ترجمة وتحرير نون بوست
خلال محاضرته التاريخية في القاهرة في حزيران/ يونيو 2009، أعلن الرئيس الأمريكي آنذاك باراك أوباما أمام حشد من الشباب المصري المتحمس أنه جاء بحثًا عن “بداية جديدة بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي استنادًا إلى المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل، وهي بداية مبنية على أساس حقيقة أن أميركا والإسلام لا يعارضان بعضهما البعض، ولا داعي أبدا للتنافس فيما بينهما”.
لكن عندما ترك أوباما منصبه بعد ثماني سنوات، كان الوضع في الشرق الأوسط لم يشهد سوى تغييرات قليلة، حيث استمرت الحروب، وتزايد عدد القتلى وتضاعف عدد الميليشيات، وتفاقمت حالة عدم الاستقرار.
كان لابد لأوباما التفكير مليا في فشله في تحقيق المثل العليا التي تطرق لها خطابه الشهير في القاهرة. وقد تطرق لذلك في مذكراته الجديدة بعنوان “أرض الميعاد”، التي صدرت في تشرين الثاني/ نوفمبر، بقوله: “كان عليّ الإجابة، بالطبع – بالإشارة إلى أنني ربما أكون أول من يعترف بأنه لا يوجد خطاب واحد قادر على حل التحديات طويلة الأمد التي تواجهها المنطقة”، مضيفًا “لقد حاولنا بشدة تنفيذ كل مبادرة تطرقت إليها في ذلك اليوم، سواء كانت ضخمة (مثل عقد صفقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين) أو صغيرة (مثل إنشاء برامج تدريبية لرواد الأعمال المحتملين)؛ ومازلت أؤمن بكل تلك الحجج التي قدمتها في القاهرة”.
الخطاب مقابل الواقع
أقرّ أوباما بعدم تطابق الواقع مع ما قاله في خطابه موضحًا: “ولكن في نهاية المطاف، تظل الحقائق التي تكمن خلف ما حدث حقائق لا يمكن تغييرها، وقد تركت منصبي مع نفس مجموعة الأسئلة التي حاولت جاهدًا الإجابة عنها لأول مرة بصفتي منظمًا اجتماعيا شابًا. ما الجدوى من وصف العالم كما يفترض أن يكون عندما تكون الجهود للوصول إلى هذا العالم المنشود محكومًا عليها بالفشل؟ هل كان فاتسلاف هافيل (الكاتب والمعارض التشيكي) محقًا بقوله إنه من خلال رفع التوقعات، كان محكومًا علي بتخييب آمالهم؟”.
تساءل أوباما: “هل أن المبادئ المجردة والمثل العليا السامية تظل دائمًا مجرد ذريعة أو مُسكّن أو وسيلة للتغلب على اليأس، دون أن تتطابق مع دوافعنا الغريزية التي كانت تحركنا حقا، ذلك أنه لا يهم ما قلناه أو فعلناه، لأنه من المؤكد أن التاريخ واصل اتباع مساره المحدد سلفًا في حلقة مفرغة من الخوف والجوع والصراع والهيمنة والضعف؟”.
بقدر ما تبدو جمل أوباما منمقة، فإن هناك طريقة أبسط بكثير لفهم أسباب فشله في الوفاء بوعود خطابه الموجه للعالم الإسلامي الذي ألقاه في سنة 2009. كان خطاب أوباما أشبه بحصان طروادة، حيث كانت كلماته اللطيفة تترجم دائمًا إلى عبوات للغاز المسيل للدموع ورصاص ومعتقلين سياسيين.
في الواقع، لم يتغير شيء لأن كل شيء كان بالضبط كما ينبغي له أن يكون.
السعي لترك إرث
يعد كتاب “أرض الميعاد” المؤلف من جزئين أول جزء من مذكرات الرئيس 44 للولايات المتحدة. يسرد أوباما من خلاله تفاصيل حياته المبكرة حيث عمل كمنظم اجتماعي على المستوى المحلي، قبل أن يدخل عالم السياسة الذي سيقوده إلى البيت الأبيض. يراوح أوباما في كتابه بين التحسّر على وقت الأسرة الضائع والحنين إلى الأوقات الممتعة التي كان يقضيها بأريحية مع ميشيل وابنتيه ساشا وماليا، وبين التوثيق شبه المبتذل الذي لا يطاق للعقبات الهائلة التي واجهها مع الكونغرس ومجلس الشيوخ. ومثل ولايته الأولى، انتهت ولايته الثانية بمقتل أسامة بن لادن.
يقدم الكتاب سردا مفصلًا ودقيقًا يراهن فيه أوباما على ترسيخ إرثه ووعد أمريكا، حيث احتفى بما حققه من إنجازات بينما عكس تواضعه من خلال الإقرار بفشله. كما انتقد أوجه قصور الحلم الأمريكي وأعرب عن استيائه من ثغراته الكثيرة باعتباره مشروعًا قيد التقدم. عبّر أيضًا عن إعجابه بدردشاته الفردية مع المرؤوسين، مقدمًا نفسه على أنه منتقد قاس لنفسه، وشخص فطن، ومستعد دائمًا لتحمل الصعاب.
الرئيس الأمريكي باراك أوباما يلقي خطابه التاريخي الموجه إلى العالم الإسلامي في الرابع من شهر حزيران/ يونيو 2009 في القاعة الكبرى بجامعة القاهرة، مصر.
لكن يبدو أنه لم يكن مسؤولًا عن أي خطأ. لم يقدّم أي تسوية على الإطلاق بناء على رغبة شخصية، وإنما بالأحرى كانت الظروف هي التي تحدد ضرورة مزاوجته بين “العاطفة والعقلانية”، كما علمته جدته المحبوبة توت. أوضح أوباما منذ البداية أنه على الرغم من أنه كان مرشحًا رئاسيًا متحمسًا “للتغيير”، إلا أنه لم يؤمن حقًا بأي من ذلك؛ لأنه لطالما كان مُصلحًا في جوهره. لقد نشأ على هذه المبادئ.
مصلح دائمًا
موضحًا كيف تعلم هذا الدرس في سن مبكرة، شرح أوباما كيف عملت جدته توت بجد طوال حياتها، وعانت من كراهية النساء في مكان العمل، لكنها تحملت كل ذلك حتى تحظى بتقاعد مريح في وقت لاحق. يستشهد في كتابه بأخلاقيات عملها باعتبارها القلب النابض للحلم الأمريكي. وهو يفعل ذلك دون الاعتراف بأن الاقتصاد الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية كان مُصممًا غالبًا ليناسب مصالح الأمريكيين البيض، مثل جدته، على حساب الأمريكيين السود الذين كانوا في ذلك الوقت يُعدمون دون محاكمة، وغير قادرين على التصويت، وكانوا في الأساس مواطنين من الدرجة الثانية.
حتى باعتباره دخيلًا مختلط العرق، فإن إدراك أوباما للوضع الراهن أتاح له أن يكبر مؤمنًا بالخير الجوهري للنظام والحلم الأمريكي. إن هذا الدرس الذي لا يستوفي المعايير المطلوبة، والذي يفسر إيمانه الراسخ بـ “الاعتدال” في كل شيء، يحدد الإطار العام لكتابه المكون من 768 صفحة، الذي تتخلله مختارات من يومياته، ومصطلحات تشريعية كاملة خاصة بالكونغرس (حول كيفية نجاح السياسات أو فشلها) واجتماعات وزارة الخارجية (عند مناقشة السياسة الخارجية أو الحديث عن بعض الدول) التي غالبًا ما تُقرأ مثل رواية جاسوسية من الدرجة الثانية عن الحرب الباردة. ولا ينم استعداده لغض الطرف عن مواطن الخلل التي تشوب النظام الأمريكي عن الانتهازية، وإنما يفسر صعوده الناجح إلى القمة.
فعلى سبيل المثال، عندما رشح نفسه للرئاسة، تلقى اتصالات للتوقيع على عريضة (تنظمها شركات الآيس كريم والتقدميون – إلا عندما يتعلق الأمر بفلسطين – من بينها شركة بن كوهين وجيري غرينفيلد التي تعرف باسم بن آند جيري) تدعو المرشحين للالتزام بخفض الميزانية العسكرية، لكن أوباما رفض التوقيع. وهو يقول عن ذلك في كتابه: “لم أستطع كرئيس أن أتورط بتقديم أي تعهد يتعلق بأمننا القومي”. كان يعلم أن الهدف من ذلك هو حرمانه من منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة. كيف كان له، كرجل أسود يحمل اسما مسلما، أن يسير بينهم إذا لم يصبح واحدًا منهم؟
عندما أصبح أوباما مرشحًا رئاسيًا، اختار خصمُه جون ماكين سارة بالين نائبةً له، فقال أوباما حينها: “مع فوائد الإدراك المتأخر، أتساءل أحيانًا عما إذا كان ماكين ليختار سارة بالين مجددًا – علمًا بأن ما تتميز به من شعبية مذهلة وشرعيتها كمرشح كان ليقدم نموذجًا عن السياسيين المستقبليين، ليغير بذلك توجه حزبه وسياسة البلاد بشكل عام نحو مسار يمقته. أعتقد أنه لو أتيحت له الفرصة للقيام بذلك مرة أخرى، لربما كان اختياره مختلفا”. لكن ماكين مات. وأيا كان ما سيقوله أوباما أو يفعله الآن، فلن يقدر على استبعاد بالين من الساحة السياسية، التي وصفتها صحيفة “شيكاغو تريبيون” بأنها “الأم السياسية لدونالد ترامب”.
من المقرر أن تصبح مذكرات أوباما المذكرات الرئاسية الأكثر مبيعًا في تاريخ الولايات المتحدة.
إن سعي أوباما لإغداق ماكين بكرم خاص – كفرد – نظرا لأنه ساعد في توجيه آراء بالين الشائعة، عندما تكتل الحزب الجمهوري لاحقًا بأكمله حول انتقاء دونالد ترامب – العنصري المتحيز ضد الأجانب وكاره النساء – يمثّل إنجازًا غير عادي قائمًا على خداع أولئك الذين تأثرت حياتهم بعد فوز ترامب.
يرفض أوباما تقبّل نتائج انتخاب ترامب في سنة 2016 ويعتبره عثرة في الطريق باتجاه “أرض الميعاد”. وحتى إذا فعل ذلك، هو يرفض أن يُنظر إليه على أنه “رجل أسود غاضب” يستحضر شبح العبء الثقيل للعنصرية باعتبارها حجر أساس في الثقافة الأمريكية. في هذا السياق، أكد أوباما: “ما يمكنني قوله هو أني متأكد أنني لست مستعدًا بعد للتخلي عن إمكانية تحقيق الحلم الأمريكي – ليس فقط من أجل الأجيال الأمريكية القادمة – وإنما من أجل البشرية جمعاء”.
إعادة تأهيل بوش
بالعودة على تداعيات المناظرة الرئاسية لسنة 2008، التي اتخذ فيها أوباما خطوة “جريئة” للتعبير عن قيم الدبلوماسية والحاجة إلى طرح موضوع الخصوم الأمريكيين (الذي انتقده لاحقًا الجناح اليميني ووصفوا ظهوره بأنه “غير حازم”) يوضح أوباما: “بالنسبة لي ما دفع هيلاري [كلينتون] والبقية – ناهيك عن الصحف الرئيسية – إلى مساندة جورج دبليو بوش في حرب [العراق] كان سببه تجاهل الدبلوماسية”.
حتى لو صحّ هذا الرأي – الذي لا نرى فيه وجاهة لأن غزو العراق لا علاقة له بالدبلوماسية بل هو يتعلق ببناء الإمبراطورية الأمريكية – فإنه لو عاد أوباما الزمن إلى الوراء لاختار هيلاري نفسها لتشغل منصب وزيرة الخارجية، الذي يعدّ المنصب الأكثر أهمية بعد منصب نائب الرئيس والرئيس الفعلي للدبلوماسية، ولحافظ على نفس الشخص الذي عينه بوش وزيرًا للدفاع. ولواصلت ميشيل وباراك أوباما إظهار الولاء للولايات المتحدة، رغم الغزو غير القانوني والقتلى من ذوي البشرة السمراء في أماكن أخرى من العالم، ولقادا مهمة إعادة تأهيل صورة بوش باعتباره شخصية عامة.
يقول أوباما إنه عندما كان بوش يرافقه إلى حفل تنصيبه في أوائل سنة 2009، رأى المتظاهرين على جوانب الشارع يحملون لافتات كتب عليها “نوجه أصابع الاتهام لبوش” وينعتونه بـ “مجرم حرب” في إشارة إلى تورطه في الغزو الأمريكي للعراق وإزهاق أرواح مئات الآلاف من الناس والتسبب في أعمال عنف لا نهاية لها، وترك البلاد في حالة خراب تام
اعترف أوباما بأنه “غضب نيابة عن [بوش]”، موكدًا “بدا الاحتجاج الموجه ضدّ هذا الرجل في آخر ساعة من رئاسته، بلا رحمة وغير ضروري. لقد شعرت بالقلق إزاء الاحتجاجات في اللحظة الأخيرة وبشأن الانقسامات التي تتوزع في جميع أنحاء البلاد – وما بدا من انتهاك حدود اللباقة التي كانت تنظم عالم السياسة في البلاد”.
بغض النظر عن كيفية وصفه للمحتجين المناهضين للحرب، يبدو أن أوباما يتظاهر بالاستبطان من خلال تبرير انزعاجه من “تضرر المصلحة الشخصية”. إن الإزعاج بالطبع يعتمد كليًا على المصلحة الشخصية. ومثل الكثير من الكتاب، يعتقد أوباما أن القراء سوف يغفرون له ذلك لمجرد كونهم متصالحين مع غروره. لكن نحن لسنا كذلك.
تصف لوسي ديافولو ظاهرة إعادة تأهيل أوباما لبوش في سنة 2019، بأنها “تضامن طبقي”، مشيرة إلى أن “فكرة تشارك ميشيل أوباما جورج دبليو بوش نفس القيم يعدّ دليلا على كيفية توحيد سلطة للأقوياء، حتى لو كان لديهم خلافات حول قضايا سياسية، على حد تعبيرها. (على الرغم من أن سجل زوجها في عمليات الترحيل وضربات الطائرات دون طيار يشبه كثيرًا ما فعله بوش).
الوحشية الأمريكية
هناك المزيد من الأفكار الفظيعة. في وصفه للوحشية الأمريكية في أفغانستان والعراق، يتظاهر أوباما مجددا بالاستبطان عند الحديث عما إذا كان استخدام الولايات المتحدة للتعذيب والمواقع السوداء والمراقبة والإيهام بالغرق قد “دفع الناس داخل الولايات المتحدة وخارجها إلى التشكيك في مدى التزام أمتنا بسيادة القانون”، كما لو كانت هذه مسألة مطروحة للنقاش.
شاركت الحكومة الأمريكية في أعمال إرهابية تقودها الدولة لعقود من الزمن، وأسقطت الحكومات، ووسعت نطاق نفوذها، ووسعت حدودها الأيديولوجية في سعيها لبناء الإمبراطورية والحفاظ عليها. لكن، في اللحظة التي تولى فيها أوباما منصبه، أدرك أن هذه مجرد وجهات نظر لأولئك الذين لم يكونوا مطلعين عما يحدث بشكل جيد.
يوضح أوباما: “لقد طرحت ما اعتبرته مواقف واضحة حول كل هذه القضايا خلال الحملة الانتخابية. لكن ذلك كان في بداية الحملة، قبل أن يكون لدي مئات الآلاف من القوات وبنية تحتية أمنية وطنية مترامية الأطراف تحت قيادتي. هذا يعني أنني مسؤول عن أيّ هجوم إرهابي يحدث، وأي حياة أمريكية تزهق أو تتعرض للخطر في الداخل أو في الخارج. كان ذلك يؤثر بشكل فريد على ضميري”.
أضاف أوباما: “لقد هرعت لإعادة بناء ثقة الشعب الأمريكي ليس فقط في الحكومة وإنما بينما بعضنا البعض. إذا وثقنا في بعضنا البعض، فقد نجحت الديمقراطية. إذا وثقنا ببعضنا البعض، فقد يستمر الميثاق الاجتماعي ويمكننا حينها حل المشاكل المعقدة مثل ركود الأجور وتراجع تأمينات التقاعد”.
يعترف أوباما بعظمة لسانه بأنه كان مبتدئًا في السياسة عندما اختار الترشح للرئاسة. لم يكن منظمًا مجتمعيًا مخضرمًا ولا مشرعًا راسخًا. كانت الفترة التي قضاها في مجلس الشيوخ محدودة للغاية. وبصرف النظر عن الخطاب الرائع الذي ألقاه في المؤتمر الوطني الديمقراطي في سنة 2004، لم يكن لديه سوى الكلمات المنمقة. لقد دخل أوباما البيت الأبيض في وقت كان فيه الأمريكيون يعانون من تداعيات سنوات إدارة بوش، التي ورطت الولايات المتحدة في حروب في العراق وأفغانستان.
وجه التغيير
عمل أوباما وفريقه على الترويج لدخوله للحياة السياسية باعتباره وجه التغيير الذي يحتاج إليه الديمقراطيون بشدة. لقد كان مثل إعلان جاب أو بينيتون، أنيقًا وهادئًا ومتطورًا. لقد كان أسود اللون لكنه كان مصمما على أن يكون غير عدائي بأي حال من الأحوال.
تم تعويض نقص خبرته بالتأييد القوي الذي حصل عليه من نخب سياسية مثل عائلة كينيدي؛ وتم الردّ على معارضته لحرب العراق برحلة خاصة قام بها قبل بضع أسابيع من الانتخابات، لزيارة القوات خارج الحدود (حيث تأكد فريقه من التقاط صورة له مع الطيارين في طائرة هليكوبتر).
لكن الافتقار للقوة السياسية عنى أنه باستطاعته إدراك جوانب الاستعمار والعنصرية واللامساواة البنيوية، وذكرها في خطاباته، دون أن يدفعه ذلك إلى تقويض طموحه الشخصي أبدا، وقد كان ذلك واضحًا.
إن تفاصيل سرد أوباما للنشوة التي اجتاحته فور دخوله البيت الأبيض للمرة الأولى تروي استيفاء الوعد الأمريكي بشكل عام وليس استثنائية ظروفه. لقد تحدث عن الغرف الأنيقة والأسقف المذهبة واللوحات المبهرجة كما لو أنه نجح بإيصال أسلافه وجميع المحرومين لطاولة السلطة؛ لكن التنفيس عن عواطفه لم يكن من خلال النهوض بقضية السود، بل في تمثيله للرئيس ودخوله البيت الأبيض بنفسه.
لدى رؤيته دموع الموظفين الأمريكيين الأفارقة في البيت الأبيض، معبرين له عن مدى سعادتهم لترأسه المكتب البيضاوي، اتخذ أوباما قرارا واعيا لكيلا يشعر أي أحد بعدم الارتياح؛ وألا يبدو عليه الاهتمام الشديد في إعلاء أصوات السود أو قضية العدالة العرقية. ولعب كرة السلة بدلاً من ذلك.
تعمّد أوباما عدم مواصلة الحديث مع الموظفين السود، مقدمًا نفسه بصورة البراغماتي المثقل بالأعباء. بدلا من لك، ركّز على الظهور بمثابة الرئيس الشعبي، حيث تم تصويره وهو يركض بين المكاتب مع صديقه جو بايدن؛ وهو يتحدث عن الهيب هوب؛ وهو يصافح الأطفال الخارجين في رحلات مدرسية بضربات القبضة. في ذلك الإطار، أصبح أوباما القائد العصري، وتقبّلت وسائل الإعلام الليبرالية ذلك بحرارة.
قدّمت إدارة أوباما أكبر حزمة مساعدات عسكرية شهدها التاريخ لإسرائيل في سنة 2016.
واصل أوباما استغلال انتمائه للعرق الأسود منح ملايين السود الذين لطالما عاشوا تحت الظلم بعض الراحة، واستطاع أيضًا التخفيف من حدة مخاوف الأمريكيين البيض عن طريق اتخاذه “هيئة الرئيس” على الدوام، وتصديه للأشرار في الخارج، وابتعاده عن الأفكار المتطرفة التي قد تجعلهم خائفين من الظهور كعاجزين.
لبى النداء ليتخذ دورًا مماثل ليشوع من إنجيل العهد القديم، لكنه استمر في تسليح القوة الثقافية للسود لإسكات المطالبات العاجلة للعدالة العرقية والاقتصادية. وإلا لماذا اختار بايدن، الذي يؤيد حرب العراق، ويدعم الفصل العنصري، ويقوض الأمن الاجتماعي، نائبًا له؟ سوى لاستغلال مخاوف الناخبين البيض؟
الطابع الشعبي
في مذكراته، حرص أوباما على ذكر أسماء البستانيين، والخدم، وكل من أرسل رسائل لا تُنسى إلى البيت الأبيض؛ وعبّر عن كرهه للشكليات والتظاهر الاستعراضي، حيث كتب: “استغرق الأمر شهورًا من الإلحاح قبل اقتناع الخدم باستبدال بدلاتهم الرسمية بقمصان الكاكي والبولو عند تقديم وجبات الطعام لنا”.
من المفترض أن يؤكد كل ذلك على طابع أوباما الشعبي، إلا أنها في النهاية، ليست سوى رمزيات في رئاسة لم تغير شيئًا من أحوال السائقين العاديين ومهندسي الحدائق مع نهاية ولايته الثانية.
تلك الرئاسة التي شهدت إدارةً لم تجد أي مشكلة في التودد إلى أغنى رجل في العالم جيف بيزوس وامبراطوريته “أمازون”، لدرجة أن جاي كارني؛ السكرتير الصحفي السابق لأوباما من 2011 إلى 2014، قد أصبح لاحقا رئيس العلاقات والسياسات العامة في “أمازون”. لا شك أنه لا يمكن تحميل أوباما مسؤولية قرارات موظفيه السابقين، لكن اختياراتهم تخبرنا بالكثير عن حقيقتهم.
حتى لو كان اهتمام أوباما بتفاصيل الأسماء والوجوه صادقا بعض الشيء؛ ولم يكن جزءًا من نموذج لمساعدته ليبدو متمركزا حول الشعب (وهو أمر قد اعترف أوباما بأن كاتب خطاباته بن رودس مزح بشأنه من قبل)، لكان من الأجدر أن يذكر اسم مدني واحد على الأقل قد فقد حياته في الحروب التي ورثها، ثم قادها على حد قوله. لكنه لم يفعل ذلك.
بدلاً من تكرار تضحيات زوجته وبناته في فقدان خصوصيتهن في أعقاب فوضى مسعاه الرئاسي، كان من الأفضل له التفكير في تكلفة الإمبراطورية الأمريكية على الأطفال الذين فقدوا آباءهم بسبب الأسلحة الأمريكية أو الأنظمة الاستبدادية المدعومة من أمريكا التي تخدم المصالح الأمريكية.
لكن يدعي أوباما أن “الحروب الفعلية في أفغانستان والعراق لم تتضمن القصف العشوائي أو الاستهداف المتعمد للمدنيين، التي تعد جانبا روتينيًا حتى في الحروب “الجيدة” مثل الحرب العالمية الثانية؛ وباستثناءات صارخة مثل أبو غريب، أظهرت قواتنا في مسرح العمليات مستوى رائع من الانضباط والاحترافية”. وأضاف: “ارتأيت حينها أن وظيفتي تمثلت في إصلاح تلك الجوانب من جهود مكافحة الإرهاب التي كانتبحاجة إلى إصلاح، بدلاً من نسف جذري وشامل وإعادة البدء من جديد”.
تاريخ مصطنع
عوضًا عن الاحتفاء بالتفاني الأمريكي في إرساء الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، كان من الأفضل له أن يفكر مليا في الفوضى العارمة التي أطلقتها إدارته. لكنه لم يذكر جنوب السودان في مذكراته أبدًا، ولا حتى الأطفال المجندين الذين ساعدت أموال إدارته في استغلالهم.
وبالمثل، بدلاً من سرد تدخل “شبيه بالعصابات” في مؤتمر رئيسي للمناخ في سنة 2009، حيث دخل أوباما دون سابق إنذار إلى اجتماع مع رؤساء دول الصين والبرازيل وجنوب إفريقيا والهند، وخرج بتوقيعاتهم فيما سيصبح لاحقا اتفاقية كوبنهاغن، كان يجدر به أن يفسر لماذا يعد الجيش الأمريكي أكبر ملوث على هذا الكوكب
كتب أوباما: “لقد شعرت بالرضا الشديد. فعلى أكبر المسارح، وفي قضية مهمة وبينما كاد الوقت أن ينفذ، استطعت الخروج بحل سحري”. في بعض الأحيان، يظهر أوباما إعجابا بغيضا بنفسه؛ وفي أوقات أخرى، يبدو تدفق الكلمات اللانهائي في كتابه كتعويض عن الاعتقال من قبل رجل فخور غير قادر على مواجهة صورة صنعها بنفسه.
باجتماعها، تُقرأ المقاطع الطويلة وكأنها هذيان رجل يأمل أن تنقذ إحدى التفسيرات إرثه. لا يمكن للأوصاف المثيرة أو النسج الذكي إخفاء حقيقة أن كتاب “أرض الميعاد” لا يختلف كثيرا عن محاولة ليدي ماكبث غسل يديها بشكل هستيري.
قد يكون أوباما أول رئيس أسود لأمريكا؛ قد يكون أكثرهم تمتعا بالجاذبية وفصاحة اللسان؛ وإلى جانب الطيارين، أكثر القادة العسكريين جاذبية في صور الإنستغرام. ولكن عندما ينقشع الضباب، وتضمحل السيرة التقديسية، سينتقي التاريخ الحقيقة من بين التجسيدات الشعبية لتاريخه المصطنع ليكشف أنه كان مجرد رئيس أمريكي عادي فحسب.
المصدر: ميدل إيست آي