بينما تتصاعد التصريحات النارية المتبادلة بين طهران وواشنطن قررت وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” سحب حاملة الطائرات (USS Nimitz) التي كانت تبحر قبالة السواحل الصومالية، خارج الخليج، في خطوة مفاجئة لا تتناسب والأجواء الملتبهة بين الطرفين.
شبكة سي إن إن الإخبارية الأمريكية نقلت عن مسؤول كبير – لم تسمه – داخل البنتاغون قوله “وزير الدفاع بالإنابة كريستوفر ميلر قرر الأربعاء الماضي سحب حاملة الطائرات المذكورة، وإبعادها خارج منطقة الخليج، في إشارة لخفض التصعيد مع إيران”.
القرار يأتي قبل ساعات قليلة من إحياء الذكرى السنوية الأولى لاغتيال قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني، الذي استهدف فجر الـ3 من يناير/كانون الثاني 2020 بغارة أمريكية قرب مطارق بغداد، ومعه نائب رئيس الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس.
ومنذ هذا الحادث وتهدد طهران على لسان كبار قادتها بالانتقام والرد القاسي واستهداف مصالح أمريكا في الشرق الأوسط، فيما أوضحت واشنطن أنها اتخذت إجراءات دفاعية حاسمة، لحماية مواطنيها في الخارج من أي تحرك إيراني محتمل.
وتزايد منسوب التوتر في العلاقات بين البلدين (وهي المقطوعة منذ نحو أربعة قرون) خلال فترة حكم الرئيس دونالد ترامب الذي انسحب أحاديًا في 2018 من الاتفاق النووي الذي تم إقراره في 2015، الأمر الذي فُسر على أنه إستراتيجية أمريكية تستهدف ابتزاز العواصم الخليجية التي ترى في طهران خصمها الأكبر.
السحب الأمريكي المفاجئ لحاملة الطائرات من الخليج أثار الكثير من التساؤلات عن الدوافع والدلالات كما فتح الباب على مصراعيه أمام نظرية الاحتمالات فيما يتعلق بنذر المواجهة المحتملة، بين الصفرية المتوقعة في ضوء تلك المستجدات، والمناورة الهادئة التي تسبق العاصفة في ظل حاجة ترامب لمفاجأة من العيار الثقيل لتخفيف حدة خسارته في الانتخابات الأخيرة أمام جو بايدن.
US to move aircraft carrier Nimitz out of Mideast amid Iran tension https://t.co/zrVV12RHzm pic.twitter.com/DnBF7upBN5
— Military Times (@MilitaryTimes) December 31, 2020
حرب كلامية
عام كامل من الضجيج بين الطرفين، لكن دون طحين يتناسب والأجواء الساخنة التي تشعلها التصريحات العنترية المتبادلة بين الطرفين، فهذا يهدد وذاك ينذر وبين هذا وذاك تقبع دول المنطقة في انتظار المواجهة المحسومة التي يَبني كل طرف فيها خططه المستقبلية بناء على ما ستسفر عنه من نتائج.
إدارة ترامب صعدت من لهجتها ضد طهران بعد أيام قليلة من مؤشرات الانتخابات التي أشارت إلى خسارة ترامب أمام منافسه الديمقراطي، فيما انقسمت الآراء داخل الإدارة الأمريكية بشأن توجيه ضربة عسكرية ضد أهداف إيرانية قبيل الـ20 من يناير/كانون الثاني الحاليّ، وهو الموعد الرسمي لمغادرة الرئيس البيت الأبيض.
حلول الذكرى الأولى لاغتيال سليماني ربما تكون دافعًا ومبررًا للقيام بأي عملية انتقامية ضد الولايات المتحدة، خاصة في ظل الضغوط الداخلية التي تواجهها حكومة حسن روحاني بسبب التباطؤ في الثأر لمقتل الجنرال الأبرز
دخول حاملة الطائرات (USS Nimitz) ومن قبلها إرسال قاذفتي قنابل من طراز بي52 إلى الشرق الأوسط، تحرك فُسر على أنه تأهب رسمي لاستهداف إيران دون معرفة ساحة الاستهداف، هل في العراق أم في قلب طهران، وهو الأمر الذي أثار حفيظة النظام الإيراني الذي بات في موقف حرج أمام شعبه داخليًا، وعلى المستوى الدولي.
The US military flew nuclear-capable B-52 bombers to the Middle East on Wednesday, Central Command says. The show of force flight constitutes the third bomber deployment in the Middle East in the last 45 days. https://t.co/piebve5Mco
— CNN Breaking News (@cnnbrk) December 30, 2020
وزير خارجية طهران جواد ظريف، اتهم الرئيس الأمريكي بالسعي لإيجاد ذريعة لشن هجوم ضد بلاده، محذرًا من أن طهران قادرة على الدفاع عن نفسها أمام أي هجوم محتمل، فيما هدد المستشار العسكري للمرشد الأعلى حسين دهقان بأن جميع القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة “تحت مرمى الصواريخ الإيرانية”، ناصحًا ترامب بعدم تحويل العام الجديد إلى حداد على الأمريكيين.
وكانت معلومات مخابراتية تشير إلى تخطيط إيراني لاستهداف مواقع أمريكية في العراق، مستندة إلى نقل طهران صواريخ باليستية قصيرة المدى إلى البلد العربي الأيام الماضية، وهي المعلومات التي أثارت توتر بعض مسؤولي الإدارة الأمريكية، وإن لم تكن هناك معلومات مؤكدة بعد تشير إلى هجوم وشيك على القوات الأمريكية، بحسب المسؤولين أنفسهم.
Instead of fighting Covid in US, @realDonaldTrump & cohorts waste billions to fly B52s & send armadas to OUR region
Intelligence from Iraq indicate plot to FABRICATE pretext for war.
Iran doesn’t seek war but will OPENLY & DIRECTLY defend its people, security & vital interests.
— Javad Zarif (@JZarif) December 31, 2020
تخفيف التوتر
وفي هذه الأجواء الملتهبة التي كان يتوقع معها نشوب مواجهات عسكرية بين الطرفين، إذ بأمريكا تسحب حاملة طائراتها العملاقة، فيما ذهبت بعض المصادر إلى أن ترامب طلب من مساعديه تقديم خيارات بشأن استهداف أحد المواقع الإيرانية الرئيسية، لكنه في نهاية الأمر قرر إلغاء الفكرة تجنبًا للدخول في صراع أوسع ربما يهدد المصالح الأمريكية في المنطقة.
ترامب ورغم رغبته الملحة في إشعال الأجواء قبيل قدوم بايدن، وحرق كل الملفات العالقة أمام الإدارة الجديدة، فإن الأصوات العاقلة من حوله كان لها رأي آخر، فالتصعيد مع طهران في هذا التوقيت ربما يكون له أهداف سياسية مفهومة، لكنه بأي حال لا يمكن أن يتجاوز هذا الحد السياسي، فيما رفض قطاع كبير الولوج في مستنقع المواجهات العسكرية المباشرة.
حلول الذكرى الأولى لاغتيال سليماني ربما يكون دافعًا ومبررًا للقيام بأي عملية انتقامية ضد الولايات المتحدة، خاصة في ظل الضغوط الداخلية التي تواجهها حكومة حسن روحاني بسبب التباطؤ في الثأر لمقتل الجنرال الأبرز رغم الحديث عن استهداف أهداف أمريكية في العراق، لكن يبدو أن الشارع الإيراني لم يقتنع بتك الرواية.
وبين السجال الإعلامي المتصاعد والرغبة القوية في الانتقام لمقتل قائد فيلق القدس ارتأت إدارة ترامب التراجع خطوة للوراء في محاولة لامتصاص حالة الغضب المتزايد لدى الجانب الإيراني، وتجنب المزيد من التصعيد في الشرق الأوسط، وعليه كان قرار سحب الحاملة، وهو السيناريو الذي ذهب إليه الكثير من المحللين الأمريكيين.
حفظ ماء الوجه
يبدو أن التهديدات الأمريكية باستهداف إيران كانت مناورة سياسية من ترامب للفت الأنظار إليه ومحاولة حفظ ماء الوجه قبل الرحيل بعد الخسارة المدوية التي مني بها على أيدي الديمقراطيين، وحين أصبحت الأوضاع على مشارف المواجهة الفعلية كان قرار الانسحاب.
ترامب كان يراهن على انعكاس التصعيد الخارجي على المشهد الانتخابي الداخلي، آملًا في تحقيق المماطلات القضائية أي نتائج إيجابية من شأنها أن تقلب الطاولة أو على الأقل تعيد الأمور إلى النقطة “صفر” حال الكشف عن شبهة تزوير تضرب العملية الانتخابية من جذورها، لكن الأمور لم تؤت ثمارها، لا سيما بعد رفض معظم الدعاوى التي رفعها فريقه لإعادة الفرز من أخرى.
تنصل طهران من أي مسؤولية لأذرعها عما تعرضت له المنطقة الخضراء مؤخرًا أكبر دليل على رغبة النظام الإيراني في عدم منح إدارة ترامب أي مبرر للتصعيد
طهران وحتى كتابة هذه السطور تتجنب الولوج في أي تصعيد مع واشنطن يهدد علاقاتها المستقبلية مع الإدارة الأمريكية الجديدة، ورغم الضغوط الممارسة من المحافظين على التيار الإصلاحي الروحاني وحكومته، فإن الأخير سعى قدر الإمكان لضبط النفس خشية تفاقم الوضع حال الاستجابة لتلك الضغوط.
الكاتب المتخصص في الشأن الإيراني أسامة الهتيمي، يرى أن التهديدات المتكررة على ألسنة القادة الإيرانيين منذ مقتل سليماني وحتى اليوم ليست إلا أكاذيب ومزاعم تهدف إلى حفظ ماء وجه إيران بعد الضربة الموجعة التي وجهتها لها الولايات المتحدة.
الهتيمي في تصريحات صحفية له ألمح إلى أن النظام الإيراني فشل في الترويج لما وصفه بـ”الانتقام” لمقتل جنراله القوي من خلال 22 صاروخًا استهدفوا القوات الأمريكية في قاعدتي عين الأسد في الأنبار وحرير في أربيل، لافتًا إلى أن الحملة لم تحقق أهدافها ولم تنطل على أحد.
ويعتبر الكاتب المصري أن تنصل طهران من أي مسؤولية لأذرعها عما تعرضت له المنطقة الخضراء مؤخرًا أكبر دليل على رغبة النظام الإيراني في عدم منح إدارة ترامب أي مبرر للتصعيد أو استهداف أي مواقع إيرانية في الداخل أو الخارج، وهو ما يكشف زيف الادعاءات السابقة.
وفي المحصلة من الواضح أن الأمور في المنطقة تسير إلى الهدوء النسبي قدر الإمكان بفضل الضغوط الممارسة على ترامب لتجنب توسيع دائرة التصعيد حفاظًا على المصالح الأمريكية في المنطقة من جانب، وتجنب طهران الولوج في مستنقع المواجهة المباشرة حفاظًا على شعرة معاوية حيال ملف التواصل مع الإدارة الأمريكية الجديدة من جانب آخر.