لم تترك فرنسا الاستعمارية جريمة إلا وارتكبتها – داخل أراضيها في القارة الأوروبية أو في مستعمراتها والأقاليم التابعة لها في مختلف أنحاء العالم -، جرائم ضد الإنسانية ستظل آثارها قائمة تلاحق باريس لبشاعتها.
في هذا التقرير الجديد لـ “نون بوست” ضمن ملف “أقاليم ما وراء البحار” سنتطرق معًا إلى إحدى هذه الجرائم الشنيعة بحق الشعوب المقهورة، المتمثلة في سرقة السلطات الفرنسية قسرًا مئات الأطفال الصغار من جزيرة لاريونيون في المحيط الهندي، من أجل إعادة إسكان المناطق الريفية في فرنسا.
بلد إفريقي تحت حكم فرنسي
تقع إدارة لاريونيون في المحيط الهندي شرقي إفريقيا، إلى الشرق من مدغشقر، وعلى بعد نحو 200 كيلومتر جنوب غرب موريشيوس، وتبلغ مساحتها 2.512 كيلومتر مربع، أما عدد سكان الجزيرة فتشير تقديرات يناير/كانون الثاني 2013 إلى أنه يصل إلى 840 ألفًا و974 نسمةً، وهي تضم خليطًا من العرقيات التي قدمت من الهند ومدغشقر وغيرهما، ومع ذلك فإنها تتبع فرنسا.
سنة 1507، كان المستكشف البرتغالي الدون بيدرو ماسكاريناس أول أوروبي يكتشف هذه المنطقة، وقد أطلق اسمه “ماسكاريناس” على مجموعة جزر حول ريونيون، أما جزيرة ريونيون فقد أطلق عليها اسم “سانتا أبولونيا” تيمنًا بإحدى القديسات، وكان البحارة المسلمون قد سبقوه في ذلك وعاشوا فيها زمنًا لكن لم يستقروا هناك.
بعد أكثر من قرن، احتل الفرنسيون جزيرة سانتا أبولونيا وأدارتها مستعمرة بورت لويس، موريشيوس، بالتوازي مع ذلك رحلت السلطات الفرنسية الاستعمارية عشرات المتمردين الفرنسيين إلى الجزيرة قدومًا من مدغشقر، وكان ذلك سنة 1642.
اتخذ المستعمر الفرنسي سكان جزيرة لاريونيون عبيدًا، لتنمية الأرض وتهيئة ثرواتها لفرنسا الأم الواقعة في القارة الأوروبية
عقب ذلك سميت الجزيرة “إل بوربون” تيمنًا باسم الأسرة الملكية، وأرسلت الشركة الفرنسية الشرق هندية أول 20 مستوطنًا، وكان ذلك سنة 1665، لكن مع سقوط حكم آل بوربون في فرنسا عام 1793، تغير اسم الجزيرة من بوربون إلى ريونيون، ويرمز الاسم إلى اتحاد ثوار مرسيليا مع الحرس الوطني في باريس، وفي عام 1801 سميت الجزيرة “إل بونابرت” نسبة إلى نابليون بونابرت.
بعد 9 سنوات، غزت البحرية الملكية البريطانية الجزيرة، وأعادت استخدام اسمها القديم “بوربون”، لكن سنة 1815 استعادت فرنسا الجزيرة على إثر نتائج مؤتمر فيينا، واستخدم اسم بوربون حتى سقوط البوربون خلال الثورة الفرنسية عام 1848، بعد ذلك أُعيد اسم “لاريونيون” للجزيرة.
منذ ذلك الوقت إلى الآن، بقيت هذه الجزيرة تتبع فرنسا الأم وتطبق أحكام الدستور والقوانين الفرنسية (القانون المدني وقانون العقوبات والقانون الإداري والقوانين الاجتماعية وقوانين الضرائب)، وقد أصبحت “لاريونيون” أحد أقاليم فرنسا (أقاليم ما وراء البحار) في 19 من مارس/آذار 1946.
جرائم بشعة
اتخذ المستعمر الفرنسي سكان جزيرة لاريونيون عبيدًا، لتنمية الأرض وتهيئة ثرواتها لفرنسا الأم الواقعة في القارة الأوروبية، حيث عُرفت الجزيرة بصناعة قصب السكر، إلى جانب امتلاكها ثروة سمكية مهمة.
كان العبيد يشتغلون تحت وطأة سوط السيد دون شفقة منه، فكانت الظهور منحنية والأعين ذليلة، لكن لا مفر من ذلك فالسلطات الفرنسية تحمي مستوطنيها وتشرع لهم معاملة العبيد بقسوة، فهم أقل منهم مكانة ولم يبلغوا بعد درجة الإنسانية وفق اعتقادهم.
كما تم استغلال الجزيرة كمكان لنفي المقاومين الذين قاوموا الاحتلال الفرنسي في أماكن عدة من العالم على غرار زعيم المقاومة المغربية الراحل محمد بن عبد الكريم الخطابي، الذي تم نفيه سنة 1926 إلى الجزيرة، وقد قضى الخطابي في الجزيرة نحو 21 عامًا (1926-1947).
الاتجار بالأطفال
لم تكتف فرنسا بذلك بل قامت بما هو أشنع منه، حيث سرقت سلطات هذا البلد الاستعماري قسرًا مئات الأطفال الصغار من جزيرة “لاريونيون” الإفريقية، بهدف إعادة أعمار المناطق التي تعاني من الهجرة الريفية في فرنسا الأم.
من عام 1962 إلى عام 1984، رحلت السلطات الفرنسية الاستعمارية ما لا يقل عن 2150 طفلًا ريونيونيًا قسرًا بهدف إعادة توطين المقاطعات الحضرية التي كانت تعاني من ظاهرة النزوح الجماعي.
تم تنظيم حركة الأطفال هذه تحت سلطة ميشيل ديبري، الذي كان في ذلك الوقت نائبًا عن لاريونيون (الصديق المقرب للجنرال ديغول)، للمساهمة في إعادة توطين بعض الأقسام الفرنسية، ونفذه مكتب تنمية الهجرة في المقاطعات الخارجية ولجنة في جزيرة لا ريونيون.
تروي هذه القصة، صفحةً مؤلمةً وحلقةً مظلمةً في التاريخ المعاصر الفرنسي، التي ما زالت مهملة إلى حد كبير حتى يومنا هذا
يُعرف هذا الملف باسم “أطفال لاكروز”، كون مقاطعة لاكروز وحدها استقبلت ما لا يقل عن 215 طفلًا، لأنها كانت منخفضة الكثافة السكانية ولأن السلطات المحلية نظرت بشكل إيجابي إلى استقبال أطفال المستعمرات، هبة من السماء ستسمح لهم بإنشاء مركز استقبال وعودة جديدة للحياة.
ثلث الأطفال كانوا دون الخامسة من العمر، بعضهم كان يتيمًا لكن الكثير منهم انتزعوا من آبائهم، حيث أجبرت باريس أهاليهم – وهم أميون – على توقيع إقرار بالتخلي عن أبنائهم من دون علمهم ليصبحوا بعد ذلك تحت رعاية الدولة الفرنسية.
رغم معارضة العديد من سكان الجزيرة لهذه السياسة الفرنسية العنصرية تجاه أبناء جزيرتهم، فقد واصلت سلطات باريس نهجها وزادت من عدد الأطفال الذين أُبعدوا عن أهلهم ورُحلوا نحو الريف الفرنسي قصد إعماره.
انتزع هؤلاء الأطفال من أحضان أسرهم وأرسلوا بالقوة إلى ثلاثة وثمانين مقاطعة فرنسية، وهذا هو الحد الأدنى من الأرقام التي لا يمكن دحضها واتفق عليها الخبراء الذين عملوا لمدة سنتين في لجنة حكومية أنشأتها الدولة.
عبودية جديدة
قالت السلطات الفرنسية إن رحيل هؤلاء الأطفال سيكون مؤقتًا، وسيتم إرسالهم إلى باريس لتعليمهم وبعدها سيرجعون إلى جزيرتهم الأم وإلى أهلهم وأصحابهم، لكن واقعيًا كان هذا الرحيل نهائيًا، حيث فقد العديد من هؤلاء الأطفال روابطهم الأسرية.
بررت السلطات الفرنسية عملها هذا برغبتها في إنقاذ هؤلاء الأطفال من خطر الانحراف والجريمة، ففي ستينيات القرن الماضي، عانت لاريونيون من اكتظاظ كبير، بمعدل 9 أطفال لكل أسرة، ومعدل بطالة يقترب من 40%.
قيل للأطفال ولأهلهم إنهم سيجدون في عاصمة الأنوار باريس مصيرًا يُحسدون عليه، لكن في الواقع تم انتزاعهم من عائلتهم على صغر سنهم، وحُرموا من أهلهم وتاريخهم وهويتهم، كل ذلك حتى تُرضي السلطات الفرنسية جبروتها.
تسبب النزوح الجماعي من الريف في إحداث فوضى بالعديد من المناطق الفرنسية، وتزايدت الحاجة إلى العمالة في المزارع، وقد كان الحساب بسيطًا لصديق الجنرال ديغول، ميشيل ديبري: يكفي تحريك الفائض نحو الفارغ حتى تحصل المعادلة.
في البداية تم نقل الأطفال إلى منازل للخدمات الاجتماعية في الجزيرة، لكن سرعان ما تم إرسالهم إلى البر الرئيسي، حيث تنتظرهم المعاناة الدائمة، وعند وصولهم إلى فرنسا تم توزيعهم على مناطق عدة وتم وضعهم في عائلة حاضنة أولى، وغالبًا ما تكون هذه العائلة من الفلاحين المسنين.
من ثم يتم نقلهم إلى عائلات أخرى، والمعاناة تلاحقهم فقد تم تشغيلهم عمالًا بصفة مجانية في مزارع ومصانع واقعة في مناطق ريفية فرغت من سكانها، كأننا أمام حالات عبودية جديدة استحدثتها السلطات الفرنسية.
بالإضافة إلى حالات الاستغلال الاقتصادي وسوء معاملة الأسر بالتبني، عانى هؤلاء الأطفال من تمييز الدولة ضدهم، ما جعل بعضهم ينتحر من شدة الظلم، فيما غرق آخرون في الجنون، بينما انحرف بعضهم وتوجه نحو السرقة والأعمال غير القانونية، فهم في نفي قسري دون جريمة اقترفوها.
جريمة ضد الإنسانية
تروي هذه القصة، صفحة مؤلمة وحلقة مظلمة في التاريخ المعاصر الفرنسي، التي ما زالت مهملة إلى حد كبير حتى يومنا هذا، رغم محاولات بعض الجهات الحقوقية دفع السلطات الفرنسية للاعتذار لهؤلاء الأطفال وعائلتهم وتعويضهم عما لحقهم من معاناة.
ترحيل الأطفال دون إرادتهم واستغلالهم في تهيئة أراضي مزارعين كبار دون أجر، تعتبر وفق العديد من الحقوقيين جريمة ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم، وجب محاسبة الدولة الفرنسية عليها، فهي من أشرفت عليها لأكثر من عشرين سنة.
لما يقرب من 20 عامًا، فقدت الإدارة الفرنسية عقلها إلى حد إجبار مئات القاصرين على المنفى دون أي جريمة ارتكبوها، وقد كان ذنبهم الوحيد أنهم ولدوا في جزيرة تتبع دولة لا يهمها القانون ولا إرادة الشعوب في التحرر.