على مدار الثلاثة أيام الماضية، اندلع اشتباك لغوي ودبلوماسي جديد نوعيًا، لا يعرَف أفقه وإلى أي المسارات سوف يؤول، بين الدولتين الإفريقيتين اللتين اعتادتا الصراع منذ نحو عقد، على خلفية حصة كل شعب منهما من المياه: مصر وإثيوبيا.
فكيف بدأ هذا الاشتباك؟ ولماذا نعده جديدًا إلى درجة اعتباره أحد آخر المسامير الممكنة في نعش العلاقات الثنائية؟ ولماذا خرجت القاهرة عن صمتها الإستراتيجي لأول مرة، تقريبًا، خلال هذه الأزمة؟ وكيف سيؤثر ما يجري على مستقبل المحادثات الثنائية بين البلدين بشأن سد النهضة؟ كل هذا، وأكثر، سنحاول التعرف عليه في هذا التقرير.
نكء الجراح
بدأ الاشتباك الخطابي، عندما شرع مسؤول إثيوبي سياسي رفيع، هو دينا مفتي الذي يشغل منصب المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية في أديس أبابا، في كسر الصمت الرسمي المطبق على البلدين منذ نحو أربعة أشهر، على خلفية تعطل مفاوضات سد النهضة، وذلك عبر قيامه بإعادة تأويل الموقف المصري من مشروع السد الكبير، بشكل سياسي لا علاقة له بالأسباب الفنية.
اعتبر مفتي أن هناك تطورًا جديدًا ملحوظًا في الخطاب الرسمي المصري نحو بلاده، في اتجاه تحويلها إلى مشروع عدو خارجي، وهو، أي هذا التطور السلبي، لا يعود في الأصل، وفقًا للمسؤول الإثيوبي، إلى خطورة المانع المائي الذي تدشنه بلاده منذ عقد، وإنما إلى رغبةٍ رسمية خفية من القاهرة لدفع صراعاتها الداخلية مع خصومها الإسلاميين وتصديرها إلى الخارج بدلًا من التفرغ لحلها.
نصيًا والعهدة في الترجمة هنا على “الجزيرة”، فقد قال المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية: “هناك أجندة تفوق سد النهضة، أزمات وقنابل موقوتة قد تنفجر في أي لحظة، لذلك حولوا إثيوبيا إلى الخطر القادم، وأنها سوف تتسبب في عطش المصريين وجوعهم، وهو ما يعكس عمق الأزمة الداخلية في مصر. في داخل القاهرة، منطقة مغلقة مكتظة أكبر بعشرات المرات من أكبر أسواق إثيوبيا، حجز فيها آلاف الإسلاميين، وأنتم تعلمون كيف مات الرئيس المصري السابق، كل هذه الأمور تهدف إلى هروب مصر من المشاكل الداخلية وتعليقها على شماعة سد النهضة. هذا ليس تشويهًا، بل هي الحقيقة، وعندما سيكتمل السد سيعلمون، وسيأتون إلى تهنئتنا”.
هنا، رغم عدم إشارته إلى أكثر من “ثيمات” (وحدات) تاريخية وسياسية، دون تفصيل، وبعبارات مهذبة ظاهرًا، فإن مفتي يلمح إلى حدثين تأسيسيين في بناء النظام المصري الحاكم، وهما حدثان مشينان، وفقًا لمراقبين، لا تمتلك القاهرة سردية متماسكة لتبريرهما: الحدث الأول، بعد الانقلاب العسكري في يوليو/تموز 2013، حينما فضت قوات الجيش والشرطة في مصر، يوم الـ14 من أغسطس/آب من نفس العام، اعتصامي جماعة الإخوان المسلمين وأنصارها في منطقة النهضة بالجيزة ورابعة العدوية بالقاهرة، مخلفةً عشرات القتلى ومئات الجرحى، وهو ما وصفته منظمة هيومن رايتس ووتش حينها، بأنه “جرائم ضد الإنسانية، وأخطر حوادث القتل الجماعي غير المشروع في التاريخ المصري الحديث”.
الحدث الثاني الذي عرج إليه مفتي، هي واقعة وفاة الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي، في مقر محاكمته بالقاهرة، خلال إحدى جلسات قضية التخابر مع حماس، يوليو/تموز 2019، التي قالت عن ملابساتها منظمة الأمم المتحدة: “الرئيس مرسي تعرض خلال السنوات الخمسة الأخيرة لحبسه في سجن طرة، إلى ظروف احتجاز ترقى إلى الوحشية، ومن الممكن القول إن السلطات المصرية تسبب في مقتله تعسفيًا”، وسط شواهد على احتمال تعرضه للاغتيال، وأدلة على التقاعس في عملية إسعافه.
الرد المصري
جاءت الاستجابة المصرية لتصريحات المسؤول الإثيوبي متدرجة، حيث أعلنت مصر، في البداية، استدعاء القائم بالأعمال الإثيوبية في القاهرة، وذلك باليوم التالي للتصريحات الإثيوبية، ثم أفصحت عن بيان رسمي موجه إلى أديس أبابا، جرى تعميم نشره على المنصات التابعة للحكومة المصرية، نقلًا عن المتحدث باسم الخارجية المصرية.
البيان المصري الأوَل الذي يتبنى هذه اللهجة الحادة، بشكل رسمي، ضد إثيوبيا، منذ تولي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مقاليد الحكم عام 2014، تضمن محورين: المحور الأول هو التحفظ على الخطاب الإثيوبي الحكومي تجاه مصر، معتبرًا هذه اللهجة “تدخلًا سافرًا، غير مقبول جملةً وتفصيلًا، وخروجًا فجًا عن الالتزامات الواردة في القانون التأسيسي للاتحاد الإفريقي، الذي ينص في مادته الرابعة على التزام الدول الأعضاء بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وخروجًا عن القيم الإفريقية العريقة التي تزكي قيم الإخاء واحترام الآخر”.
المحور الثاني، هو محاولة تفسير المبادرة الإثيوبية الرسمية بالتراشق مع نظيرتها المصرية، في ظل توقف المفاوضات بين البلدين، وسعي القاهرة إلى تدعيم خط خطابي يجنح إلى السلم في التعامل مع أديس أبابا، من جهة، والرد على الاتهامات الإثيوبية بنفس المنطق من جهة أخرى، حيث أشار البيان إلى أن “التهجم على الدولة المصرية والتجني في تناول شؤونها الداخلية، ما هو إلا استمرار لنهج توظيف النبرة العدائية وتأجيج المشاعر، لتغطية الإخفاقات الإثيوبية المتتالية، على العديد من الأصعدة داخليًا وخارجيًا، حيث كان الأجدر بالمتحدث الإثيوبي الالتفات إلى الأوضاع المتردية في بلاده التي تشهد الكثير من النزاعات والمآسي الإنسانية، التي أدت إلى مقتل المئات وتشريد عشرات الآلاف في تيغراي وبني شنقول وأروميا (..) فضلًا عن الممارسات الإثيوبية العدائية تجاه محيطها الإقليمي في السودان”.
هنا، يشير بيان القاهرة، بوضوح، إلى التحولات السلبية التي شهدتها إثيوبيا في الفترة الأخيرة من ولاية رئيس الوزراء المنحدر من الفرع الأورومي، آبي أحمد، التي يعتبرها الخبراء، كاشفةً عن نوايا استحواذية على السلطة داخليًا، واستعمارية من أجل الهيمنة على موارد الجيران خارجيًا، سواء في الصراع على السلطة، ضد خصومه والحكام السابقين للبلاد، من إقليم تيغراي، حيث استخدمت الحكومة الإثيوبية الأسلحة الثقيلة ضد الإقليم الذي تصفه بالتمرد، وهو ما أجج الأوضاع على الحدود مع إريتريا، أم ضد السكان المحليين العابرين للحدود، من بني شنقول، بالقرب من الأرض التي يبنى عليها سد النهضة، أم ضد الجار السودان، الذي بدأ يتخذ إجراءات وقائية حازمة، أعلنت القاهرة تأييدها، بعد تصاعد الاعتداءات الإثيوبية على الحدود بالقرب من الفشقة.
حاولت القاهرة، من خلال هذا البيان، إرساء مبدأ: نقاط الضعف بنقاط الضعف أو كما يقول المثل الشعبي المصري المعروف “من يسكن في بيت من زجاج، من الأفضل ألا يرمي الناس بالحجارة”، لكن معارضين مصريين انتقدوا تقاعس الحكومة المصرية عن استخدام لغة خطابية حازمة ضد إثيوبيا، فضلًا عن الإجراءات العملية، إلا عندما تجاوز المسؤولون الإثيوبيون ضد ما يعتبره النظام المصري ثوابت داخلية تمس شرعيته، بدليل خلو البيان من أي إشارة لتطور المباحثات في ملف سد النهضة، رغم أن تصريحات المسؤول الإثيوبي تناولت تسويق السد إيجابًا عبر التأكيد على عدم خطورته على مصر، وهو ما كان يستوجب إيضاحًا موازيًا من مصر، نقطة بنقطة.
الرأي العام
تفاعل الرأي العام، المقرب من الأوساط الرسمية، في البلدين، مع الأزمة الحاليّة، غاب عنه الرشد ومال إلى تأجيج المشهد، فعلى سبيل المثال، علق هاني رسلان، أحد الخبراء المرموقين في الشأن الإفريقي بمركز الأهرام للدراسات السياسية، تعليقًا مع أحد البرامج المعروفة في مصر، شن خلاله هجومًا حادًا على إثيوبيا، فلم يفرق فيه بين نظام الحكم الذي سيرحل، عاجلًا أم آجلًا، شأنه شأن النظام في مصر وأي نظام سياسي آخر، وبين الدولة الإثيوبية التي لها تاريخ سياسي عريق وبنية اجتماعية محددة.
فبعد اتهام نظام الحكم في أديس أبابا بممارسة الإبادة الجماعية ضد الشعب الإثيوبي وجرائم الحرب وقصف المواطنين بالطيران وأعراض “الفصام والبارانويا”، على حد قوله، انتقص رسلان من إثيوبيا نفسها، معتبرًا إياها “ليست دولة، وإنما كيان مصطنع، تاريخه عبارة عن حروب منذ عشرات السنين”.
أما خالد عكاشة، وهو ضابط شرطة سابق ومحلل أمني حاليّ، يعمل مديرًا لوحدة بحثية تسمى “المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية”، بعد انتقاد الكفاءة المهنية للمسؤول الإثيوبي الذي هاجم النظام في مصر، فقد عيَر الحكومة الإثيوبية بما أسماه “ملايين المواطنين الذين تحولوا إلى نازحين ولاجئين، والمجتمع الدولي يجمع لهم إعانات الغذاء والخيام”، في إشارة إلى أثر الحملات الأمنية التي تشنها القوات النظامية ضد الجماعات المسلحة التي تصفها بالمتمردة، على السكان المحليين في أماكن القتال.
على الأرجح، هذه الانتقادات اللاذعة التي لا تقتصر على المسؤولين وبنية النظام الحاكم في إثيوبيا، لتمتد إلى تاريخ الدولة وآثار النزاعات المحلية على المجتمع، لم تكن لتخرج بهذا الشكل لولا وجود ضوء أخضر، مباشر أو غير مباشر، من النظام المصري، لتوجيه الخطاب في هذا الاتجاه، بعد ما طلب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، من الإعلام المصري، بشكل علني، أكثر من مرة في السابق، التوقف عن المعالجة العدائية للأزمة الإثيوبية وترجيح كفة الخطاب المتزن، لأن هذه التصريحات السلبية، على حد قوله، تصل إلى الجانب الإثيوبي وتؤثر في الاتجاه الخاطئ على مساعي مصر لاحتواء قضية سد النهضة، وهو ما استجاب له الإعلام في مصر بشكل ملحوظ قبل هذه الأزمة.
في المقابل من هذا التصعيد، فإن الصفحات الإثيوبية الناطقة بالعربية على مواقع التواصل الاجتماعي، التي يعتبرها البعض ذراعًا ناعمًا للحكومة الإثيوبية، توجه الرسائل التي لا تستطيع الدبلوماسية الرسمية الإدلاء بها للرأي العام، قد ركَزت على إبراز التصريحات الإيجابية لنفس المسؤول الإثيوبي، سبب الأزمة، في نفس المناسبة، المؤتمر الصحفي الأسبوعي، لكن في حق السودان، في إشارة مبطنة إلى اختلاف النهج الإثيوبي في التعامل مع دولتي المصب، لاختلاف نهج الدولتين في الموقف من أديس أبابا ومشروعها التنموي، وهي رسالة تقليدية متكررة، من الخطاب الإثيوبي تجاه هذه القضية، كما شددت على نية إثيوبيا المضي قدمًا في ملء المرحلة الثانية من السد، رغم التحذيرات المصرية في هذا الصدد، وذلك بعد أن استجابت إثيوبيا للمطالب المصرية في تعديل تصميمات المشروع أكثر من مرة، على حد وصف هذه المنصات.
المفاوضات
من المفترض أن هذه الأزمة الدبلوماسية فرعٌ عن الأزمة الكبرى المستمرة منذ عقد على الأقل، وهي أزمة آثار بناء وملء سد النهضة على المجالات المائية والزراعية والاجتماعية والبيئة في دولتَي المصب، وتأتي هذه الأزمة بعد توقف المفاوضات مدة طويلة وفي خضم الاستعدادات الثلاثية لعقد جلسة مفاوضات جديدة.
التعثر الأخير في المفاوضات استمر نحو أربعة أشهر، منذ شهر أغسطس/آب الماضي، بسبب عدم توصل اللجان الفنية الثلاثية، التي كانت تنعقد برعاية الاتحاد الإفريقي، إلى خريطة عمل مرضية للدول المعنية، مع اقتراح السودان منح المراقبين الدوليين، وخاصة التابعين للاتحاد الإفريقي، صلاحيات تقييمية أكثر، خلال الاجتماعين الاستثنائيين الذين عقدا في أكتوبر/تشرين الأول، ونوفمبر/تشرين الثاني، على التوالي.
وبينما استشف هاني رسلان، من اللغة الإثيوبية الأخيرة، فشل الاجتماع القادم الذي دعا إليه الاتحاد الإفريقي في الـ3 من يناير/كانون الثاني، غدا الأحد، على أساس الرغبة في التصعيد وجر الدبلوماسية المصرية إلى مزيد من الخلافات الهامشية، وإشارة دينا مفتي إلى اكتمال بناء السد وقدوم المسؤولين المصريين للتهنئة، دون تعديل في المواصفات الفنية للمشروع، فإن عباس شراقي، جيولوجي مصري في جامعة القاهرة، يعتقد أن إثيوبيا تتجنب، عمليًا، استفزاز القاهرة، بناءً على أحدث صور القمر الصناعي التي تظهر توقف البناء في الممر الأوسط المسؤول عن توليد الكهرباء من المياه التي خزنت خلف السد خلال الملء الأول، يوليو/تموز الماضي، ودفع العمل في الملء الثاني، الأضخم، في نفس الشهر من الصيف المقبل، الذي تعتبره مصر خطًا أحمر.
ورغم ذلك، يرى شراقي، أن مصر كانت من البداية متحفظةً على اضطلاع الاتحاد الإفريقي برعاية هذه المفاوضات الثلاثية، نظرًا لضعف آليات الرقابة لديه كمؤسسة، في ظل حتى تزايد الصراعات السياسية في دول إفريقية مثل أثيوبيا نفسها وتشاد وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان ونيجيريا، بالإضافة إلى ضعف مراقبيه من الناحية الفنية، لذلك، فإنه من المتوقع، بحسب شراقي، أن تعود القاهرة إلى مجلس الأمن، حال فشل جولات التفاوض القادمة، التي ستبدأ تحت رعاية جنوب إفريقيا وقد تمتد فترة تحت رعاية الكونغو التي ستتولى رئاسة الاتحاد في الدورة القادمة، لأنه من غير المعقول أن تنتظر مصر حتى تحل إثيوبيا مشكلاتها الداخلية التي تتسم بالعرقية وقد تستمر لسنوات.