لا يمكن إهمال عامل التوقيت في إنهاء الأزمة الخليجية، فربما أراد الكل إنهاءها منذ فترة، لكن نهايتها على بعد 20 يومًا من انتهاء ولاية ترامب له دلالته الخاصة.
يتساءل الدكتور فيصل أبو صليب مدير مركز دراسات الخليج في جامعة الكويت عما إذا كانت الأزمة ستنتهي لو أن ترامب فاز في الانتخابات الأخيرة، بالفعل! بدأ كل شيء مع ولاية ترامب وانتهى معها، فترامب الذي أيد عملية الحصار في البداية هو الذي أرسل جاريد كوشنر لإنهاء المسألة برمتها، بالطبع لحرمان بايدن من إنجاز مستقبلي وهذه هي مشكلة الخليج الحقيقية!
إن صناعة مثل هذا النوع من الأزمات – بكل ما أحدثته من شرخ في المنظومة الخليجية – وإنهاءها خارجيًا، يظهر مدى غياب القرار السيادي في موضوع يؤثر على توازنات منطقة حيوية مثل الشرق الأوسط، فلا يهم إن كان ترامب أو بايدن من سينهي الأزمة، الأهم أنها لم تكن لتنتهي بحل من مبادرة عربية خالصة، حالها حال أزمات كثيرة ألمّت بالمنطقة ولم تنفض إلا بتدخل دولي يجعل آخر أهدافه مصلحة الدول العربية: ليس أولها أزمة غزو الكويت من العراق عام 1990 وليس آخرها الحرب الدائرة في اليمن الآن.
رغم ذلك لا يمكن نسيان عوامل أخرى لا تنهيها المصالحة الخليجية بالتأكيد، وهنا يأتي الدور الإماراتي. يقول كبير الباحثين في معهد الخليج العربي في واشنطن حسين إيبيش:
“من المهم أن كوشنر وفريقه لم يزروا أبوظبي، بلا شك لأن الإمارات أوضحت أنها غير مهتمة بالتقارب مع قطر، إذ تعتبر الإمارات المواجهة أيديولوجية في المقام الأول، ومحاولة لإجبار قطر على التوقف عن دعم الجماعات الإسلامية السنية، خاصة جماعة الإخوان المسلمين في جميع أنحاء العالم العربي، وتشارك السعودية في هذا الهدف، لكن من دون الشغف الإماراتي، فلم تنظر الرياض إلى الدوحة على أنها تهديد أيديولوجي بقدر ما كانت تعتبرها دولة تتدخل في أمور لا يجب أن تقحم نفسها فيها، بما في ذلك، كما يقول السعوديون، في شؤونهم الداخلية”.
ضربة قاضية
النتيجة الحتمية لكل ما سبق، أن منظومة العمل الخليجي تعرضت لضربة قاصمة جردتها من كل عوامل القوة، لتسقط بذلك آخر بقايا تكتلات العمل العربي المشترك.
يمثل الموقف المصري عنوانًا جديدًا لتراجع سياسة القاهرة وتحولها من دولة قائدة للعالم العربي إلى مجرد تابع ثانوي للسعودية
منذ استقلال الدول العربية عن الاستعمار القديم بعد الحرب العالمية الثانية فعليًا، وهي تحاول إيجاد منظومة تجمع العمل العربي، بدأ الأمر بجامعة الدولة العربية، ورغم أنها تحولت لاحقًا لمناسبة رمزية لا تأثير لها على الواقع، فإن وجودها كان يعطي مساحة في العمل المشترك الذي أثبت أحيانًا أنه قد يؤتي بثماره: قمة العام 1968 في دعم دول المواجهة مع “إسرائيل” على سبيل المثال، والوحدة كانت طريقًا آخر أحيانًا، كما هو الحال بين مصر وسوريا عام 1958، ولم تنجح هذه المشاريع ليس لأنها تفتقد الإرادة وحسب، وإنما لأنها تفتقر إلى أسباب القوة والعمل المشترك، وهذا ما كان موجودًا في المنظومة الخليجية التي امتلك الكثير منها.
إذا كانت دول مجلس التعاون الخليجي رغم ضعف قوتها العسكرية واعتمادها على التحالفات الدولية في أمنها، كانت تمثل قوة اقتصادية مدعومة بنوع من الوحدة الاجتماعية يجمعها تقارب المستوى الاقتصادي والتعليمي وحركة التنقل والعلاقات القبلية المتينة. تلك الأرضية كافية لو كان هناك إرادة لتطويرها لتكون اتحادًا على غرار الاتحاد الأوروبي، لكن بعض الدول الخليجية، آثرت – على الطريقة العربية – رمي كل الأوراق في الجانب الأمريكي، والنتيجة أزمة لم يسبق لها مثيل أتت هذه المرة على عوامل القوة التي امتلكتها دول المجلس.
صحيح أن الأزمة ليست جديدة وعلى غرار ما حصل عام 1997، لكنها هذه المرة دفعت قطر لمنظومة تحالفات جديدة خارج المنظومة الخليجية وهو أمر لن تتخلى عنه بالتأكيد رغم المصالحة.
على الجانب الآخر، يمثل الموقف المصري عنوانًا جديدًا لتراجع سياسة القاهرة وتحولها من دولة قائدة للعالم العربي ومحرك رئيسي للأحداث فيه، إلى مجرد تابع ثانوي للسعودية، فتتحدث الدول الخليجية عن توافقات فيما بينها لإنهاء الأزمة، لكن المصريين يتساءلون عن التوافقات التي تخصهم بعد مشاركتهم في الحصار مع الإمارات والبحرين، ولن يكون مستغربًا أن أحدًا لم يستشر السيسي في العمليه كلها أصلًا، فذلك نتيجة طبيعية لربط شرعية السلطة المصرية بصانع القرار الأمريكي وحده.
في المحصلة النهائية، من المؤكد أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أكثر الرابحين، إذا وضعنا في الاعتبار صفقة الـ450 مليار دولار التي مرت مقابلها صفقة حصار قطر، وإذا وضعنا في الحساب ما يصفه إيان بريمر، مؤسس مجموعة أوراسيا للاستشارات السياسية والمستشار المتكرر لحكومات الخليج، بأنه رد على فوز بايدن، فضلًا عن المواجهة المتصاعدة مع إيران التي ستخسر 100 مليون دولار سنويًا مقابل استخدام الأجواء الإيرانية في الطيران الذي أغلق بوجه قطر خلال الحصار.
في الجانب المقابل، ربما تكون قطر أقل الدول المتضررة سياسيًا من الأزمة، فلا يمكن إنكار وقوفها وحيدةً أمام جيرانها في أزمة خُطط لها أن تكون خاطفة – كانت تستهدف في إحدى مراحلها الحل العسكري – وهي اليوم أكثر استقلالًا في قرارها الإقليمي عما كانت عليه قبل الأزمة وعودة العلاقات تمثل – على الأقل – فشلًا للحصار إن لم نقل انتصارًا لقطر.
درس جديد في السياسة لمنطقة تفكك فيها آخر تكتل عربي متماسك، وذلك نتيجة طبيعية حين يكون القرار فرديًا يُتخذ على طريقة شيوخ القبائل
على الجانب السعودي، ربما تمثل الخطوة السعودية نقطة مضيئة في سبيل استعادة القرار السعودي من الإمارات، وربما تمثل نقطة أخرى في سبيل تخفيف حدة التوتر بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والديمقراطيين، وهو ما قد يعجل بتوليه الحكم كملك للبلاد، وعامل قد يعجل بانفصال أكبر مع ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد.
يرى الكاتب السعودي مهنا الحبيل، أن هذه العلاقة لا بد لها في النهاية أن تنتهي بسبب طبيعة الرجلين اللذين يحكمان في نظام يقرر فيه الرجل الواحد كل شيء تقريبًا. “كلا الشخصيتين، ولي عهد أبو ظبي وولي عهد السعودية، ذات صفات ندّية شرسة، من الصعب أن يبقى فيها ولي العهد السعودي، الأكثر قوةً ونفوذًا في التاريخ الاجتماعي للخليج العربي، في حالة المريد التابع، غير أن زمن الخلاف لم يكن ممكن التحديد، بسبب أن خطة أبو ظبي العميقة، وإن لم تواصل الصمود، قامت على تشبيك السعودية الجديدة بملفاتٍ ملغمةٍ يصعب عليها الخروج منها، من دون تنسيق مع أبو ظبي.
وهذا المنظور نفسه تُطرح عليه شكوك كبيرة، فواقع الرياض الصعب جدًا في قنطرة أبوظبي يظل يملك إمكانية جيوسياسية وأمنية ومخابراتية أقوى من الشريك أو الحليف الموسمي، أو حتى لو قلنا إنه حليف مستمر، لكن قواعد اللعبة تقتضي أن يخضع لتقليم أظافر، أمام مخاوف السعوديين الشرسة، وهو ما يتصادم مع شخصية محمد بن زايد، ويطرح سؤالًا كبيرًا عن مستقبل هذه العلاقة”.
تضع المواجهة أوزارها بعد 3 سنوات على بدئها، ويبقى الإنجاز المشترك للجميع، إيقاف نزيف الخسائر السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عانت منها كل الأطراف. درس جديد في السياسة لمنطقة تفكك فيها آخر تكتل عربي متماسك، وذلك نتيجة طبيعية حين يكون القرار فرديًا يُتخذ على طريقة شيوخ القبائل لا دول تحكمها المؤسسات والمصالح.