ترجمة وتحرير نون بوست
قبل بضع سنوات، وفي يوم رأس السنة الجديدة، لاحظت أنا وزوجتي أن ابننا الذي كان عمره أقل من شهرين، يتنفس بصعوبة، وقررنا الذهاب إلى قسم الطوارئ الذي دائما ما يكون مكتظا في أيام العطل. وبعد تقييم مستويات الأكسجين في الدم، قال طبيب الأطفال: “ستكونان هنا طوال الأسبوع. سوف تسوء حالته ثم تتحسن”.
أصيب ابننا بمرض يسمى الفيروس المخلوي التنفسي، وكان يتكاثر في رئتيه. ومثلما هو الحال بالنسبة لفيروس كورونا المستجد، يعاني معظم البالغين الأصحاء عند الإصابة بالفيروس المخلوي التنفسي من نزلة برد خفيفة، وقد لا تظهر عليه أي أعراض للمرض. لكن الرضع الذين يصابون بهذا الفيروس قد يعانون من عدوى رئوية حادة. بالنسبة للأطفال، لا توجد أدوية متاحة موثوق بها يمكنها وقف أو إبطاء تكاثر الفيروس المخلوي التنفسي في الرئتين.
وفقا لمصطفى خوخة، أستاذ طب الأطفال والحالات الحرجة في جامعة ييل، يقوم الأطباء أولا بإعطاء الطفل الأكسجين، وإذا لم تتحسن الحالة، فهناك سلسلة من الخطوات التدريجية الأكثر صرامة. ويوضح خوخة: “هذا العلاج يدعم الجسم حتى يتعافى، على عكس العلاج ضد الفيروس نفسه”. تلقى ابننا رعاية طبية فائقة بهدف دعم الجسم على مقاومة الفيروس، وسار الأسبوع تماما كما توقع الطبيب (ما يزال ذلك الأسبوع أسوأ ذكرى في حياتي).
رغم كل التقدم الذي شهدناه في 2020، فإن المريض الذي يتم إحضاره إلى قسم الطوارئ وهو يعاني أعراضا حادة من كوفيدـ19، سيحصل بشكل أساسي على نفس نوع الرعاية التي تلقاها ابننا، أي مساعدة الجسم على مقاومة الفيروس، ولكن العلاج لا يتضمن استهداف الفيروس بحد ذاته. والفرق بين الحالتين هو النتيجة غير المؤكدة، حيث لن يستطيع الطبيب المعالج أن يعطيك أي تطمينات بخصوص تطور الحالة.
إليك هذه القصة المختلفة ولك أن تقارن بينهما. في صباح أحد أيام الثلاثاء، في أوائل شهر كانون الأول/ ديسمبر، في مدينة كوفنتري الإنجليزية، أصبحت مارغريت كينان، بعد أيام قليلة من عيد ميلادها الحادي والتسعين، أول شخص في العالم يتلقى لقاح كوفيدـ19 الذي طورته شركتا بيونتيك وفايزر. كانت وتيرة التقدم مذهلة، حيث مرّت أقل من سنة منذ أن حذّرت السلطات الصحية الصينية منظمة الصحة العالمية، أواخر 2019، من خطر تفشي التهاب رئوي مجهول السبب في مقاطعة هوبي.
طاقم طبي يحتفي بمارغريت كينان (90 سنة) بعد أن أصبحت أول شخص في بريطانيا يتلقى لقاح كوفيدـ19 الذي طورته شركتا بيونتيك وفايزر. كوفنتري في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر.
لقد أعطتنا جائحة كوفيدـ19 الكثير من الدروس العملية السريعة حول قدرات العلم وحدوده. من خلال اللقاحات والاختبارات والمراقبة، أصبحنا نعرف إلى أين نتجه، وصارت لدينا فكرة جيدة عن كيفية الوصول إلى بر الأمان. هناك تحديات كبرى أمام التطور التكنولوجي، وهي تعتمد على الموارد الكافية والموظفين وتعديل الأطر التنظيمية. أما بالنسبة للتحديات العلمية الأخرى، فقد لا يكون من السهل تحقيق تقدم سريع في ظل صعوبة إيقاف العدوى الفيروسية الحادة أو فهم كيفية تفاعل الفيروس مع الجسد وحدوث المرض. وحسب قول عالم المناعة الحائز على جائزة نوبل، بيتر مدور، فإن “العلم هو فن الانحلالية”.
في آذار/مارس، عندما بدأت تجارب اللقاح البشري الأولى لفيروس كوفيدـ19 في سياتل، أطلقت منظمة الصحة العالمية تجربة سريرية طموحة لمحاولة تحديد الأدوية الموجودة التي يمكن أن تساعد في مقاومة فيروس سارس-كوف-2.
في تشرين الأول/ أكتوبر، أعلنت منظمة الصحة العالمية أن جميع تجارب برنامج “سوليداريتي” قد فشلت. توفرت لهذه التجارب التي تهدف إلى البحث عن أدوية موجودة فعليا يمكنها التصدي للفيروس، الكثير من الموارد المادية والبشرية، لكنها لم تحقق نجاحا يُذكر مثلما كان الحال مع اللقاحات الجديدة. ويُثبت ذلك أن الجهود التي قد يبذلها نخبة من أفضل العلماء في العالم، بدعم كبير من القطاعين العام والخاص، قد لا تكون كافية أحيانا لحل المشكلات الكبرى.
ربما لا شيء يفسر هذا بشكل أوضح مما حدث عقب توقيع الرئيس ريتشارد نيكسون على “القانون الوطني للسرطان” في 23 كانون الأول/ديسمبر 1971.
تمت صياغة ذلك القانون بحذر. وكان الرئيس قد أعلن في خطاب حالة الاتحاد في كانون الثاني/ يناير 1971 الحرب الشاملة على السرطان قائلا: “لقد حان الوقت في أمريكا لنبذل الجهد ذاته الذي أدى إلى انشطار الذرة والصعود إلى سطح القمر، من أجل التغلب على هذا المرض الخبيث”. وفي السنوات الثلاث التالية، أنفقت الحكومة الأمريكية حوالي 1.6 مليار دولار ضمن حربها على السرطان، وكانت التوقعات أن تتمكن المختبرات من تطوير علاج قبل نهاية السبعينات.
لكن إلى حد اليوم، مازال علاج السرطان بعيد المنال. في 2016، قدم نائب الرئيس الأمريكي السابق والرئيس المنتخب حاليا جو بايدن مبادرته الخاص لمكافحة السرطان، وأطلق عليها اسم “كانسر مونشوت”. كان من الواضح أن الاسم فيه استثمار سياسي للمهمة الناجحة التي أطلقتها ناسا للصعود إلى القمر، ومحاولة تخطي العقبات الكبرى أمام إنتاج مسودة جينية بتسلسل دقيق يشبه الـ23 زوجا من الكروموسومات البشرية.
مثلما تغلبت ناسا على العراقيل المختلفة من أجل الوصول إلى القمر، سمح لنا التطور التكنولوجي بالحصول على صورة جينية لمسببات كوفيد-19 في أقل من أسبوعين.
لكن مسألة مكافحة السرطان كانت مختلفة نوعا ما. في الفترة التي أطلق فيها نيكسون حملته ضد السرطان، قال سول شبيغلمان، مدير معهد أبحاث السرطان بجامعة كولومبيا ساخرا، إن “كل جهد يُبذل في هذا الوقت (لإيجاد علاج للسرطان) سيكون أشبه بمحاولة إرسال رجل إلى سطح القمر دون معرفة قوانين نيوتن حول الجاذبية”. ولقد ثبت ذلك بالفعل.
بتنا نعرف الآن عن كيفية مقاومة الجسم للعدوى الفيروسية، أكثر بكثير مما كنا نعرفه عن بيولوجيا السرطان سنة 1971. قبل أكثر من 60 سنة، في المعهد الوطني للبحوث الطبية بلندن، قام العالمان أليك إيزاك وجان ليندنمان بتعريض شظايا من أغشية بيض الدجاج لفيروس “إنفلونزا أ” معطل بالحرارة. في غضون ساعات، اكتسب السائل القدرة على التداخل مع نمو إنفلونزا أ ومجموعة من الفيروسات الأخرى. قام إيزاك وليندنمان بدراسة العامل المتداخل، والذي يرتبط بأغشية الخلايا السليمة ويحفزها على إنتاج بروتين خاص ضد الفيروس. وثبت أن هذه الجزيئات تحذر الخلايا المضيفة الأخرى استعدادا لمقاومة هجوم الفيروس.
تعتمد الفيروسات على مهاجمة الخلايا السلمية وإنتاج المزيد من النسخ الفيروسية، وتتداخل الإنترفيرونات مع جميع مراحل العملية تقريبا، من خلال زيادة صعوبة دخول الفيروس إلى الخلايا، وإبطاء تصنيع البروتين الخلوي اللازم لصنع المزيد من النسخ من الفيروس، والحد من دخول الجسيمات الفيروسية التي تم إنتاجها. يعد الإنترفيرون الآن جزءا من الأدوية المضادة لأمراض متنوعة، مثل التصلب المتعدد والسرطان، بالإضافة إلى التهاب الكبد الفيروسي ج، وغيره من الالتهابات الفيروسية المزمنة.
تمت تجربة استراتيجيات متعددة تعتمد على مضادات الفيروسات (إنترفيرونات) للتعامل مع وباء كوفيد-19، من خلال حقنها عبر الوريد أو استنشاقها، وكانت النتائج غير حاسمة. يقول عالم المناعة أكيكو إيواساكي من جامعة ييل: “المرحلة الوحيدة التي قد يكون فيها الإنترفيرون المؤتلف فعالا تكون عند استخدامه قبل الإصابة بالعدوى، أو بعد الإصابة بوقت وجيز، لكن تحقيق ذلك كان صعبا للغاية، لأن أغلب المصابين لم تظهر عليهم الأعراض مبكرا”.
أدى الإقبال الكبير على الأدوية المضادة للفيروسات هذه السنة إلى العودة إلى الأساليب الفاشلة التي جُرّبت سابقا. في سنة 2016، أفاد فريق من الباحثين من معهد البحوث الطبية للأمراض المعدية التابع للجيش الأمريكي في فريدريك بولاية ماريلاند، وشركة التكنولوجيا الحيوية “غيلياد ساينسز”، بأن الجزيء GS-5734 يحمي قردة الريسوس من الإصابة بفيروس الإيبولا. لكن للأسف، فشل GS-5734، أو كما يُعرف أكثر الآن باسم ريمديسيفير، في التجارب السريرية على البشر.
يُعتبر هذا المضاد فعالا ضد الفيروسات، وتشير الأدلة إلى أنه يقاوم الإنزيم الذي تستخدمه الفيروسات في نسخ جينوماتها. لكن ريمديسيفير لم يتمكن من مقاومة فيروس إيبولا. كما اختبرت شركة “غيلياد” فعاليته ضد التهاب الكبد الفيروسي ج، والفيروس المخلوي التنفسي، لكن النتائج كانت مخيبة للآمال.
من اليسار إلى اليمين: الفيروس المخلوي التنفسي وفيروس كورونا وفيروس إيبولا.
في أواخر شهر نيسان/ أبريل، أعلن مدير المعهد الوطني الأمريكي للحساسية والأمراض المعدية، أنتوني فاوتشي، وهو أحد أعضاء الفريق الحكومي الذي عيّنه البيت الأبيض لمكافحة فيروس كورونا، أن تجارب ريمديسيفير في الولايات المتحدة قد أثبتت فعاليته في علاج مرضى كورونا. إلا أن المعطيات العلمية التي تدعم هذا الرأي لم تخرج للعلن، ولم تتم مراجعتها.
أوضح فاوتشي أن العقار لم يقلل عدد الوفيات بشكل ملموس، لكنه ادعى أن ريمديسيفير قلّل من نسبة المصابين الذين يُنقلون إلى المستشفيات بحوالي 30 بالمئة. وقد كان هذا أول خبر سار في الربيع الماضي، حين فُرضت إجراءات الإغلاق في مختلف أنحاء العالم. إلا أن نتائج تجربة أجرتها منظمة الصحة العالمية، ونُشرت في الخريف، لم تؤكد صحة الادعاءات الأمريكية. وفي الوقت الحالي، تنصح منظمة الصحة العالمية بعدم إعطاء دواء ريمديسيفير لعلاج المصابين بفيروس كورونا.
بدأنا للتو نفهم طبيعة العلاقة بين هذا الفيروس الجديد وأجسادنا، وهو تأثير يخضع لعديد المتغيرات مثل الجنس والعمر والظروف السابقة للإصابة. إن الطريقة الوحيدة التي اتضحت فعاليتها حاليا للحد من عدد الوفيات للمرضى المحتاجين للعلاج بأجهزة التنفس الاصطناعي، هو العلاج بعقار ديكساميثازون، وفق ما أثبتته التجارب في مستشفيات المملكة المتحدة. هذا العقار ليس ناجعا بشكل مباشر في القضاء على الفيروس، وإنما هو وسيلة لتخفيف آثار العدوى وتعزيز الاستجابة المناعية. فعقار ديكساميثازون يزيد في الحقيقة من قدرة الجسم على المقاومة، ولا يكافح الفيروس في حد ذاته.
إذن ما الذي تعلمناه عن حدود العلم؟ أولاً، تعلمنا أن النجاحات الباهرة مبنية على أساس طريق طويل من البحث العلمي. وحتى اللقاحات الفعالة، لن تكون متوفرة إلا بعد مرور فترة كافية من الزمن. تعلمنا كذلك أنه لا توجد طرق مختصرة وسريعة لنفهم كيف يُمكن لفيروس جديد أن يتسبب في مرضنا أو حتى وفاتنا.
بالنسبة لمرض السكري والسمنة وارتفاع ضغط الدم، مازلنا نبحث عن بداية الطريق في متاهة طويلة. لكن الأهم من ذلك كله، هو أننا تأكدنا مرة أخرى من صحة ذلك الدرس القديم، وهو أن “العلم هو فن الانحلالية”. في الواقع، علينا أن ندرك أنه لا يمكن مهما وفّرنا من موارد بشرية ومادية، أن نضمن أن العلم قادر على حل مشكلة ما إذا لم تتوفر الأدوات المناسبة والإطار النظري الملائم.
إن أول جائحة خلال هذا القرن، جعلت البشرية بكل إمكاناتها، تقف عاجزة أمام مرض جديد
سجلت كوريا الجنوبية أول حالة إصابة بالفيروس في 20 كانون الثاني/ يناير. وبعد ذلك بـ11 يوما، أكدت إسبانيا أول إصابة بالفيروس، وهو سائح ألماني في جزر الكناري. يبلغ عدد سكان كل من إسبانيا وكوريا الجنوبية حوالي 50 مليون نسمة. إلى غاية يوم نشر هذا التقرير، سجلت كوريا الجنوبية 879 حالة وفاة جراء الفيروس، بينما تخطت الحصيلة في إسبانيا أكثر من 50 ألف حالة وفاة.
فوّت الغرب الفرصة، فنجاعة الاختبارات وتعقب واحتواء فيروس كورونا كانت بالأساس مشكلة تكنولوجية وتنظيمية قابلة للحل. يمكننا في هذا الوقت بالذات أن نسمع صدى الحرب التي أطلقها نيكسون ضد السرطان. في الواقع، لم يكن تراجع معدل الوفيات بالسرطان نتيجة علاج سحري، وإنما كان نتاج تراجع وفيات سرطان الرئة بعد الحرب على التبغ. وقد استخلص شبيغلمان حينذاك، أنه حتى لو لم يكن لدينا قانون الجاذبية، فلدينا القاعدة الذهبية في الطب، وهو البدء دائمًا بالوقاية.
دفع فيروس كورونا العلم إلى أقصى حدوده، وفي بعض الحالات، رسم حدوده بوضوح. إن أول جائحة خلال هذا القرن، جعلت البشرية بكل إمكاناتها، تقف عاجزة أمام مرض جديد.
منذ 1918، تطورت العديد من العلوم الطبية بشكل هائل، مثل علم الفيروسات وعلم المناعة وطب العناية المركزة وعلم الأوبئة. لكن في حالات الطوارئ الصحية العامة، لا بد أن نستثمر أفضل ما وصل إليه العلم لاتخاذ أفضل القرارات، ولسوء الحظ لم يكن هذا ما قمنا به خلال أزمة كورونا.
المصدر: فايننشال تايمز