه على ذلك، فكتب حسن البنا أول مقال له بعنوان “الدعوة إلى الله”، وكان الخطيب يباهي بأن حسن البنا من اكتشافه، وأنه ممن ساهم في صناعته”.
يقول محب الدين الخطيب عن حسن البنا: “الأستاذ حسن البنا أمة وحده، وقوة كنتُ أَنشُدها في نفس مؤمن، فلم أجدها، إلا يوم عرفتُه في تلك الغرفة المتواضعة من دار المطبعة السلفية سنة 1346هـ، وكنتُ ابنَ صنعة يوم اكتشفت بيني وبين نفسي حاجة الإسلام إلى هذا الداعية القوي الصابر المثابر، الذي يعطي الدعوة من ذات نفسه ما هي في حاجة إليه، من قوة ومرونة، ولين وجلد، وصبر وثبات إلى النهاية”.
طلب حسن البنا من الخطيب المساعدة في إنشاء جريدة جماعة الإخوان المسلمين، وترأس محب الدين تحرير الجريدة وطبعها بالمطبعة السلفية، وبقي يرأسها ثلاث سنوات، وعقب ذلك واصل الخطيب الكتابة في العديد من الصحف والمجلات التابعة لجماعة الإخوان.
محب الدين الخطيب والشيعة
كانت علاقة محب الدين مع الشيعة متوترة، فقد كان يحذر منهم حتى إنه كتب كتابه الأشهر وهو “الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية الإثنا عشرية”، وعنه يقول الشيخ يوسف القرضاوي إنه “أثار قضايا خطيرة عن القرآن عند الشيعة، والقول بتحريفه ونقصه، ومَن ألف في ذلك من الشيعة، وخصوصًا كتاب “فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب” – أي القرآن العظيم – للنوري الطبرسي، الذي احتفل الشيعة بوفاته احتفالًا كبيرًا، ودفنوه بالقرب من قبر الإمام علي رضي الله عنه”.
بعد أن قرر الشيعة إرسال دعاتهم لمصر، وتأسيسهم لدار التقريب في القاهرة عام 1946، رفض محب الدين فكرة التقريب وحاربها، وكان ينادي بـ”التقريب بين أهل المذاهب في المواقف المشتركة لا تقريب المذاهب نفسها لاستحالة ذلك”.
وركز الخطيب على أن المشكلة في المذهب الشيعي الذي “يحتوي على عقائد كفرية تطعن بالقرآن الكريم والصحابة وأمهات المؤمنين”، وكان يقول: “لماذا لم يسعَ الشيعة لإنشاء دار تقريب في طهران أو قم أو النجف أو جبل عامل أو غيرها من مراكز الدعاية للتشيع”، كما رد على رفيقه حسن البنا واختلف معه بهذا الخصوص، إذ كان البنا يميل إلى مبدأ التقريب مع الشيعة.
يضيف القرضاوي: “كتب محب الدين الخطيب عدة كتب ورسائل يدافع فيها عن الصحابة، مثل تحقيقه وتعليقه ونشره للجزء الخاص بموقف الصحابة من كتاب العلامة المالكي القاضي أبي بكر بن العربي، المعروف باسم “العواصم من القواصم” ومثل حواشيه على كتاب “المنتقى” من منهاج الاعتدال للذهبي. كما كتب كتابًا سماه “مع الرعيل الأول”، أبرز فيه مكانة الصحابة في الدين وجهادهم وجهودهم في نصرة خاتم النبيين، وكتب كذلك عن “حملة رسالة الإسلام الأولون” وبين مناقبهم وفضائلهم، وما كانوا يحملونه من قيم عليا، ومثل رفيعة، تجعلهم أبعد ما يكونون عما وصفهم به الذين شوهوهم ظلمًا وزورًا”.
لم يكن الخطيب إلا مدافعًا عن أمته في مواجهة كل الأخطار، حيث نشر في مجلة المؤيد أعمالًا ضد المبشرين البروتستانت وفضح ما يكيدونه للمسلمين وألف إثر ذلك “الغارة على العالم الإسلامي”، وكان الشيخ من أوائل العلماء الذين تنبّهوا لأخطار الصهيونية وحذروا منها وكشفوا الغطاء عن حقائقها وأسرارها ومحاولة اليهود في الوصول إلى فلسطين.
في معرض حديثه يقول الشيخ القرضاوي عن محب الدين الخطيب: “لقد ساهمت كتب الأستاذ محب الدين الخطيب ومؤلفاته وتحقيقاته وترجماته، القيمة بعطائها الفكري المتجدد، وثرائها المتأصل، مع صحافته النيرة المجددة، بكل ألوانها وأسمائها، في وضع منهج متميز لدراسة المستجدات، وتجديد المسارات، وإيقاظ العقول والضمائر، وتدل مؤلفاته وكتبه على عمق تفكيره، وقوة معرفته”.