قرون حكمت خلالها السلطنة العثمانية البلاد العربية، وأدارت مؤسساتها المركزية والتمثيلية شؤون البلاد العربية، وفيها كُتبت ودُونت آلاف الوثائق والمخطوطات والفرمانات والقرارات التي كانت تصدر من الجهات الإدارية النافذة، بدءًا بالسلطان ومرورًا بالصدر الأعظم والهيئات المركزية السلطانية العثمانية، وليس انتهاءً بالولاة والحكام والقضاة وأصحاب الشأن والسلطة المحلية أو القوى القبلية أو الدينية.
وشكلت فترات الحكم تلك مرحلة مهمة في جمع وتدوين وأرشفة الأحداث والوقائع والتفاصيل اليومية الكبيرة والصغيرة عن تاريخ الولايات العربية التابعة للسلطنة العثمانية جمعيها.
الأرشيف العثماني خزان للوثائق والمخطوطات التاريخية العربية
شكل الأرشيف العثماني “خزينة الأوراق” بما يحتويه من وثائق ومخطوطات رصيدًا ضخمًا لسنوات طويلة من الأحداث والوقائع والإنجازات والإصلاحات والفرمانات والقرارات الخاصة والعامة التي صدرت في مرحلة حكم الدولة العثمانية، وفي علاقاتها بالعرب والأقوام والإثنيات المختلفة في المناطق العربية، ومن ثم اتصالاتها مع الدول والقوى الإقليمية وطبيعة قرارات الحكام والولاة وتعاملهم مع الرعية وتنظيمهم لشؤون البلاد والعباد.
ولدت فكرة “الأرشيف” من لدن المفكر والمصلح العثماني الصدر الأعظم مصطفى رشيد باشا، الذي كان متأثرًا بتطور الحضارة الأوروبية بعد أن عمل سفيرًا للباب العالي في لندن وباريس، ورأى مدى أهمية الأرشيفات الموجودة هناك، وعليه تأسس الأرشيف العثماني تحت مسمى “خزينة الأوراق” عام 1846م، وهو الأرشيف الثالث عالميًا، وذلك بعد الأرشيفين الفرنسي (1790م) والبريطاني (1838م).
تؤكد الدراسات التاريخية أن الأرشيف العثماني يضم نحو 150 مليون وثيقة و372 ألف سِجل، ومنها آلاف الوثائق التي ترتبط بالجزيرة العربية، إضافة إلى ذلك يضم الأرشيف رصيدًا ضخمًا من الوثائق التي ترتبط ببلاد المغرب العربي وتاريخها، فضلًا عن العراق والشام ومصر واليمن والحجاز، وتبرز أهمية تلك الوثائق من كونها سمحت بدراسة الحوادث ومقارنة بعضها ببعض، ومكنت المؤرخين من البحث والتحليل بأسلوب أكثر وعيًا وخبرةً بالوثيقة التاريخية.
تعد الخرائط التاريخية العثمانية جزءًا بالغ القيمة والأثر في الأرشيف العثماني، وإحدى أهم وأثرى ما تركته الدولة العثمانية من ميراث تاريخي يرتبط بتاريخ العديد من المناطق الجغرافية
يعتبر الأرشيف العثماني أول أرشيف منظم في تاريخ العالم الإسلامي، وأحد أكبر دور الأرشيف في العالم، نتيجة للعدد الضخم الذي يحتويه من الأسرار والمعلومات في وثائقه ومخطوطاته، كما تنبع أهميته من كونه مصدرًا مهمًا في فهم ودراسة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية لكل الأمصار والأقاليم التي كانت تحت سيطرة الدولة العثمانية وخارج حدودها أيضًا، التي أصبحت اليوم كيانات ودولًا مستقلةً، ولا يمكنها كتابة تاريخها في قرونها الأخيرة دون العودة إلى وثائق الأرشيف العثماني.
وتبرز أهمية الأرشيف العثماني من واجهة حضارية عالمية، إذ يمثل حضارة الدولة العثمانية أو الحضارة التركية القديمة والحديثة، وكذلك يشكل مكانًا لتخزين الخرائط التاريخية الدقيقة لجميع البلدان والأنساب والأمم التي شاركت في تكوين هذا العدد الهائل من الكنوز الوثائقية، أضف إلى ذلك أن الأرشيف يحتوي على معلومات شاملة عن أوضاع الدول العالمية آنذاك، التي كانت لها علاقة مباشرة وغير مباشرة بالدولة العثمانية على مدى أكثر من ستة قرون، كبريطانيا وفرنسا وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية والهند وبلاد فارس والصين والمغرب وإفريقيا ودول أخرى.
تعد الخرائط التاريخية العثمانية جزءًا بالغ القيمة والأثر في الأرشيف العثماني، وإحدى أهم وأثرى ما تركته الدولة العثمانية من ميراث تاريخي يرتبط بتاريخ العديد من المناطق الجغرافية التي تتوزع على ثلاث قارات، وكان كثير منها – في يوم من الأيام – خاضعًا لنفوذ وسلطان الدولة العثمانية.
يمكن القول: ظهرت فكرة الخرائط العثمانية في القرن التاسع عشر الميلادي، وقد تميزت بكونها ثلاثية الأبعاد، جسدت التضاريس وارتفاعها عن سطح الأرض، في وقت لم يعرف فيه العالم أجهزة الحاسب وتقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد، واستخدم فيها رسامو الخرائط العثمانيون الشمع والورق المقوى والصمغ والجبس، وقد عُرفت الخرائط العثمانية بدقتها المذهلة، مع الأخذ في الاعتبار الفترة الزمنية التي رُسمت بها، وشكلت لوحات فنية إبداعية، جمعت بين التاريخ والجغرافيا وحرفية التصميم الهندسي وجمالية الورق والفن والألوان، وكذلك الدقة والحرفية العالية في الإعداد والتنفيذ، وضم أرشيف الدولة العثمانية خرائط تاريخية ثلاثية الأبعاد لجزر كريت ورودس ومدينة القدس وحلب وبغداد والجزيرة العربية وشمال إفريقيا وبلاد النيل ومئات المناطق في العالم.
الخرائط العثمانية والتاريخ العربي.. نماذج عربية
شكلت الخرائط العثمانية رافدًا مهمًا لحفظ وتوثيق وتدوين التاريخ العربي الحديث، فهي إضافة إلى كونها وثائق تاريخية بالغة القيمة والأثر في عدد من القضايا العربية الراهنة، تشير أيضًا إلى الإرث والتاريخ المشترك للعرب والعثمانيين، ومستوى تطور العلوم والمعارف في العلوم الإنسانية والاجتماعية والهندسية في مراحل الدولة العثمانية.
إن الخرائط العثمانية تمثل انعكاسًا واضحًا للتمازج والتمايز الثقافي بين الترك والعرب في آن معًا، وتعد تجسيدًا حقيقيًا لرابطة العثمنة الإسلامية، بما تشمله من صور وخرائط لمدينة القدس، وطرق الحج بين إسطنبول والحجاز، وعلى امتداد رقعة العالم الإسلامي الذي كان تحت إدارة الباب العالي.
وكذلك فإن الدقة العالية التي تحملها الخرائط العثمانية تدحض الأطروحات الاستشراقية التي هاجمت العثمانيين واتهمتهم بالاستبداد والتخلف، فهناك حراك إصلاحي ودستوري واجتماعي وفكري في أواخر عهد الدولة العثمانية عكسته الخرائط التاريخية بكل ما احتوته من تفاصيل وواكبته من أحداث وتطورات.
تكتسي الخرائط التاريخية العربية في الأرشيف العثماني قيمة تاريخية نادرة، وتشكل مادة علمية مهيأة للمتخصصين والمهتمين في المراكز التاريخية البحثية والأكاديمية العربية، لأن جزءًا كبيرًا منها كتب بيد الولاة والمسؤولين وضباط في الجيش وكبار شيوخ القبائل والوجهاء والأعيان والشخصيات المؤثرة في الولايات العربية العثمانية، حيث جاء نصيب البلدان العربية وتاريخها حافلًا في الأرشيف العثماني، وتلك الوثائق تحظى بموضوعية وحيادية عالية، لأن نواب السلطنة كانوا مضطرين إلى جمع وكتابة معلومات دقيقة في تقاريرهم ترتبط بأمن الدولة واستقرارها، وموازنة علاقاتها الداخلية والخارجية.
والخرائط التاريخية من أبرز أصناف الوثائق الأرشيفية التي ارتبطت بالمنطقة العربية وتاريخها، وصفت المناطق والحواضر، وقدمت توثيقًا تاريخيًا وديموغرافيًا وجغرافيًا للمنطقة العربية عمومًا، وتناولت تاريخ الجزيرة العربية، وجاء ذكر حواضرها وقراها وأراضيها بتفاصيل وشروح وافية في السجلات الرسمية والبرقيات السلطانية والدفاتر العدلية وملفات المحاكم الشرعية والدوائر البلدية الموجودة في الأرشيف العثماني، ومن الأمثلة عليها وصف الدرعية في الحجاز، ووردت معلومات وافية عنها، منها ما ذُكر في وثائق إبراهيم باشا المخزّنة في الأرشيف العثماني، وذلك خلال الهجوم على الدرعية، فقال في وصفها: “إنها قلعة تقع بين جبلين، وإن المدافعين عنها توزعوا على ثلاثين إلى أربعين برجًا بين النخيل”، وكذلك ورد تحديد موقع الدرعية الجغرافي بتحديد بُعدها عن الأحساء والقصيم وغيرهما.
ومن الحواضر في الجزيرة العربية التي ورد ذكرها في الوثائق العثمانية – على سبيل المثال لا الحصر – (البحرين وجدة وحائل ودبي والدوحة وقطر والرياض والظهران والقصيم، وغيرها)، وقد ورد في وصفها تحديد حكامها وعدد سكانها وبيوتها ونشاط قاطنيها والمسافات بينها، وما يمتلك أهلها من السفن أو الماشية أو سفن الصيد البحري.
فقدمت الوثائق العثمانية سردًا كاملًا لتاريخ هذه الحواضر في تلك الفترات، ما يعطي انطباعًا واضحًا عن مرحلة مهمة من تاريخ الوجود العربي في الجزيرة العربية، وعلاقته بالقوى التي مرت على المنطقة، وعن التطور والنمو الإنساني والاقتصادي والسياسي الذي شهدته المنطقة.
كذلك أفردت الوثائق العثمانية اهتمامًا وتفاصيل وافية عن مشروع سكة حديد الحجاز، الذي كان من أهم مشاريع السلطان عبد الحميد الثاني، وقد شرع بتنفيذه لغايات سياسية واقتصادية وأمنية ودينية، ليشكل أحد عوامل تعزيز النفوذ العثماني على الحرمين الشريفين والعالم الإسلامي أمام التهديدات الأوروبية لوحدة أراضي السلطنة، وأسهم هذا المشروع في التنمية والاقتصاد وتسهيل انتقال أعداد كبيرة من الحجاج إلى مكة والمدينة المنورة، وكان سدًا منيعًا أمام الأطماع الإنجليزية والفرنسية والروسية التي كانت تهدد كيان الدولة العثمانية من داخلها.
أطلقت غرفة تجارة إسطنبول في فبراير 2020 دليلًا جغرافيًا للأراضي الفلسطينية في العهد العثماني
أما عن فلسطين، التي يخوض سكانها صراعًا على الوجود، فاحتوى الأرشيف العثماني وثائق ضخمة كشف بعضها عن ملكيات الأراضي والفدادين والمزارع والبيوت والتخطيط العمراني المدني للقدس ويافا وعكا وحيفا وعسقلان والجليل واللد وغزة، وتنسف الخرائط العثمانية على اختلاف أشكالها من أوراق ملكية الأراضي والسندات العائلية والشخصية، كل الادعاءات الأوروبية واليهودية بأن فلسطين كانت أرضًا خالية من السكان.
وفي عام 2018، حصلت وزارة الأوقاف الفلسطينية على نسخ إلكترونية من وثائق الأرشيف العثماني، ساهمت في إسناد قانوني لتثبيت ملكية عدد من الفلسطينيين لعقارات وأراضٍ وبيوت في القدس تحاول “إسرائيل” مصادرتها والسيطرة عليها عبر التشكيك في صحة تملكهم لها وتزوير سندات جديدة حولها.
كما تمكنت السلطة الفلسطينية من إثبات وقفية العديد من أراضي الأوقاف التي حاولت دولة الاحتلال مصادرتها لصالح أعمال الاستيطان، لكونها أراضي دولة لا مالك لها، وهو الأمر الذي قابلته الدعاية الإسرائيلية بموجة من التحريض والتهجم على الدولة التركية، واتهامها بالتدخل في الشؤون الداخلية الإسرائيلية، هادفين لإخفاء الحقيقة وتشويه خرائط الأرشيف الفلسطيني، والتقليل من قيمتها.
وتأكيدًا لأهمية الخرائط العثمانية في التاريخ العربي عمومًا، وفي قضايا الوجود والشرعية وحقوق الملكية خصوصًا، أطلقت غرفة تجارة إسطنبول في فبراير 2020 دليلًا جغرافيًا للأراضي الفلسطينية في العهد العثماني، يوثق الخرائط والملكيات الفلسطينية منذ القرن السادس عشر الميلادي، تمهيدًا لاستخدامه في المحافل الحقوقية والقانونية الدولية وإثبات عربية فلسطين وحقوق شعبها التاريخية في أرضه، وضم الأطلس في مراحله سندات الملكية “الطابو”، وأماكن الملكية على الخرائط.
الخطابات والمراسلات العربية في الأرشيف العثماني
إلى جانب ملايين الوثائق السياسية والإدارية والمالية والعسكرية والخرائط والتقارير، فقد ضم الأرشيف العثماني مخطوطات عربية في اللغة العربية والعلوم الإسلامية، إضافة الى آلاف الخطب والقصائد التي كانت تصل إلى إسطنبول عاصمة الخلافة ومقر الخليفة العثماني من الأقطار العربية.
ومن هذه الخطابات أشعار وقصائد كانت ترسل في المناسبات المختلفة إلى الخليفة العثماني للتهنئة بالأعياد أو الجلوس على كرسي السلطنة، إضافة إلى مواضيع سياسية ودينية وأدبية واجتماعية وثقافية ترتبط بالمناطق التي يقطنها مرسلو هذه الرسائل إلى السلطان العثماني، وتدلل متابعة تلك الوثائق على أهميتها، فمنها شكاوى ضد شخص أو فئة معينة، ومنها التماس في دفع مخصص مالي تأخرت الدولة في دفعه أو تعيين عالم على إحدى المدارس الشرعية أو تأسيس مكتبة أو وقف وغير ذلك.
تمثل الخرائط التاريخية العربية في الأرشيف العثماني كنوزًا معرفيةً، ومواد توثيقية قانونية في إثبات الملكيات وكشف تفاصيل الجغرافيا التاريخية في كثير من المناطق
ومن الخصائص الفنية للخطابات العربية في الأرشيف العثماني، كما يذكر، أنها مدونة باللغة العربية الفصحى وتحتوي في الغالب على تاريخ كتابة الخطاب وتوقيع صاحب الخطاب واسمه، إضافة إلى الأختام التي كانت تتنوع في محتواها ما بين آيات قرآنية أو أدعية أو أقوال مسجوعة وغيرها.
ومن نماذج بعض الخطابات العربية في الأرشيف العثماني:
- خطاب الأمير سعود بن عبد العزيز آل سعود إلى والي الشام يوسف باشا.
- خطاب الحسين بن علي حيدر إلى السلطان عبد المجيد بن محمود الثاني.
تمثل الخرائط التاريخية العربية في الأرشيف العثماني، سواء التي اكتشفت أو التي وظفت في تبيان الحقائق التاريخية حول منطقة أو بلد عربي، أو تلك الراقدة حتى الآن في أدراج وخزائن الأرشيف الكبير، كنوزًا معرفيةً ومواد توثيقية قانونية في إثبات الملكيات وكشف تفاصيل الجغرافيا التاريخية في كثير من المناطق، وفي إظهار طبيعة علاقة رعايا الدولة العثمانية من العرب والأقوام والإثنيات مع حكومة الباب العالي في إسطنبول ومع المواطنين الأتراك والشعوب العثمانية الأخرى.
وتحتاج تلك الخرائط التاريخية لاهتمام زائد، حيث إن هناك ضحالة في البحث والتحقيق والترجمة لتلك الوثائق التاريخية، وقلة تناول تلك الوثائق من الباحثين العرب سببه اختلاف الثقافة وقلة الخبرة في اللغة وضعف الإمكانات المادية وعدم وجود جهد جماعي لاستعمال تلك الوثائق في مختبرات تاريخية تضع على عاتقها مسؤولية حفظ التراث العربي من الاضمحلال والضياع في ظروف استثنائية من التهجير والاحتلال والتغيير الديموغرافي والحروب والأزمات الأمنية والمعيشية التي تعمّ بلدان الشرق الأوسط (العربية) برمتها.