ترجمة وتحرير: نون بوست
المنزل مثل الماء الذي تسبح فيه السمكة، فهو مألوف جدا لدرجة أننا غالبا ما لا نلاحظ تفاصيله. في البيت، يمكننا أن نضع أيدينا على مفاتيح الإنارة أو نمرّ بين أريكة وأخرى دون الحاجة إلى أن ننظر إليها. غير أن الإغلاق الشامل خلال أزمة كورونا غيّر كل شيء. نظرا لأن كل حياتنا أصبحت بين أربعة جدران، شعرنا فجأة أن المنازل أصبحت غير ملائمة.
نستهل سنة 2021 بآمال كبيرة بعد أن ظهرت لقاحات كورونا، لكن الكثير من المنازل ستودع الوباء بحلة جديدة ولن تعود أبدا كما كانت عليه قبل الأزمة. في المملكة المتحدة، كانت هناك حركة غير عادية في سوق العقارات عند رفع الإغلاق الأول في أيار/ مايو الماضي. في الثامن من تموز/ يوليو، وهو اليوم الذي أعلن فيه مستشار الخزانة ريشي سوناك عن تعديل فيما يُعرف بـ”ضريبة الدمغة”، أعلنت “رايتموف”، أكبر شركة ملكية عقارية في بريطانيا، أن موقعها على شبكة الإنترنت شهد حركة غير مسبوقة منذ تأسيسه.
يقول مارك باركنسون، وهو وكيل مشتريات بشركة “ميدلتون إدفايزرز”، إن أعماله ارتفعت بنسبة 20 إلى 30 بالمئة على أساس سنوي، ويضيف “يرغب الكثير من الناس في إجراء تغييرات. في السنة الماضية، استقبلنا عملاء أكثر من أي وقت سابق واشترينا منازل أكثر مما اشتريناه في أي وقت مضى في البلاد. لقد كانت سنة قياسية”.
أنا أيضا سأعيش هذا التغيير. في شهر آذار/مارس، سوف أنتقل إلى منزل ريفي مؤجر في شمال أوكسفوردشاير تبلغ مساحتها حوالي ضعف مساحة شقتي الحالية في جنوب لندن. كان من المفروض أن يكون التباعد الجسدي ومتطلبات النظافة العاملين الأساسيين في تغيير تصميم منازلنا، إلا أن كوفيدـ19 غيّر منازلنا لأننا أصبحنا نبحث عن أسلوب حياة مختلف.
تقول المهندسة المعمارية تارا غبولادي، المؤسسة المشاركة لشركة “غبولادي ديزاين ستوديو” إن “تعريف المنزل يتغير. الأمر يتجاوز منازلنا وحدائقنا الخلفية، وأصبح يشمل الشوارع أمامنا والتجمعات والجيران الذين قضينا سنوات نعيش بجوارهم ولكننا لم نتحدث معهم أبدا”. في هذا التقرير، حاولنا أن نستمع إلى آراء مصممين ووكلاء عقاريين ومشترين، عن التحولات التي ستشهدها منازلنا في سنة 2021 وما بعدها.
العيش مع العائلة
إلى حدود أيلول/ سبتمبر من هذه السنة، شكّل عدد البالغين الذين عادوا للعيش مع والديهم خلال الجائحة ما لا يقل عن 12 بالمئة من مجموع سكان المملكة المتحدة، وذلك وفقا لمسح أجراه موقع التمويل الشخصي “فايندر.كوم”. ولم يحدد أكثر من الثلثين تاريخا معينا لمغادرة منزل الوالدين.
هذه السنة، قد يكون هناك المزيد من طلاب الجامعات الذين يختارون العيش في المنزل أيضا، وفقا لهيلاري جيبي أبابيو، نائبة رئيس التعليم العالي في الاتحاد الوطني للطلاب، حيث يشعر الكثيرون بالاستياء جراء المعاملة التي تلقوها في الجامعات في جميع أنحاء المملكة المتحدة.
في الولايات المتحدة، أفادت 82 بالمئة من العائلات متعددة الأجيال أن العيش معا قد عزز الروابط الإنسانية بينهم
كتبت جيبي أبابيو في رسالة بالبريد الإلكتروني: “نظرا لحالة عدم اليقين المستمر بشأن كيفية مواصلة الدراسة في الفصل الدراسي المقبل، لن يرغب الكثيرون في المخاطرة بخوض التجربة وقد يفضلون البقاء في منازل أسرهم”.
قد يساعد ارتفاع عدد العائلات المجتمعة في تخفيف أثر النظرة الاجتماعية السلبية – في بعض الثقافات الغربية على الأقل – تجاه الشباب البالغين الذين يعيشون مع والديهم. كتبت ماديسون ديربيشاير في مجلة “فايننشال تايمز” في آب/أغسطس الماضي أنه يُنظر الآن إلى العيش في المنزل خلال أوقات الأزمات الاقتصادية على أنه أمر “جيد وموفّر“.
في كانون الأول/ ديسمبر، كشفت ستيلا بوغبي، المحررة بمجلة نيويورك، أنها كانت تعيش مع والديها على مدار الـ 16 سنة الماضية، لكنها لم تُفصح عن ذلك إلا عندما وضع الوباء العديد من زملائها في نفس الموقف.
أخبرني جاغو بولي، البالغ من العمر 28 سنة، والذي يعمل في مجال تأجير العقارات قصيرة الأجل، أنه عاد إلى المنزل في كانون الأول/ديسمبر، عندما انتهى عقد إيجار شقته المشتركة في لندن، وأن شركته أنهت عقد إيجار المكتب الذي كان يعمل فيه. ويقول بولي: “سبب انتقالك إلى لندن هو الجوانب الاجتماعية والقدرة على الخروج ورؤية الناس والقيام بالكثير من الأشياء”.
مع فرض إجراءات الإغلاق بسبب قيود فيروس كورونا، “كان منطقيا بعض الشيء العودة إلى المنزل”. وعلى الرغم من أن أي تغيير ناتج عن الأزمات الاقتصادية قد يكون أمرا مؤسفا، إلا أن هناك فوائد للعيش مع العائلة. في الولايات المتحدة، أفادت 82 بالمئة من العائلات متعددة الأجيال أن العيش معا قد عزز الروابط الإنسانية بينهم.
العمل والتعلم في المنزل
يبدو أن خيار العمل من المنزل – على الأقل لجزء من الوقت – سيبقى مستمرا. لقد أعلنت جميع الشركات، بما في ذلك غوغل وتويتر وزيلو وميكروسوفت، عن خطط للسماح بالعمل الكلي أو الجزئي عن بعد إثر نهاية الوباء، وأفاد استطلاع أجرته مؤسسة “451 ريسيرتش” في حزيران/يونيو 2020، أن 67 بالمئة من صناع القرار في مجال تكنولوجيا المعلومات في الولايات المتحدة يتوقعون أن سياسات العمل من المنزل ستكون إما دائمة أو طويلة الأجل.
في الوقت نفسه، ارتفعت شعبية التعليم المنزلي بشكل كبير، حتى أن بعض المدارس الخاصة في المملكة المتحدة تقوم بإنشاء مجموعات “التعلم عن بعد أولا”، وهي عبارة عن دروس عبر الفيديو. سيكون على منازلنا التكيف مع هذه التطورات.
هناك حلاّن للمنازل الحديثة الضيقة: التوسع أو التقسيم. هذه السنة، زادت الطلبات على شركة “سيمبلي لوفت” المتخصصة في تحويل الغرف العلوية بنسبة 54 بالمئة مقارنة بسنة 2019، وهو ما يثير المخاوف حول زيادة الضوضاء في المدن الكبرى.
في الوقت نفسه، أفادت شركة “ريسي” للهندسة المعمارية أن عمليات البحث على موقعها الالكتروني ارتفعت بنسبة 95 بالمئة في سنة 2020 مقارنة بالسنة الماضية، وكانت خدمة “توسيع المنازل” هي الأكثر طلبا.
في الحقيقة، تقدم شركات جديدة حلولا مستقبلية. تصنع “مودولر”، وهي شركة بريطانية فتحت أبوابها في خضم انتشار الوباء، مساحات عمل أنيقة قائمة بذاتها يمكن للشركات تركيبها في أي مكان. ومن المحتمل أن تكون هذه المكاتب، التي يبدأ سعرها من 17500 جنيها إسترلينيا، ميزة لكبار الموظفين. في هذا الصدد، يقول المؤسس المشارك جو فان ريمسديك: “يشعر الناس أنه يمكنهم الذهاب إلى العمل في مكان آخر، حتى لو كان ذلك يعني الابتعاد خمس خطوات فقط”.
وفي الوقت نفسه، أنشأت الشركة الأسترالية “وودز باغوت” للهندسة المعمارية مجموعة من الجدران والشاشات المتحركة لتحويل مساحات المعيشة المفتوحة إلى مكاتب خلال النهار، وإعادتها كما كانت في الليل. في آب/ أغسطس، وصلت عمليات البحث في محرك غوغل عن “مقسّم الغرفة” إلى مستويات قياسية في جميع أنحاء العالم.
إن الهجرة الجماعية من المدينة تعتمد على الحاجة إلى المساحة الشاسعة، إلى جانب المرونة التي يوفرها العمل من المنزل. في يونيو/ حزيران، زاد الإقبال على المنازل التي تقع في المناطق الريفية في جميع أنحاء الولايات المتحدة بنسبة 34 بالمئة.
وحسب موقع “ريلتور”، يقول كريسبن هولبورو من شركة “سافيلس” المتخصصة في بيع العقارات الفخمة في الريف البريطاني، إن السوق شهد قفزة هائلة في مبيعات العقارات الريفية التي يزيد سعرها عن 15 مليون جنيه إسترليني، حيث تم بلغت المبيعات واتفاقات البيع 22 صفقة في سنة 2020، مقارنة بصفقة واحدة فقط في 2019. وأضاف “هذا أفضل ما رأيناه في السوق منذ تموز/ يوليو 2006”.
في السنة الماضية، لاحظ باركنسون من شركة “ميدلتون أدفايزرز” مجموعة جديدة من المشترين في المناطق الريفية، سواء كانوا أشخاصا “لم يتخيلوا أبدًا أنهم قد ينتقلون إلى خارج المدينة”، أو الأزواج الشباب الذين يفضلون العيش في الضواحي.
شهدت سنة 2020 قفزة في أعداد المشترين الذين يتطلعون إلى ميزات مثل الزجاج المزدوج ومنظم الحرارة الذكي
سيكون من الصعب الهروب من جمال الحياة الريفية في سنة2021 نظرا لانتشار صيحة الـ”كوتاجكور” التي لا يمكن إيقافها. يستحضر اتجاه التصميم الشامل نسخة مثالية من الحياة الريفية البريطانية، وقد أصبح شائعا عالميا في ظل حالة التعطش للطبيعة مع انتشار الوباء.
تقول كاتي كالوتي، وهي مدونة من نيوجيرسي، في موقع إنستغرام: “أعتقد أن الفكرة الرومانسية عن السكن والاكتفاء الذاتي، كانت بطريقة ما آلية للتعامل مع الواقع المرعب”. وتضيف: “منذ انتشار كوفيد-19 أصبح كل شيء يدور حول البحث عن الراحة والرعاية الذاتية والهروب من الواقع، وهي المبادئ الأساسية التي يقوم عليها الكوتاجكور”.
في نيسان/ أبريل، عندما حدثت عمليات الإغلاق الأولى في أوروبا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، سجلت عمليات البحث “كيفية زراعة الخضروات” في محرك غوغل مستويات قياسية.
وفي الشهر الماضي، عندما أعلنت حكومة المملكة المتحدة عن الفائزَين في مسابقة “منزل 2030”- وهي مسابقة تركز على تصميم منازل بأسعار مقبولة، وتكون عملية وصحية – كان كل منهما قد صمم حديقة جماعية.
أخبرني كريس براون من “إيغلو ريجينيرايشن”، والذي قاد أحد الفريقين الفائزين، أن تصميم الحدائق الجماعية كان مستوحى من حالة التكاتف الاجتماعي في جميع أنحاء البلاد خلال الأزمة الصحية وتجارب البستنة المشتركة التي انتشرت بشكل غير مسبوق.
تنتشر مثل هذه المشاريع الطموحة في جميع أنحاء العالم. حدثني برينت فوستر، من من كيتشنر بولاية أونتاريو الكندية، والذي يعمل في مجال الخدمات اللوجستية الغذائية، عن مساهمة كوفيد-19 في تسريع انتقال عائلته إلى منزل يبعد ألفي كيلومتر عن مسكنهم. يقول فوستر إن العمل من المنزل “ولّد الرغبة في معرفة ما إذا كانت هناك طريقة لأبقى هناك بينما يكبر أطفالي”.
عبر البريد الإلكتروني، أخبرني مارك فالنسيا، الذي يدير قناة “سيلف سوفيشنت مي” على اليوتيوب، أن أرقام مشاهدة مقاطع الفيديو الخاصة به، والتي تقدم محتوى يهتم بكيفية تربية السمان واستخدام رؤوس الأسماك كسماد نباتي في حديقته في كوينزلاند بأستراليا، تضاعفت ثلاث مرات في الشهر الأول بعد بداية الجائحة، وارتفعت من حوالي 3 ملايين شهريا إلى 10 ملايين. بعد تسعة أشهر، “لا تزال هناك زيادة ملحوظة في أعداد الناس الذين يرغبون في زراعة الخضار والغلال في المنزل”.
في استطلاع “ستروت آند باركر” السنوي لعقود الإسكان المستقبلية، شهدت سنة 2020 قفزة في أعداد المشترين الذين يتطلعون إلى ميزات مثل الزجاج المزدوج ومنظم الحرارة الذكي، وارتفاعا حادا في أعداد الراغبين في الانتقال إلى منازل جديدة بسبب ميزاتها البيئية.
في النهاية، السؤال الكبير فيما يتعلق بالسكن في فترة ما بعد كوفيد-19 هو: كيف يمكننا التكيف وأن نكون مستعدين بشكل أفضل “في المرة القادمة”؟
يبدو أن الإجابة لا تكمن في التدابير التي تم اتخاذها للتعامل مع هذا الوباء. يقول جوني أنستيد، المدير المؤسس لشركة “تاون أرشيتيكتس” إننا بحاجة إلى تصميم المنازل بطريقة تجعلها قادرة على الصمود أمام جميع التهديدات: جائحة أخرى، أو تغير مناخي، أو شيء لم يظهر حتى الآن. ويضيف قائلا: “ما يهم هو المرونة بشكل عام لمواجهة تحديات المستقبل المجهولة”.
المصدر: فايننشال تايمز