لم تمر ساعات قليلة على كارثتي مستشفى الحسينية بالشرقية وزفتي العام بالغربية، التي راح ضحيتهما عدد من المصابين بفيروس كورونا (بسبب نقص الأكسجين وفق الرواية الشعبية، والأمراض المزمنة وفق الرواية الرسمية) حتى فجرت وزيرة الصحة، هالة زايد، أزمة جديدة حين ظهرت في إحدى قاعات الأفراح المكتظة بالحضور ممن لا يلتزم معظمهم بارتداء الكمامات.
رواد مواقع التواصل الاجتماعي تناقلوا صورة للوزيرة وهي تشارك عروسين بعض الصور الفوتوغرافية خلال عرس أقيم بإحدى القاعات الفندقية غير المتلزمة بالإجراءات الاحترازية كما ظهر في الفيديو المنشور، هذا في الوقت الذي أصدر فيه رئيس الحكومة قرارات – نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي – بإغلاق كل قاعات الأفراح وسرادقات العزاء وأماكن التجمعات كإجراء وقائي لمواجهة الموجة الثانية من الجائحة.
موجة من السخرية والانتقادات تعرضت لها الوزيرة التي لم تتردد لحظة في حضور هذا الحفل المخالف لتعليمات الحكومة التي هي في الأساس أحد أعضائها، في الوقت الذي يمنع فيه الشعب من إقامة أفراحه ومآتمه فيما يتعرض للمعاقبة حال مخالفته تلك التعليمات التي لم تلتزم بها الوزيرة ذاتها.
وتعد زايد واحدة من أكثر الوزراء إثارة للجدل في العقود الأخيرة، فمنذ حلفها لليمين الدستورية في 18 من يونيو/حزيران 2018، وسهام النقد تصاحبها أينما ذهبت، في ظل الأزمات التي واجهت قطاع الصحة منذ قدومها، هذا بخلاف التصريحات المتتالية التي أثارت غضب العديد من أفرع الكادر الطبي بشتى أنواعه.
ورغم الكوارث التي شهدتها الوزارة في عهد الوزيرة (ثاني سيدة تتولى وزارة الصحة مصر بعد مها الرباط) والأصوات التي تطالب بإقالتها من منصبها، فإن القيادة السياسية في مصر لم تحرك ساكنًا رغم كل تلك الأخطاء التي شهد بها الجميع، مؤيد ومعارض، ما أثار التساؤل عن سر التمسك بها حتى اليوم.
أزمة كورونا
بدأت حالة الجدل بالتشكل عندما نفت الوزيرة وجود أي إصابة في مصر، وهي التصريحات التي بطأت من إجراءات غلق الأجواء ما تسبب في انتشار الجائحة بعد ذلك، هذا بخلاف التأرجح بين الحين والآخر في شرح خطورة الفيروس وتعامل المصريين معه، وهو ما أربك الكثيرين بشأن التعامل معه.
الوزيرة وبينما أغلق العالم كل أجوائه البرية والجوية والبحرية، طارت على رأس وفد رفيع المستوى، في زيارة سياسية في المقام الأول، إلى الصين وإيطاليا، لتقديم يد العون والمساعدة، محملة بشحنات من المستلزمات الطبية في الوقت الذي كانت تعاني فيه المستشفيات المصرية من نقص شديد في تلك المستلزمات.
حالة الغضب من الوزيرة تعمقت أكثر بعد خداع المصريين بشأن الحصول على اللقاح الصيني لمعالجة الوباء، ليتبين بعد ذلك أن التصريحات الصادرة في السابق بشأن استيراد مصر للقاح فعلًا كانت خدعة لتهدئة الرأي العام، فحتى كتابة هذه السطور لم تحصل الدولة على أي لقاح، بينما تلقت البلدان المجاورة اللقاح للأسبوع الثاني على التوالي.
تبرئة الأكسجين!
أحدث المواقف التي أثارت بها الوزيرة الجدل كان تعليقها على حادث مستشفى الحسينية قبل أيام، هذا الحادث الذي صوره بالصوت والصورة أحد أقارب الضحايا المتوفيين، حين حرصت على تبرئة “الأكسجين” من مسؤولية وفاة 4 حالات داخل العناية المركزة بالمستشفى.
التعليق الصوتي على المقطع الصور قال إن نقص الأكسجين في العناية أدى إلى اختناق المرضى ومن ثم كانت الوفاة، إلا أن الوزيرة بدلًا من معالجة الأزمة والبحث عن أسبابها للحيلولة دون تكرارها مرة أخرى، اتهمت مصور المقطع بأنه ينتمي إلى تنظيم الإخوان المسلمين وأن الترويج للفيديو هدفه تشويه صورة الحكومة وإدارتها للأزمة.
الغريب أن تصريحات الوزيرة كانت سببًا في استدعاء النيابة لمصور الفيديو الذي تبين أنه كان ابن شقيق أحد الضحايا وأن نقص الأكسجين كان السبب الحقيقي في الوفاة، الأمر الذي أثار استياء الشارع المصري الذي اعتبر ما تقوم به زايد محاولة للالتفاف على الأزمة وتجنب محاسبة المقصرين وهو مؤشر ينذر بالقلق لما هو قادم خاصة أن الحادث متكرر في أكثر من مستشفى لكن لم يحالفها الحظ لكشف هذا التقصير عبر مقاطع مصورة.
إهانة الممرضات
خلال زيارة تفقدية لمستشفى بورسعيد للتأمين الصحي في نهاية يوليو/تموز 2019، سخرت الوزيرة من طاقم التمريض الموجود حين أشارت إلى أن غالبيتهم يعانين من السمنة وزيادة الوزن، لافتة إلى أن من يرغب في الالتحاق بقطاع التمريض فعليه تقليل وزنه خلال فترة لا تتجاوز 3 أشهر فقط، وهو الموقف الذي جاء تناغمًا مع انتقادت الرئيس السيسي للسمنة وضرورة التخلص منها.
لم تتوقف الإهانات عند حاجز الوزن، بل تجاوزت زايد ذلك بالحديث عن زي الممرضات، لافتة إلى ضرورة عدم ارتداء الحجاب الطويل فضلًا عن النقاب، بدعوى أن مثل هذه الملابس لا تتناسب وعمل الممرضة، كونها قد تنقل العدوى بين المرضى وفق تبريرات المتحدث باسم الوزارة.
أثارت تلك التصريحات غضب الممرضات والكوادر الطبية بصفة عامة، فيما دشن رواد السوشيال ميديا هاشتاغ #إقالة_وزيرة_الصحة حيث عبر العشرات من الأطباء والممرضات فضلًا عن المهتمين بالشأن الحقوقي والنسوي بالتغريدات التي تطالب الوزيرة بالاعتذار أولًا ثم الحكومة بإقالتها.
صدام مع الصيادلة
قبل خمسة أشهر من أزمتها مع الممرضات دخلت الوزيرة في أزمة مع الصيادلة، وذلك حين انتقدت خلال اجتماع لها بلجنة الصحة بمجلس النواب المصري (البرلمان) في مطلع فبراير/شباط 2019، زيادة أعداد خريجي كليات الصيدلة في مختلف الجامعات المصرية.
الوزيرة وقتها قالت “بيلزموني أكلف كل الصيادلة” في إشارة منها إلى الميزانية الكبيرة التي يحتاجها التكليف، إلا أن أحد اعضاء اللجنة رد عليها قائلًا: “خلاص متكلفيش يا دكتورة”، إلا أنها أجابته بقولها: “فيقفوا في الشارع؟ أنا عايزة 3000 صيدلي فقط وليس 16 ألف صيدلي”.
أثارت تلك التصريحات غضب آلاف الصيادلة الذين استقر في يقينهم أن وزيرة الصحة تنظر لهم على أنهم “حملًا ثقيلًا” على الدولة والوزارة، ورغم الانتقادات التي وجهت لها بسبب هذا الموقف، فقد كررت نفس التصريحات بعد خمسة أشهر لتزيد حالة الاحتقان ضدها.
ففي يونيو/حزيران من نفس العام وخلال اجتماع عقدته مع أعضاء نقابة الصيادلة أشارت إلى أن غياب الصيادلة لن يؤثر كثيرًا على منظومة التأمين الصحي وأداء الخدمات المقدمة بصورة عامة، مضيفة “غياب 100 صيدلي لا يشعرني بأزمة ولكن غياب ممرضة واحدة مؤثر بالنسبة لي”.
أزمة مع نقابة الأطباء
خلال فترة عملها كوزيرة خاضت زايد معارك جانبية مع نقابة الأطباء إثر التصريحات والإجراءات التي اتخذتها بصورة انفرادية، خاصة أنها – أي الإجراءات – كانت أميل للسياسة منها لمصلحة الأطباء وصحة المواطن.
الوزيرة بدلًا من البحث عن حل جذري لأزمة نقص الأطباء وتوفير البيئة اللازمة للحيلولة دون هجرة الكوادر الطبية للخارج، دعت الأطباء المحالين للمعاش إلى العودة للعمل نظير مقابل مادي كبير، ما اعتبرته النقابة إجراءً غير موضوعي يضر أكثر مما ينفع، ويعالج الأزمة مؤقتًا دون حل جذري لها.
علاوة على ذلك أثار صمت وزيرة الصحة حيال حالات الاعتداء على الأطباء داخل المستشفيات خلال ممارسة عملهم حفيظة العاملين بالكادر الطبي، ففي شهر واحد فقط من 11 أكتوبر/تشرين الأول 2019 حتى 12 من نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام شهدت المستشفيات 23 حالة تعدٍ على الأطباء داخل مقار عملهم.
الصدام بين الوزارة والنقابة وصل ذروته بعد الإعلان عن نظام التكليف الجديد، هذا القرار الذي جاء دون استشارة النقابة أو إجراء أي حوار مجتمعي كما هو متعارف عليه، حيث وصل الصراع إلى ساحات المحاكم، الأمر تعزز أكثر بعد وفاة طبيبتين في حادث سير مروع على طريق المنيا القاهرة، في يناير/كانون الثاني 2020 وهو ما يعرف بـ”حادث طبيبات المنيا”.
يضاف إلى ذلك أزمات أخرى تسببت فيها هالة زايد على رأسها إقالة عميد المعهد القومي للقلب جمال شعبان، وتعيين محمد أسامة خلفًا له، في يوليو/تموز 2019، وسط حالة من الغضب بين الأطباء بعد النجاحات التي حققها المدير المقال للمعهد التي كان لها أثرها البالغ في مستوى الخدمة المقدمة ورضا الشارع عنها.
بين الصحة والسياسة
تعد هالة زايد واحدة من أبرز الوزراء السياسيين في حكومة مصطفى مدبولي، فهي تمارس سياسة في المقام الأول، تليها بقية المهام المتعلقة بمتابعة المنظومة الطبية وإدارة المشهد الصحي في مصر، وهو ما اتضح بشكل كبير مع الأيام الأولى لتوليها الوزارة.
الوزيرة تطبق تعليمات الرئيس عبد الفتاح السيسي بمنتهى الدقة، وبصرف النظر عن ملاءمتها للظروف والمستجدات التي تشهدها الساحة المصرية، فحين أطلق الرئيس “مبادرة 100 مليون صحة” للكشف عن الأمراض غير السارية، من فيروس سي والسكر والضغط، كانت زايد على قائمة جيش المروجين لتلك المبادرة.
وفي الوقت الذي كانت قطاعات صحية كبيرة في الوزارة تعاني من أزمات كانت الوزيرة لا تبخل مطلقًا على المبادرة وتعطيها من وقتها وميزانية الوزارة ما يساعدها على الانتشار وتحقيق الهدف المنشود منها، الذي يتمحور – بجانب العلاج من تلك الأمراض المزمنة – التسويق السياسي للسيسي وتعزيز شعبيته الداخلية.
الاهتمام المبالغ فيه من زايد بتلك المبادرة وما استحدثته من مبادرات أخرى باسم الرئيس أيضًا، دفع البعض لتسميتها بـ”وزيرة المبادرات” على حساب الخدمات الصحية العامة الأخرى التي أسقطت أزمة كورونا ورقة التوت عنها، لتفضح مستوى التدني الذي تعاني منه رغم شعارات “كل شيء تمام” و”كله تحت السيطرة” و”الأمر مطمئن ولا داعي للقلق” التي ترفعها الوزارة بين الحين والآخر.
لماذا التمسك بها؟
خلال مدة عملها (عامان ونصف) تصدرت زايد قائمة الوزراء الأكثر استجوابًا داخل البرلمان، حيث تقدم ضدها 5 طلبات إحاطة بصورة مباشرة، وأكثر من 30 آخرين ضمن طلبات إحاطة مقدمة للحكومة بصفة عامة، ورغم ذلك لم يتخذ ضد الوزيرة أي إجراء يذكر.
السؤال الذي بات متكررًا على ألسنة الكثير الآن: لماذا الإبقاء على هالة زايد في منصبها رغم كل تلك السقطات والفشل الواضح والملموس من قطاع كبير وهو ما يمكن قراءته من خلال حجم الانتقادات غير المسبوق بالنسبة لأي مسؤول آخر والمطالبات المتكررة بإقالتها؟
الإجابة عن هذا السؤال تحمل شقين: الأول يتعلق بالدور السياسي الذي تقوم به الوزيرة، فهي لا تتردد مطلقًا في تنفيذ التعليمات الرئاسية بحذافيرها، حتى لو حمل بعضها مخاطر، سواء على المستوى الشخصي أم المجتمعي، ولعل سفرها للصين وإيطاليا وقت ذروة الفيروس لإيصال رسالة سياسية نيابة عن الرئيس أكبر دليل على دورها الإضافي الذي تؤديه.
هذا بجانب نجاحها في مهمة التسويق السياسي الذي تقوم به للسيسي من خلال انتشار سيارات المبادرات الصحية الملصقة عليها صورة الرئيس بالحجم ذات القطع الكبير، الأمر الذي كان له تأثير إيجابي ملحوظ لدى الشارع، لا سيما أن المبادرة تقدم خدمات صحية متميزة ومجانية لقطاع كبير من المرضى.
أما الشق الثاني فيتمحور حول “عناد السلطات الفوقية” التي ترى أن الاستجابة لمناشدات الإقالة وتنحية الوزيرة من منصبها في ظل فشلها هو رضوخ لرغبات الشعب، الذي يجب ألا يكون له رأي في المسائل السياسية حسب تفكير النظام، في محاولة لوأد أي إيحاء إيجابي يذكر بتأثير الشارع، تجنبًا لعودة عقارب الساعة إلى قبل عشر سنوات مضت.
وأمام هذا العناد السلطوي المتمسك بمسؤول ثبت فشله بالأدلة القاطعة، في ظل التردي الواضح في مستوى الخدمات الصحية المقدمة، تزامنًا مع تفشي الموجة الثانية للجائحة، ينتظر ملايين المصريين مصيرهم المجهول الذي يبدو أنه في مرتبة أقل من خدش كبرياء النظام.