نجحت الجهود الكويتية الماراثونية التي بدأها أمير البلاد الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح واستكملها الشيخ نواف الأحمد الصباح في تحقيق اختراق كبير في جدار الأزمة الخليجية لأول مرة منذ فرض الحصار على الدوحة في الـ5 من يونيو/حزيران 2017.
وأعلنت الكويت على لسان وزير خارجيتها أحمد ناصر المحمد الصباح، مساء أمس الإثنين، أنه تم الاتفاق على فتح الأجواء والحدود البرية والبحرية بين قطر والسعودية، المغلقة منذ بداية الأزمة، وذلك عشية انعقاد القمة الخليجية الـ41 في مدينة “العُلا” السعودية.
تأتي هذه الخطوة بعد تحركات دبلوماسية مكوكية أجراها الوزير الكويتي مع طرفي الأزمة في الدوحة والرياض، حيث التقى أمس مع أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني وناقش معه كل الأمور المتعلقة بالمصالحة الخليجية، فيما صعد من جهوده للاتفاق على إنهاء الخلاف قبل عقد القمة.
الوزير لفت كذلك إلى إجراء أمير البلاد اتصالين هاتفيين، أحدهما مع أمير قطر والآخر مع ولي عهد السعودية، محمد بن سلمان، حيث تم التأكيد خلال المكالمتين على حرص الجميع على وحدة الصف وكسر حالة الجمود في العلاقات من خلال توقيع بيان العلا.
وعليه كان قرار ترؤس أمير قطر لوفد بلاده للمشاركة في اجتماع القمة رغم الشكوك التي أحيطت بمسألة مشاركته قبل ذلك وجاءت استجابة للتفاهمات التي رعتها الكويت والضمانات التي كان على رأسها كسر الحصار وفتح الأجواء البينية بكل أنواعها، وكان في استقباله بمطار “العُلا” ولي عهد السعودية، حيث تبادلا عبارات الود والترحيب.
ورغم كسر جدار الجليد بين الدوحة والرياض مع ما يحمله من دلالات إيجابية بشأن حلحلة الأزمة، إلا أن الحديث عن مصالحة شاملة وإنهاء الخلاف بصورة نهائية مسألة من المبكر حسمها في ظل حالة الانقسام الواضحة في معسكر الحصار وهو ما يتضح بشكل كبير في مستوى التمثيل وردود الفعل حيال تلك الخطوة.
فيديو | وسط عبارات “يا الله حيه.. نورت #المملكة” #ولي_العهد يرحب بأمير دولة #قطر في #مطار_العلا#القمة_الخليجية_في_العلا#الإخبارية
تصوير: بندر الجلعود pic.twitter.com/uIaHMWIOGY
— قناة الإخبارية (@alekhbariyatv) January 5, 2021
إذابة جليد الأزمة
الفرحة الكبيرة التي عمت شوارع السعودية وقطر بعد تصريحات وزير الخارجية الكويتي تعكس الميل الواضح لطي صفحة الخصومة الممتدة نحو 40 شهرًا، وأثبتت أنه لا رابح في هذه المعركة، فالجميع خاسر وإن تباينت معدلات الخسارة بين دولة وأخرى.
وتناغمًا مع تصريحات الصباح قال ولي العهد السعودي: “سياسة المملكة بقيادة خادم الحرمين الشريفين قائمة على نهج راسخ قوامه تحقيق المصالح العليا لدول مجلس التعاون والدول العربية وتسخير جهودها كافة لما فيه خير شعوبها وبما يحقق أمنها واستقرارها”.
وشدد على أن قمة العُلا “ستكون قمة جامعة للكلمة موحدة للصف ومعززة لمسيرة الخير والازدهار، وستترجم من خلالها تطلعات خادم الحرمين الشريفين وإخوانه قادة دول المجلس في لمّ الشمل والتضامن في مواجهة التحديات التي تشهدها منطقتنا”.
فتح الحدود المغلقة منذ أكثر من 40 شهرًا بين البلدين، خطوة مهمة في مسار حلحلة الأزمة، ونقلة نوعية في مسار مساعي ترميم البيت الخليجي الذي يعاني من شروخات عدة في ظل رغبة أطراف بعينها الإبقاء على الوضع الحاليّ الذي يخدم أجندات محددة لا تصب في مصلحة المنطقة قدر ما تخدم أهواء وأحلام أنظمة الحكم القائمة عليها.
ترحيب وتثمين
لاقت هذه الخطوة ترحيبًا كبيرًا من العديد من القوى الإقليمية والدولية والكيانات السياسية، حيث رحبت تركيا على لسان وزارة خارجيتها بقرار فتح الأجواء بين البلدين، لافتة إلى أن هذا التطور يمثل تحركًا مهمًا نحو حلحلة الأزمة، فيما ثمنت الوزارة في بيان لها “جهود اللاعبين الدوليين الذين ساهموا عبر أنشطة الوساطة التي قاموا بها في التوصل إلى هذا القرار، وفي مقدمتهم دولة الكويت”.
أنقرة – التي كان لها دور كبير في إحداث التوازن في هذا الملف – أعربت في الوقت ذاته عن تمنياتها بالتوصل إلى حل شامل ودائم لهذه الأزمة يقوم على الاحترام المتبادل لسيادة الدول ورفع بقية الإجراءات العقابية عن الشعب القطري بأسرع وقت.
إماراتيًا.. كتب وزير الدولة للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، على حسابه على تويتر إن القمة المزمع عقدها في العلا التي وصفها بالتاريخية سيكون لها دور في إعادة اللحمة الخليجية، مضيفًا “أمامنا المزيد من العمل ونحن في الاتجاه الصحيح”.
وخليجيًا، رحب الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي نايف الحجرف بفتح الأجواء والحدود البرية والبحرية بين السعودية وقطر، مؤكدًا أن هذه الخطوة التي تأتي عشية انعقاد القمة الخليجية تعكس الحرص الكبير والجهود الصادقة التي تبذل لضمان نجاحها.
عربيًا.. أصدرت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” بيانًا هنأت فيه مجلس التعاون الخليجي على هذه الخطوات الناجحة في مسار المصالحة معربة عن أملها في أن تنتهي الأزمة بالكامل، كما علق رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبي خالد المشري، على صفحته على فيسبوك يقول “نبارك لإخواننا في قطر والسعودية فتح الأجواء وعودة العلاقات، بجهد موفق من دولة الكويت، تطور مهم في اتجاه المصالحة الشاملة، نتمنى أن تساهم هذه الخطوة في تحقيق مزيد من الاستقرار بالمنطقة، وأن يسود التوافق والتصالح بلادنا وكل الدول العربية والإسلامية”.
أفراح الأشقاء بدأت #عمان_تبارك_المصالحة_الخليجية
#الكويت pic.twitter.com/XqYYSf8uKt
— محمد البوسعيدي (@AlbosaidiMohd) January 5, 2021
احترام السيادة.. ركن التصالح الأبقى
40 شهرًا مارست فيهم دول الحصار كل أنواع الضغوط على الدوحة لإجبارها على الرضوخ للمطالب التي فرضها الرباعي بداية الأزمة التي كانت تتضمن نسفًا تامًا لمقومات السيادة والاستقلال الوطني، وهو ما رفضته قطر جملةً وتفصيلًا.
تمسك قطر بالحوار غير المشروط وعدم التعاطي مع المطالب المفروضة أثار حفيظة الرباعي الذي صعد من لهجته وخطابه السياسي، لكن الأمور لم تحرك ساكنًا وقتها، حيث تراجعت دول الحصار خطوة للخلف وقلصت مطالبها الـ13 إلى 6 مطالب فقط.
توقع المراقبون أن هذا التنازل سيقابل بترحيب قطري لا سيما بعد الأوتار التي عزف عليها إعلام تلك الدول بأن الدوحة لن تتحمل الحصار لفترات طويلة، لكن المفاجأة أن الجانب القطري لم يعلق على تلك المطالب ولم ينظر لهذه الخطوة الخلفية التي خطاها المحاصرون، ليواصل تمسكه بشرطه الوحيد (لا تفاوض مشروط).
وبعد مرور 3 سنوات ونصف تقريبًا على الأزمة لم ترضخ الدوحة لإملاءات الرباعي، وعلى العكس من ذلك تمسكت بمطلبها دون تنازل، معربة في الوقت ذاته عن نيتها في إنهاء الخلاف ورغبتها في طي هذه الصفحة، لكن على أسس احترام السيادة وعدم التدخل في شؤون الغير.
وفي الوقت الذي كانت ترفع فيه عواصم الدول الأربعة الشعارات المتعلقة بتعليق التفاوض بالاستجابة القطرية للشروط المقدمة، كانت الدوحة ترفع شعارًا آخر، لا حوار دون فك الحصار، وهو ما حدث بالفعل، فرغم عقد قمتين سابقتين لم يشارك فيهما أمير قطر بصفته، لكن هذه المرة جاءت المشاركة في اللحظات الأخيرة بعدما تم فتح الحدود والمعابر مع الجارة السعودية.
تجميد الذباب الإلكتروني
تحول كبير في مسار الذباب الإلكتروني واللهجة المستخدمة ضد قطر، في أول تحرك لافت بعد الحديث عن المصالحة الخليجية، حيث تراجع خطاب الكراهية وتم حذف التغريدات المعادية والمسيئة للقطريين التي كان يعزف عليها الجيش الإلكتروني لدول الحصار ليل نهار.
شركة روتانا هي الأخرى حذفت الأغنية المسيئة لقطر التي جاءت تحت عنوان “علم قطر” من قناتها على يوتيوب، تلك التي كتبها مستشار ابن سلمان ورئيس هيئة الترفيه السعودية، تركي آل الشيخ، في سبتمبر/أيلول 2017، وغناها عدد من المطربين الخليجيين (رابح صقر ووليد الشامي وعبد المجيد عبد الله وماجد المهندس وأصيل أبو بكر وراشد الماجد ومحمد عبده).
وفي المقابل بث التليفزيون الكويتي تزامنًا مع فتح الحدود والأجواء السعودية مع قطر، أغنية جديدة تحت عنوان “يا لخليجي” وهي الأغنية التي تعزز قيم التصالح والأخوة بين شعوب دول مجلس التعاون وتدعو للوحدة ونبذ الفرقة، وشارك في أدائها كل من نبيل شعيل وعبد الله الرويشد.
فيما رصد ناشطون على منصات التواصل الاجتماعي حذف العديد من الحسابات الإلكترونية – كثير منها وهمية دشنها الذباب الإلكتروني للهجوم على قطر – للتغريدات التي تحمل إهانة للأسرة الحاكمة في قطر والشعب القطري، نظير بث تغريدات أخرى تدعو للألفة والمحبة بين أركان البيت الخليجي.
نهاية الحقبة الترامبية
رغم جهود الوساطة المبذولة في الآونة الأخيرة، فإن الأزمة الخليجية كقضية امتدت لثلاث سنوات ونصف، تعد أحد إفرازات سياسة إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التي تعتمد على ركائز التفتيت والإثارة والفوضى، وإن لم تكن بشكل مباشر، فالحماية التي وفرها ترامب لحلفائه المشاركين في الحصار على قطر كانت أحد الأسباب الرئيسية لاستمرار سياسة الصلف والعند لبعض أنظمة تلك الدول.
ومع اقتراب رحيله عن البيت الأبيض وقدوم الإدارة الديمقراطية الجديدة بقيادة جو بايدن، بتوجهاته المختلفة التي تتعارض بشكل كبير مع السياسة السائدة في الشرق الأوسط، فإن خريطة التحالفات الإقليمية من المتوقع أن يعاد تشكيلها بعد انتهاء الحقبة الترامبية التي فرضت واقعًا أضر بالجميع وإن توهم البعض بالحصول على مكاسب مؤقتة.
القراءة المتأنية للمشهد بمستجداته الراهنة تشير إلى أن التحديات الإقليمية التي تواجه دول المنطقة وعلى رأسها السعودية كانت دافعًا قويًا للتخلي عن ضغوط بقية أطراف الأزمة بإبقاء الخلاف الخليجي كما هو، في محاولة للم الشمل من أجل مواجهة تلك التحديات ومحاولة تغيير الصورة الذهنية المتخذة دوليًا عن المملكة وسياساتها الخارجية.
الانقلاب المتوقع أن تشهده الساحة السياسية الشرق أوسطية، الذي بدت إرهاصاته مؤخرًا، سيكون له تداعياته المباشرة على مسار وحدود العلاقات بين دول المنطقة، فالتحديات الأكثر خطورة والتهديدات الواضحة لأمن واستقرار الإقليم كفيلة بالتخلي نسبيًا عن الخلافات البينية التي بنيت في الأساس على مرتكزات خاطئة، وهو ما ثبت خلال السنوات الماضية.
بين رفع الحصار والمصالحة
في تقرير سابق لـ”نون بوست” تمت الإشارة إلى أن التعويل على قمة “العُلا” لحسم ملف المصالحة وإنهاء الخلاف بشكل كامل، رهان في غير موضعه، لا سيما في ظل حالة الانقسام الواضحة في صف فريق الحصار وتباين الملفات الشائكة بين طرفي الأزمة.
في التقرير ذاته جاء مستوى التمثيل المتوقع في القمة كواحد من محددات ثلاث لتحديد مصير الأزمة، فغياب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي رغم دعوته وإنابة السلطان العماني لرئيس حكومته وعدم حضور ولي عهد أبو ظبي الذي أناب عنه نائب رئيس الدولة ورئيس مجلس الوزراء، يشير إلى أن هناك عدم توافق على حسم هذا الملف خلال هذا الاجتماع.
لكن في الجهة الأخرى تأتي السعودية على رأس الدول الأكثر حماسًا لإنهاء الخلاف لا سيما بعد المستجدات الأخيرة التي تجعل من الاستمرار في هذا التصدع الخليجي تهديدًا لأمن واستقرار دول الخليج ككل، لذلك تبذل المملكة جهودًا دبلوماسيةً كبيرةً مع شركائها في الحصار للتوصل إلى صيغ مشتركة.
سياسيًا.. من الصعب أن يحل هذا الخلاف بين عشية وضحاها، غير أن فتح الحدود بين قطر والسعودية خطوة إيجابية في مسار إنهاء الشرخ الخليجي بصورة كاملة، وإن كان الأمر يحتاج إلى مزيد من الوقت وتكثيف للجهود الدبلوماسية المتوقعة خلال المرحلة المقبلة سواء من الرياض أم الكويت.
هذه الخطوة من المتوقع أن تحفز الأطراف الأخرى – التي رغم ما تحمله من مواقف متشددة وبعضها عدائية ضد فكرة المصالحة – على المضي قدمًا في هذا المسار الذي ربما سيكون مفروضًا بقوة التحديات الجديدة والضغوط المتوقعة من الإدارة الأمريكية من جانب وتوسيع دائرة النفوذ الإيراني.
اللهم فرج عن صاحب التغريدة شيخنا سلمان العودة الذي أثبتت الأيام حكمته واتساع بصيرته، والطف به وبإخوته المعتقلين إنك على كل شيء قدير. https://t.co/mzg8T0A8dY
— عمر بن عبدالعزيز Omar Abdulaziz (@oamaz7) January 4, 2021
سلمان العودة.. سؤال عن المصير
السؤال الأبرز الذي طرأ على أذهان الكثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي بعد الحديث عن التصالح بين قطر والسعودية وفتح المعابر بين البلدين: هل سيتم الإفراج عن الشيخ سلمان العودة الذي تم اعتقاله بسبب تغريدته المنشورة في سبتمبر/أيلول 2017 ودعا خلالها إلى التأليف بين القلوب لحلحلة الأزمة وإنهاء الخلاف؟
المغردون أشاروا إلى أن العودة اعتقل بسبب تلك التغريدة قبل ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، وعليه يجب الإفراج عنه بعدما ثبتت صحة رؤيته، فيما كتب نجله، عبد الله، في تغريدة على صفحته قائلًا “بينما تقتبسون الآن من كلامه حرفيًا.. قبل ثلاث سنوات ونصف.. قالها (لما فيه خير الشعوب) سجنتموه.. حرمتم أطفاله ومنعتموهم من السفر.. عذبتم هذا الشيخ ولا يزال في زنزانة انفرادية.. وتطالبون بإعدامه في المحكمة لهذا الدعاء! والآن يواجه القتل البطيء في سجونكم!”.
وكان نجل الشيخ المعتقل قد كشف قبل أيام عن تعرض والده للقتل البطيء، حيث فقد نصف سمعه ونصف بصره، فيما تتشكك عائلته بتقديم الخدمة الصحية اللازمة له داخل محبسه، محملين السلطات الحاكمة في المملكة مسؤولية حياة والدهم الذي تدهورت صحته خلال الآونة الأخيرة بشكل كبير.
والحديث عن العودة، حديث عمّن يعاني مثل معاناته من معتقلي الرأي والمعتقلين السياسيين وبقية المضطهدين على خلفية الأزمة.
وفي المحصلة فإن الأيام القادمة ستكون محك اختبار حقيقي لنجاح مساعي حلحلة الأزمة، وهو ما يمكن قراءته من خلال الخطاب السياسي والإعلامي القطري السعودي، ويمكن اعتباره بالون اختبار حقيقي للرغبة الحقيقية في طي صفحة الخلاف في ظل القائمة الطويلة من الملفات الجدلية التي تتباين فيها الرؤى بشكل واضح بين مختلف الأطراف.