الرواية فن يقول ما بين السطور، وما لا يقال في الحياة، وما يخشى الناس أن يسمعوه وما يشعرون به ويصمتون أمامه.
“أنا أنبئكم بأقدار الأمم، السيف والرمح أولًا، والموسيقى والغناء أخيرًا”.. يمكننا القول إن هذا الشطر من غزلية الشاعر محمد إقبال تصلح مدخلًا لفهم هذه الرواية الملهمة والمؤلمة في آن واحد.
“سفر الخروج” هي نوفيلا (رواية قصيرة) لا تتجاوز السبعين صفحة، صدرت عن دار تنوير في مصر عام 2017 في أول طبعة أصلية وشرعية بالاتفاق مع ورثة المؤلف قدرت الله شهاب، وهي الرواية الأولى التي تتناول تقسيم شبه القارة الهندية وولادة دولة باكستان بعد خروج الاستعمار الإنجليزي من الهند، ذلك التقسيم الذي خلف كارثًة إنسانية حقيقية وأثرها الاجتماعي على أهل الهند وباكستان، تحكيها الرواية وترثيها برهافة حِسّ وقلم نازف.
الكاتب
لعبت شخصية الكاتب في هذه النوفيلا دورًا محوريًا، فقد كانت تجربته الحياتية كأديب وسياسي ورجل دولة هي مادة صدق هذا العمل والسبب الرئيسي لعمقه وبراعته في رسم صورة حيّة لما حدث.
بدأ الكاتب حياته الأدبية منذ كان طالبًا في الكلية، فكتب المقالات الأدبية في مجلة “رومان” الأدبية
كاتب الرواية قدرت الله شهاب، الأديب الذي عمل في غيابات السياسة، فبدأ العمل السياسي كمساعد نائب رئيس مدينة، حتى وصل إلى مناصب عليا في الدولة وصار وزيرًا للتعليم مرتين.
بدأ الكاتب حياته الأدبية منذ كان طالبًا في الكلية، فكتب المقالات الأدبية في مجلة “رومان” الأدبية التي كان يصدرها الشاعر أختر شيراني، كما ترأس عدة مناصب علمية في الجمعية العلمية الأردية وجمعية تطوير اللغة الأردية في كراتشي، كان للرجل نزوع صوفي عميق – كما جاء في مقدمة الرواية – برز في أعماله، ويعتبر أحد أولئك الذين شَهدوا عملية التقسيم من الداخل، فانعكس هذا واضحًا على روايته، وتتجلى لنا شخصية الكاتب كأديب مرهف الحس اكتوى بنيران التقسيم وسياسي شاهد على فداحة المصيبة وما فعلته بالنفوس وعلى الديباجات الكاذبة التي تم تمريرها في الوعي الجمعي باسم الدين والمصلحة والإسلام آنذاك.
الشخصيات في الرواية
“أسكنت دلشاد بداخل المسجد، لأن سقف الحجرة قد انهار بعدما اشتعلت فيه النيران، ومع أن جسدها وروحها كانا رأس مالها، إلا أن مِسبحة أبيها كانت أعزّ ما تملك”.
لم تكن شخوص الرواية هنا إلا رموزًا متجسدة لمعانٍ وأحداث أراد الكاتب أن يعبر بهم عنها.
1- الشيخ علي بخش
“ثمة سحر أسود في الآذان، ولذا ترتعد الفتيات عند سماعه، فلو أن فتاة غير متزوجة أصابتها رعدة الآذان، فثمة خطر شديد يتهدد قدرتها الإنجابية، ولو أصابت هذه الرعدة امرأةً متزوجةً، لسقط حملها”.
علي بخش والد البطلة، رجل تقيّ عابد زاهد، كان يعمل مؤذنًا لمسجد قرية جمكور التي ضمّت السيخ والمسلمين، شيخٌ يدعو إلى الله بمحض وجوده بالآذان وصوته فقط، ومع ذلك قُتل هذا الشيخ الوقور داخل المسجد وتمزق جسده وألقي به في الجب على يد أمريك سنغ، الفتنة الطائفية التي أشعِلت بين السيخ والمسلمين في تلك القرية، قَتل السيخ علي بخش المسلم بغير معنى وسبب حقيقي، بسبب بعض المعتقدات الخرافية التي أشيعت عن الإسلام وصدقها السيخ أو أرادوا تصديقها فقط.
2- أمريك سنغ
“لكزَ أمريك سنغ ضلوع دلشاد بطرف خنجره، وجذب خدها الأيسر، فأدار صفحة وجهها من جهة الغرب إلى جهة الشرق”.
أمريك سنغ كبير السيخ في القرية، والقاتل الذي قاد الفتنة الطائفية في جمكور بين السيخ والمسلمين، حتى نظفت القرية بدماء المسلمين، بسبب معتقداتهم عن الإسلام، اختاروا القتل والإبادة في الوقت الذي كان دستور السيخ يقر حرية العبادة المطلقة!
3- دلشاد
“فيمَ تحملقين يا غبية، ألكِ سيدًا في تلك الجهة؟!
تلخص هذه الجملة رحلة البطلة دلشاد، الداخلية والخارجية، تلك الفتاة التي قضت طفولتها آمنة في حماية أبيها المؤمن، حتى قُتل، فصارت موطئًا لكل مار!
دلشاد البطلة على طول الخط تتطلع إلى جهة أخرى، جهة الغرب تبحث عن سيدها في السماء وسيدها في الأرض، حبيبها المفقود رحيم خان لعل أحدهم يخلصها من الأسى الذي غرقت فيه!
من غير أي مقاومةٍ تذكر لدلشاد وفي استسلام مذل ومهين لواقعها، مشت بخطوات ثابتة وبطيئة نحو مستقبلها الأسود بالصمت والأسى والأمنيات الساذجة وأحلام اليقظة التي لولاها ما عاشت يومًا واحدًا حتى انتهى بها الحال في المعسكر كخادمة تقتات على تحضير الشاي والقهوة بالنهار وتبيع الهوى في الليل وتظلّ تحلم وتأمل.
دلشاد هي رمز الأمة الحائرة، ابنة الإسلام الشريدة حتى الآن.
“كانت دلشاد حطام نجمة، تناثرت أشلاؤها في الفضاء الواسع المهجور، لتهيم فيه وحيدة، إذ سلب كساء السماء الذي تدثر به كيانها، وغاض الشمس والقمر، وانطفأت قناديل النجمة، لتبقى هي وحيدة بلا نصير أو معين”.
من الأفراد إلى المجتمع (ميلاد باكستان)
لم يكن الإنجليز ليتركوا البلاد والعباد إلا بعد أن يطمئنوا أنها ستسير وفق ما يرجون، ففي الوقت الذي بدأت فيه الرواية بحياة بسيطة في قرية، انتهت بحياة منهكة في معسكر لآلاف رحلوا وهجروا وأخرجوا من ديارهم بسبب التقسيم، منهم من مات متجمدًا من البرد، ومنهم من مات من قلة الطعام (على وفرته في مخازن الضباط وقتها)، فلم تكن تتفتح زهور العطاء على أولئك البؤساء إلا عند زيارت الوفود للاطمئنان على حقوق الإنسان.
من أجل باكستان الإسلامية تشرد الآلاف ومات الأطفال واغتصبت النساء!
الإنسان كلعبة
أسرة إنجليزية، تتمشى في أرجاء باكستان، تتوقف أمام دلشاد الجالسة للتسول وابنتها الرضيعة ليعطفوا عليها، فيعطيها الولد الصغير نقودًا، ويخبر أبويه برغبته في أن يقتني لعبة مثل رضيعة دلشاد ليخبروه أنهم سيحصلون على واحدة قريبًا!
يختصر هذا المشهد كلمات كثيرة ربما لم تكن لتجدي شيئًا، في تصوير صورة الإنسان الشرقي بالنسبة للمستعمر الأبيض كلعبة!
من المجتمع إلى الدولة
في القسم الأخير من الرواية ينتقد الكاتب الدولة التي تأسست بعد خروج الاستعمار وعلى يديه في مشهد قوي ومعبر لصحفي يسأل مستنكرًا عن تضاعف وارد الخمور البريطانية في لاهور وكراتشي منذ تأسيس باكستان، ويتساءل: أليس هذا مخجلًا لأكبر دولة إسلامية؟، فيرد التاجر قائلًا وهو يشرب الويسكي: “سيدي نحن نؤسس دولة وليس معبدًا”.