لو كانت هناك جائزة تمنح لبطل العام 2020 في مصر لكان التكافل الاجتماعي والعمل الأهلي الأحق بها عن جدارة وبالتزكية، إذ أعادت جائحة كورونا التي ضربت العالم بلا استثناء الحضور اللافت لهذا العنصر المحوري رغم محاولات وأده الرسمية من قبل السلطات الحاكمة تحت مزاعم ومبررات عدة.
وفي الوقت الذي رفعت فيه الحكومة يدها عن الملايين من المتضررين من تلك الجائحة في ظل ما تعاني منه من عجز في الموارد وقلة في الإمكانات كانت المبادرات الأهلية والمجتمعية هي فرس الرهان في هذا المضمار، والتي نجحت في الإبقاء على ورقة التوت على جسد النظام.
ومن بين رحم اليأس جراء ما تسببت فيه أزمة كورونا من انهيار للواقع المعيشي لملايين المصريين من متوسطي ومحدودي الداخل، ممن فقدوا وظائفهم وتراجعت دخولهم بصورة كبيرة، خرجت حزمة من المبادرات المضيئة التي ساهمت في تقليص الكارثة والتخفيف من حدتها.
“الناس لبعضيها”
تحت هذا الشعار انطلقت عشرات المبادرات الشخصية والأهلية من بعض الشباب في مختلف المحافظات المصرية بهدف مساعدة المحتاجين والمتضررين من الوباء العالمي، وقد تسابق في ذلك رجال الأعمال والشخصيات العامة وإعلاميون وفنانون.. كل تحرك تحت لافتة واحدة “تقديم يد العون”.
“مبادرة حماية ورعاية” واحدة من إحدى المبادرات الريفية التي أطلقتها جمعية تنمية المجتمع المحلى بشنشا بمحافظة الدقهلية (شرق) ، بهدف توعية أهالي القرية بالإجراءات الاحترازية الضرورية للوقاية من الإصابة، هذا بجانب الأنشطة الخيرية الأخرى التي قدمتها على شاكلة توزيع وجبات غذائية للفقراء، ومعونات مادية، إضافة إلى توفير المستلزمات الطبية والعلاجية وتعقيم الشوارع والمدارس ودور العبادة.
الدعم الأهلي لم يقتصر على الجانب المادي وفقط، فتحت شعار “وقت القلق احنا معاك” انطلقت مبادرة شبابية أخرى هدفها الرئيسي دعم المواطنين وبث روح الطمانينة من خلال استشارات وبث فيديوهات تساعد علي التغلب علي مرحلة القلق الحالية.
تحرك إنساني أخر قام به بعض المتخصصين في الصحة النفسية والمجتمعية، هدفه تقديم الدعم النفسي للطاقم الطبي المتواجد في مواجهه كورونا، وتثمين الدور البطولي الذي يقومون به، مع التأكيد على وقوف الشعب بكافة طوائفه خلفهم حتى وإن بدر من الأفراد أي تجاوز هنا أو هناك.
أما المبادرة الأكثر حضورًا فقط أطلقها لاعبون وفنانون وإعلاميون مصريون تحت عنوان “تحدي الخير” وتم تدشينها مع بداية هذا العام بهدف كفالة مئات العائلات الفقيرة المتضررة من التبعات الاقتصادية للجائحة، وقد نجحت تلك المبادرة في تحقيق الهدف منها بنسبة كبيرة.
على مر التاريخ تميز المصريون في أوقات الأزمات بتقديم يد العون الأهلي لمساندة الأعداد الغفيرة التي تعاني من العوز والفقر، الأمر لم يقتصر على دعم الأهالي وفقط، بل تجاوز ذلك إلى دعم الدولة ذاتها وقت الكوارث، كما حدث مع الجيش المصري خلال حرب الاستنزاف والسادس من أكتوبر 1973.
تعويض تخاذل الحكومة
“الناس حرفيًا لا تجد قوت يومها ولو تركناهم فالموت أو التسول في الشوارع”… هكذا علق مسعد، المدرس بإحدى المدارس الثانوية في محافظة المنيا (صعيد) لافتًا إلى أن قطاع كبير من محدودي الدخل ومتوسطيه فقدوا وظائفهم التي في أغلبها في القطاع الخاص.
وأضاف المدرس المصري في حديثه لـ “نون بوست” أن إمكانيات الدولة لا تسمح بتحمل كل تلك التبعات، خاصة في ظل العجز الذي تعاني منه الموازنة العامة وزيادة حجم الديون الخارجية لمستويات غير مسبوقة، الأمر الذي يجعل من التزام الحكومة بمسئولياتها المفروضة تجاه المواطنين حمل ثقيل يضاف إلى ما تعاني منه.
ونوه إلى أن بداية الأزمة حاولت الحكومة التخفيف من الآثار الناجمة عن الجائحة بأن منحت كل متضرر مبلغ 500 جنيهًا (32 دولار) وهو الرقم الذي رغم تدنيه لكنه ما كان يصل إلا إلى شريحة قليلة جدًا لا تساوي واحد إلى مائة من إجمالي المتضررين، فيما تم وقف تلك المنحة مؤخرًا لأسباب غير معلنة.
مارست السلطات المصرية كافة أشكال التضييق والتنكيل بالعمل الأهلي في البلاد من خلال حزمة من المشروعات التي تم تمريرها تشريعيًا بصورة عرًت المجتمع المصري تمامًا أمام أي أزمة يمر بها
وفي ظل تلك الوضعية انبرى بعض أهل الخير في كل قرية ومدينة لتكوين لجنة تكافل اجتماعي بهدف تقديم يد العون للمحتاجين، وقد تم تقسيم تلك اللجنة إلى لجان فرعية، أحدها لخدمة المصابين بالفيروس وتوفير مستلزمات العلاج لهم، وأخرى لتقديم الإرشادات والتوعية، وثالثة لجمع التبرعات لتوفير المعونات الغذائية اللازمة، حسبما أفاد أعضاء في تلك اللجان المنتشرة في مختلف المحافظات المصرية لا سيما في القرى والمناطق النائية.
ويمكن الوقوف على مستوى ما وصلت إليه الأوضاع المعيشية في مصر من خلال جولة سريعة في الطرق العامة وداخل الشوارع الرئيسية، حيث انتشر التسول بصورة لافتة للنظر، فيما يتكالب المئات في طوابير فوضوية أمام عربات توزيع الكراتين الخيرية التي يقدمها أهل الخير، بعضهم قد يتعرض للإصابة أو الاختناق في سبيل الحصول على كيس أرز أو مكرونة أو عشرات الجرامات من اللحوم.
وأد العمل الخيري
مارست السلطات المصرية كافة أشكال التضييق والتنكيل بالعمل الأهلي في البلاد من خلال حزمة من المشروعات التي تم تمريرها تشريعيًا بصورة عرت المجتمع المصري تمامًا أمام أي أزمة يمر بها، وهو ما تكشفت إرهاصاته مع تفشي فيروس كورونا حين وجد الملايين من المصريين أنفسهم على أرصفة البطالة والعوز.
ومنذ 2016 حاربت الدولة من أجل تمرير مشروع الجمعيات الأهلية بتعديلاته الخانقة للعمل الخيري بصورة كارثية، بزعم محاربة التطرف وتجفيف منابع الإرهاب على حد زعم الحكومة، وهو المشروع الذي قوبل برفض مجتمعي كبير وإدانات حقوقية مكثفة فيما أصر النظام على المضي قدمًا في تشريعه غير مبال لردود الفعل الأخرى.
وفي بيان تحت عنوان “تعامل البرلمان مع المجتمع المدني باعتباره عدوًا تحاك الخطط والقوانين السرية للقضاء عليه” رفض عدد من الأحزاب والتيارات السياسية ( 6 أحزاب سياسية و22 منظمة من المجتمع المدني) هذا المشروع المقدم للبرلمان حينها، مطالبين بإعادة النظر فيه مرة أخرى قبل فوات الأوان، معتبرين أنه في حال تمريره سيكون بمثابة مذبحة لجميع الجمعيات الأهلية في مصر، وفي ما تم ذكره في تقرير سابق لـ “نون بوست”
تسببت السياسات المالية والاقتصادية المتبعة والتي أدت إلى بلوغ الدين الخارجي للبلاد لأرقام لم تشهدها في تاريخها (112 مليار دولار) إلى ارتفاع معدلات الفقر خلال السنوات السبع الماضية تحديدًا، حيث بلغت هذا العام قرابة 29.7% من عدد السكان
وساهم هذا القانون في وضع حياة مايقرب من 25 مليون فقير مصري على المحك، كان الدعم الخيري والمعونات الأهلية هي مصدر الدخل الأبرز الذي يعينهم على تحمل كلفة الحياة الباهظة، والتي تتصاعد عامًا تلو الأخر دون زيادة موازية في معدلات الدخول.
الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي) أعلن أن متوسط خط الفقر للفرد في مصر خلال 2019/2020 وصل 857 جنيها شهريًا (55 دولار) ما يعني أن الأسرة المكونة من أربعة أفراد تحتاج إلى 3428 جنيهًا (220 دولار) شهريًا حتى تظل عند خط الفقر.
وقد تسببت السياسات المالية والاقتصادية المتبعة والتي أدت إلى بلوغ الدين الخارجي للبلاد لأرقام لم تشهدها في تاريخها (112 مليار دولار) إلى ارتفاع معدلات الفقر خلال السنوات السبع الماضية تحديدًا، حيث بلغت هذا العام قرابة 29.7% من عدد السكان، أي حوالي 30 مليون مصري تحت خط الفقر.
ورغم ضخامة هذا الرقم وما يعكسه من مؤشرات كارثية للوضعية المعيشية لدى المجتمع المصري إلا أن الواقع يتجاوز هذا الرقم بكثير لا سيما بعد التأثيرات التي أحدثتها الجائحة في التركيبة الاقتصادية للمصريين، والتي نقلت نسبة كبيرة منهم من شريحة “متوسطي الدخل” إلى “محدودي الدخل”، والبعض ليس بالقليل انتقل إلى شريحة “معدومي الدخل”.
وفي المجمل تبقى تلك المبادرات هي شخصية العام بالنسبة للمصريين، فهي البطل الحقيقي الذي يجب أن تسلط الأضواء عليه لما قدمه من دور كبير للحفاظ على المجتمع المصري من المزيد من الانهيار في الوقت الذي رفعت فيه الحكومة الراية البيضاء.