العلاقة بين العمارة كموجود مادي وغيرها من الفلسفات والمعتقدات غير المادية علاقة حملت تساؤلات منذ قديم الأزل، فهدف العمارة هو بناء نفعي جمالي مُكرس للمعاش والفكر، فالعمارة فكر تطبيقي هدفه تحويل الخيال إلى واقع، أما الفلسفة ففكر لا يضره ألا يرقى إلى منزلة التطبيق، ومع ذلك فإن في العمارة من الفكر المُنشئ والمناهج الأيدلوجية التي تُثريها أحيانًا أكثر مما فيها من المادة الظاهرة للعيان.
وذلك لأن العمارة والبناء مفهومان متباينان، وإن كان البناء انعكاسًا للعمارة ووعاءً لأفكارها المجردة كما يحتوي الكأس على الماء أو الجسد على الروح، فالبناء هو وسيلة لتحقيق العمارة، أما العمارة بمفهومها الأشمل فهي وعاء الفكر الكامن وراء التكوين الظاهر أو البناء، وهكذا تتخطى العمارة مجرد إرضاء الحاجات المادية البسيطة، وتحاول تحقيق مفاهيم أسمى استجابة للفكر والروح، وحتى فإن أكثر البنايات القديمة التي قد تُعتبر بدائية ما إن تختلط بمُكون أُنشى لخدمة الأفكار والمعتقدات، فإننا عادة ما نجد هذه البناية تتسم بالحياة والإشراق الأكثر من المادية الصرفة.
وعندما ننظر إلى الشخصية المعمارية شبه الموحدة التي تُغطي مساحات المعيشة في معظم أنحاء العالم والظروف الاقتصادية والواقعية لعمليات الإنشاء التي صاحبها هيمنة فكر الميكنة والوظيفية فوق الفكر، نجد أنه كان لذلك تأثير على ما يمكن تسميته “أماكن الجذب” لدرجة أن أطلال مبنى قديم أو بلد ريفي تقليدي بسيط أو بيت مهجور يمكن أن يصبح محطًا للإعجاب والزيارة! إذ يمكن أن يؤدي وجود عدد قليل من المباني التاريخية بسهولة إلى تحويل مدينة لوجهة سياحية، فإن الكثير من الجولات السياحية أصبحت نوعًا من جولات الـ”ديزني لاند”، حيث تذهب لتشاهد المباني في جولة استعراضية غير مرتبطة بل ومنفصلة شديدة الانفصال بوجه كبير عن الواقع الحياتي والفكري المحيط بها.
ومن جانب آخر، فقد تم إهمال الطبيعة بل وتدميرها، وتغيرت العادات المعيشية التي فتحت الباب أمام العديد من الكوارث الثقافية والعضوية، ونهبنا التراث التقليدي وسيطر الجشع على الوسط الإنشائي، حتى أصبحت البيئات المعمارية غير صالحة للسكن الآدمي، وأدى ذلك بطبيعة الحال إلى مشكلات نفسية واجتماعية أثرت على الكثير من البشر الذين وجدوا تلك البيئات التقليدية ورحلات “الديزني لاند” ملجأ يحتمون إليه للهروب من الواقع.
وقد يكون هذا الهروب من الواقع هو ما دفعنا إلى البحث عن بديل، ولم تكن رحلة الهروب تلك منشأ محتملًا للتعبير عن الرغبة في مستقبل أكثر إشراقًا، ففي العادة الأحلام هي التي دفعت إلى إنتاج الأعمال الحضارية والمعمارية العظيمة وإشعال الإلهام، حيث كان العلم والرغبة في التغيير الدافع الرئيسي للحضارة.
لكن يبدو أن شيئًا ما تم تدميره بشكل كبير، حيث سُلبت من الكثير وأُطفئت تلك الشعلة، فلم نعد نرى الكثير من الأعمال المعمارية المثيرة للإعجاب، ولا حتى نرى الحركات الفنية المؤثرة على المجتمع والأوساط الفكرية، ذلك لأننا انغمسنا في براجماتية عقلانية فرضتها علينا أنظمة العصر وتحول كل فرد إلى ترس في منظومة أكبر غير مسموح له في أغلب الأحيان بوقت حُر يسقي فيه نبتة إبداعاته.
وبمعنى آخر فإن المجتمع أصبح يتكون من أشخاص عاديين لا تشغلهم العمارة ولا الفنون، فقد انعدم لدى المجتمع الوعي المعماري والإدراك الجمالي، لكن دعونا نعود إلى السؤال الأول: لماذا إذًا ننجذب إلى المباني القديمة مع كل هذا؟ ما الذي تخاطبه فينا ولا تخاطبنا غيره به؟
المُعتقدات والأساطير كمُحرك معماري
الأساطير قصص يتم تناقلها شفهيًا من جيل إلى جيل، وهي تأريخ لما قبل الثقافة البشرية بمفهومها الحديث، وتحاول الأساطير شرح النظرة الإقليمية للثقافات فيما يتعلق بالممارسات والمعتقدات غير المعروفة تاريخيًا من خلال القصص الخيالية التي قد تعكس جزءًا من الحقيقة – ممثلة لأفكار المجتمع – بروايات مجازية غير صحيحة، وبما أن العمارة انعكاس للثقافة في الوسط المادي، فقد تأثرت بالأساطير والمعتقدات من أجل إدامة تلك المعتقدات الاجتماعية.
وقد كانت الأساطير والمعتقدات بوجه أكثر عمومًا، محركًا كبيرًا للحركة المعمارية على مدار التاريخ، فالعمارة ذات الفكر، المعبرة عن المعتقدات الأيدلوجية ظهرت نتيجة إنبات الثقافة ذات الصلة لتُنشى لنا عمارة خلدت رغم مرور مئات السنين، ولكن، منذ بداية القرن المنصرم، كان النهج المعماري المتأثر بالحركة الحداثية ممتلئًا بالمنهج العقلاني العملي العلماني، وقد انعكس هذا على رفض أساليب التصميم القائمة على الماضي واستبدال ذلك بفهم جديد تمامًا للهندسة المعمارية المنفصلة بل والرافضة رفضًا تامًا للماضي.
وعلى الرغم من هذا، فقد تلقت تلك الحركة الحداثية كما وضحنا بالمقالات السابقة ردود فعل واسعة النطاق لرفض تلك المبادئ الحداثية التي أنتجت عمارة عديمة الروح، الناشئة عن النفعية التامة، والبعيدة عن الفكر الإنساني الذي يرتقي بالمرء من خلال ملاسمة كيانه غير المادي.
وفي سبيل ذلك، فقد كتب واستدل الكثير من الكتاب بأعمال تتحدث عن دور المعتقدات في إنشاء العمارة على مدار التاريخ مما أنتج لنا تلك المباني التي نحب، فقد بدأ كريستيان نوربيرج شولز في البحث عن العلاقات بين الإنسان والمكان في سياق الظواهر والوجودية من خلال كتابه “الوجود والفضاء والعمارة”، وقد بدأ نقاشات جديدة في مجال العمارة، حيث تحدث عن العمارة الظاهراتية التي يستند عنوانها إلى مفهوم أسطوري “جينياس لوكي” أي روح المكان، فقد اعتقد أن لكل مكان روح خاصة تنعكس على كل راء وزائر.
ومن جانب آخر فقد بدأت نقاشات أخرى عن التكامل بين الإنسان والكون، واستياء المجتمع ما بعد الصناعي من الحداثة، كما كتب ألبرتو بيريز جوميز في كتابه العمارة وأزمة العلم الحديث عن إعادة النظر في التفكير والممارسة المعمارية، وقد كانت النقطة المشتركة في تلك الأدبيات المعمارية هي انعدام المعنى للحركة المعمارية الحديثة وانعدام هوية المدن والاعتماد على جماليات الماكينة في جميع أنحاء العالم، فالبيئات الحضرية لا تقدم شيئًا في سياق الهوية والعلاقات بين الإنسان والبيئة والمعتقد والتاريخ، فهي لا تحمل قيمًا جماعية بل تتكون فقط من الأسفلت والخرسانة.
وقد انتقد بيريز جوميز وأرجع سبب هذا المعنى المفقود إلى نقص البُعد الميتافيزيقي، لأن الفكر الوضعي بالنسبة له يستبعد الشعر والخيال، لأن الإنسان الحديث يُوهَم بالقوة الأبدية للعقل، فقد نسى الإنسان المعاصر بشكل عام ضعفه وقدرته على التساؤل، حيث يفترض أن جميع الظواهر في العالم مثل إدراك الماء أو النار، أو السلوك البشري مفسرة، وقد اعتبر العقل الحديث الأساطير وما وراء المادية دربًا من الجنون واللاواقعية، وأضحى الواقع مساويًا للنظرات العلمية اللامعة، وبعبارة أخرى حل المنطق الرياضي كنموذج للفكر محل الخيال والاستعارات، وكان على العمارة الحداثية حينئذ أن ترفض دورها التقليدي كفرع من الفنون الجميلة عندما احتضنت المُثل العليا للعلم الوضعي، وبعد أن حُرمت العمارة من المحتوى الحضري المُكتسب في الماضي، تم تقليصها إلى مشكلة نظرية أو مشكلة تقنية بسيطة أو حتى مجرد زخرفة!
العمارة والمعنى
جاءت الكثير من المعتقدات في العمارة لوضع الأفكار والمعتقدات في صورة مادية بنائية، وقد أدى التفكير في العلاقة بين المعنى والعمارة إلى إعادة اكتشاف المعاني التي فقدتها العمارة بمرور الوقت، وقد أعاد الباحثون قراءة الأساطير والمراجع القديمة لمحاولة فهم الوصول للشكل المعماري الموجود، مما أدى لظهور نظريات مثل الظواهرية والسيميوطيقية والبنوية وغيرها مما دفع لمناقشة الأسطورة والمعتقد وعلاقتهما بالعمارة، وساعد ذلك في تطور وظهور فروع جديدة في العلم مثل علم النفس وعلم اللغة والأنتروبولوجيا، إذ بدأ فهم الأساطير والمعتقدات وتقييمها بسمات تتجاوز النظرة السطحية ليتم فهم ذاكرة الفرد والمجتمع بمعنى أوسع لفهم الظواهر الاجتماعية والطبيعية في المجتمعات البدائية التي حينذاك كانت مقبولة على أنها الحقيقة المستخدمة لتنظيم الحياة والأفكار.
ومن ذلك قد نفهم أن الكثير من الجماليات المستخدمة في تلك العصور إنما هي مصحوبة برموز ذات خلفية تراثية، فالعمارة كانت ذات مكنون مرتبط بما لا يمكن فصله عن المفهوم القدسي أو المعتقدي، سواء في بيت أحد الرعية أم في قصور الملوك والمعابد، وذلك أن هذه الطرز المعمارية كالأساطير تمامًا، اعتاد تناقلها جيلًا بعد جيل، ومع اختلاف تلك الطرز، فإن كل طراز يحمل بعض سمات الطرز السابقة له، فكان نمو الطرز البطيء إنما ناتج عن تطوير ونمو بطيء لا عن رفض تام واستبدال بوجه كبير.
نظر الإنسان القديم إلى الطبيعة كرمز من رموز الكمال الإلهي وكغاية الصنع، مما أدى إلى محاولة تقليد الإنسان المستلهم وأحيانًا المباشر للطبيعة كما ذكر وليام ليثابي في كتابه “العمارة والأسطورة والروحانيات”، فالسفينة هي تقليد لشكل السمكة، وقد نرى أرجل الطاولات مناظرة لأرجل الحيوانات، وظهرت الحيوانات كمساند للعروش وصناديق المومياءات، ومع تطور الحضارة فقد أضحت سُبل التقليد تميل أكثر إلى التجريد وإن كانت مع ذلك من الفينة إلى الأخرى تُلقى برسائل واضحة كالنقوشات الطبيعية والأنماط الهندسية المستوحاة من النسب وغيرها.
وقد ارتبطت الأساطير ارتباطًا وثيقًا بالطبيعة وتكامل الإنسان معها، فكان الفكر الحضاري من جهة، وهذا التواصل المنسجم من جهة أخرى سببًا في استمرار هذه العمارة إلى حين.
لهذا عاشت!
لقد عاشت عمارة الزمن القديم لأنها قامت على مغزى معنوي فكري وارتباط بالمحيط، محققة للوظيفة ولما بعد الوظيفة، لذا يتعين على العمارة المعاصرة لكي تأخذ حيزًا من الواقع أن لا تكون مجرد غلاف بلا مضمون، يقول سيزار دالي في كتابه “دراسات عليا”: “لكي تثير العمارة لدينا اهتمامًا حقيقيًا وعامًا يتحتم وجود رمزية في متناول إدراك السواد الأعظم من الناس، غير أن تلك الرسالة لا تنطبق على نتاج الماضي حيث الرهبة والغموض والبهاء، فقد لا تدور الكواكب ولا يرعد الرعد في معبد المستقبل، فما من ذهب أو فضة، وما من جواهر وما من زمرد بحجم الكف أو ياقوت بحجم البيض وكرات بلور تستعمل لسحرها لا لجمالها، وما من معابد مدرجة إلى عنان السماء كمعبد بابل، لا صور مطلية بالذهب ذات الجدران السبعة مثل أكياتانا، ولا قصور أهاب العاجية أو بيوت نيرون الذهبية ذات الممرات التي تمتد لمسافة ميل، أو معابد مصر الخرافية التي تفتح أبوابها في بادئ الأمر لاحتضان كل ما حولها ثم تضيق الساحة والغرفة وينخفض سقفها وينغلق على العابد المذهول يسحق خيالاته”.
تستعصي كل هذه العناصر على البناء ثانية لاستحالة ائتلاف الأسلوب والمواد التي صيغت لتكون شكلها النهائي، تلك الصروح العملاقة من الجهد المدفوع بإراداة لا تنثني باتت شيئًا من الماضي وعمارة كهذه لم تعد لنا ولا للمستقبل، ما الذي سيكون عليه هذا الفن في المستقبل؟ ستبقى الرسالة تدور حول الطبيعة والإنسان، حول النظام والجمال، لكن سيكون المجمل ذا حلاوة وبساطة وحرية ونور وثقة، وما عدا ذلك فقد ولى وهذا حسن.
فهل ستعود العمارة كما كانت وعاءً للأفكار والمعتقدات والأنماط المعيشية أم أنها ستنغمس أكثر وأكثر في المعتقدات المادية النفعية؟ هذا ما سنراه في المستقبل.