تعددت جرائم فرنسا الاستعمارية في حق شعوب أقاليم وإدارات ما وراء البحار التي استحوذت عليها بقوة السلاح في أوقات مختلفة منذ قرون عدة، من قتل وتعذيب وتشريد وطمس للهوية وصولًا إلى سرقة ثرواتها واستغلال أرضها لتنمية قدراتها العسكرية دون وجه حق.
في هذا التقرير الجديد لـ”نون بوست” ضمن ملف “أقاليم ما وراء البحار” سنتحدث عن جزيرة المارتينيك التي تحكي جرائم فرنسا بحق “العبيد” وكيف كان المستوطنون يعذبون العبيد هناك بإشراف الدولة، حتى وصل بهم الأمر إلى حد قتلهم، كل ذلك لخدمة أراضي السكر.
مستوطنات وحصون خدمة لفرنسا
سنة 1502، وصل الرحالة الإيطالي كريستوف كولومبوس إلى جزيرة المارتينيك شرق بحر الكاريبي مع حدود المحيط الأطلسي، خلال رحلته الرابعة إلى جزر الهند، وكان أول أوروبي تطئ قدمه جزر الأنتيل الصغرى.
تقع جزيرة المارتينيك ضمن أرخبيل جزر الأنتيل الصغرى، بالمحيط الأطلسي شرق بحر الكاريبي، على بعد 420 كيلومترًا شمال شرق سواحل فنزويلا، وقد كانت موطنًا لسكان هنود الأراواكس، ومن ثم جاء هنود جزر الكاريبي.
منذ أن وطئت قدم كريستوفر كولومبوس تلك المنطقة، بدأ الاستقطاب بين الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية السابقة للسيطرة عليها، للاستفادة من موقعها الإستراتيجي وثرواتها المتنوعة، لكن الغلبة في الأخير كانت للفرنسيين.
بدأ الفرنسيون استعمارهم للجزيرة في سبتمبر/أيلول 1635، وجعلوا فور دو فرانس العاصمة، حيث هبط القرصان بيير بيلان ديسنامبوك هناك باسم الملك لويس الثالث عشر، واستولى على هذه الجزيرة البركانية الصغيرة ذات المناخ الاستوائي.
في الوقت الذي أبادت فيه السلطات الفرنسية سكان الجزيرة الأصليين، عملت على جلب الآلاف من العبيد الأفارقة إلى هناك لتوفير العمالة المجانية لمزارعي قصب السكر
يمكن اعتبار بيير بيلان ديسنامبوك (1585-1637) الأب المؤسس للمستعمرات الفرنسية في جزر الهند الغربية، ففي عام 1625، استقر في سان كريستوف، وكان أول سكانها من البروتستانت الفرنسيين، حيث تقاسم الجزيرة مع الإنجليز الذين احتلوا الجزء الأوسط وبقي لفرنسا كلا الطرفين.
بقي الفرنسيون تقريبًا دون انقطاع حتى أيامنا هذه في الجزيرة، وقد أسسوا المستوطنات والحصون هناك وجلبوا معهم الكثير من المستوطنين الأوروبيين والعبيد، رغم معارضة الهنود لذلك الأمر، لكن الغلبة كانت للفرنسيين، وقد أصبحت الجزيرة منذ 19 من مارس/آذار 1946، إحدى الإدارات الخارجية للجمهورية الفرنسية.
رسخت فرنسا نفسها بقوة في جزر الأنتيل الصغرى بفضل حياد الهولنديين الذين كانوا يهيمنون في الواقع على منطقة البحر الكاريبي بأكملها، حيث زودت السفن التجارية الهولندية الجزر الفرنسية وتحالفت معها ضد الأسراب الإسبانية.
بعد أن رسخت وجودها هناك، مارست فرنسا شتى الجرائم في حق الهنود الموجودين في الجزيرة منذ القرن الثالث عشر، حيث خضع السكان الأصليون لتلك المنطقة لتطهير عرقي حقيقي، فيما لجأ الناجون لبعض الجزر القريبة من هناك.
إفريقيا.. مصدر لا ينضب لتوريد العبيد
في الوقت الذي أبادت فيه السلطات الفرنسية سكان الجزيرة الأصليين، عملت على جلب آلاف العبيد الأفارقة إلى هناك لتوفير العمالة المجانية لمزارعي قصب السكر، لذلك سنت مرسومًا صدر في مارس/آذار 1685 بشأن عبيد الجزر الأمريكية يضفي شرعية على هذه الممارسات العنصرية.
كانت فرنسا تبحث عن الرجال والنساء على الساحل الإفريقي، فتلك المنطقة مصدر لا ينضب لتوريد العبيد، ويتم اختيار هذه القوة العاملة بسرعة، خاصة أن رأس المال الذي استثمره مستعمرو جزر الهند الغربية لشرائهم يتم سداده في عام واحد.
هذا الأمر، جعل جزيرة المارتينيك تتكون بالكامل من السكان المهاجرين، حيث كانت ظاهرة الهجرة منذ فترة طويلة مسألة دولة، وتميزت بعمق بالعبودية، وساهمت حركات الهجرة والنزوح بقوة في تشكيل التركيبة السكانية لهذه الجزيرة.
يتم جلب الآلاف من العبيد السود بشكل رئيسي من غرب إفريقيا، خاصة من السنغال وغينيا وأنغولا والرأس الأخضر، حيث يتم الاستحواذ على هؤلاء العبيد بشكل رئيسي عن طريق المقايضة التي تبرر موضوع الاتجار، لكن أيضًا عن طريق الاستيلاء المباشر.
فؤوس حديدية مقابل العبيد
يتم مقايضة العبيد بالفؤوس والأشياء الحديدية، فغالبًا ما يتم استبدال العبيد بقضبان حديدية وأحجار الرحى وقطع صغيرة من الفضة والملابس التي يتم جلبها من أوروبا، وفي كثير من الأحيان دون مقابل، حيث يتم أسرهم واختطافهم مباشرة دون وسيط في العملية.
يأخذ التجار الفرنسيون عشرات السفن المحملة كل عام للحصول على العبيد، كتجارة متعددة الصفقات، وتعتمد القيمة السوقية للعبد عبر المحيط الأطلسي على جنس الشخص وقدراته الجسدية، ودائمًا ما يكون الرجل أعلى قيمة مقارنة بالمرأة، يتم تمييز العبيد بمجرد الحصول عليهم بمكواة ساخنة على جزء من الجسم، وكل سفينة تحمل ما بين 400 إلى 600 أسير، 9 رجال مقابل 5 نساء في المتوسط، يموت 11% من العبيد في أثناء العبور، وقد كان معدل وفياتهم سنويًا 12%.
كان يُنظر إلى العبودية نفسها على أنها قاعدة راسخة، يشجعها الاهتمام بالاقتصاد والربحية التي حفزت الاستعمار
فيما يتعلق بتنظيم تجارة الرقيق، يبدو الواقع العملي الذي يتم تنفيذه بسيطًا: حيث يتم ترحيل الرجال والنساء من القارة الإفريقية وبيعهم إلى المستوطنين في جزيرة المارتينيك وغيرها من جزر الأنتيل الصغرى لخدمتهم مدى الحياة.
كان الإسبان يمنحون الحرية للأطفال، وكذلك الآباء الذين ظلوا عبيدًا لمدة ثلاثة عشر عامًا، أما الهولنديون فلم يكن لديهم عبيد مسيحيون، لكن بالنسبة للفرنسيين فالوضع مختلف، فالعبودية عندهم ليست مجرد نتاج للاتجار، لكنها تتحول على الفور إلى إنتاج استعماري فطفل العبد هو عبد.
نتيجة ذلك، كانت الأمهات في الجزر الفرنسية، يضطررن إلى قتل أطفالهن لتجنب العبودية والمصير المجهول الذي ينتظرهم تحت سوط السيد، فلا حرية لهم إلا بعد الموت، حسب النظام الذي كرسه المستوطنون الفرنسيون بمعية دولتهم.
العبيد عماد الاقتصاد الفرنسي
في بداية القرن السابع عشر، كان عدد العبيد في جزر الأنتيل الصغرى أقل من عدد المستوطنين، لكن هذا الوضع تغير، حيث أصبح هؤلاء العبيد الأغلبية، ويقدر عدد العبيد الذين تم ترحيلهم من إفريقيا إلى أمريكا بنحو 8000 شخص سنويًا في القرن السابع عشر حتى عام 1670، ثم تضاعف عددهم لاحقًا.
كان لدى باربادوس 5680 عبدًا أسود عام 1645، ووصل عددهم إلى 42 ألف عبد عام 1698، ركز المستوطنون على تعزيز الاقتصاد (مع جعل أنفسهم أكثر ثراءً)، وبالتالي ازداد الطلب على العبيد مع توسع التبغ ثم السكر في عمليات الاستحواذ والاستغلال في الجزر.
بالنسبة لهؤلاء المستوطنين الجدد، كان يُنظر إلى العبودية نفسها على أنها قاعدة راسخة، يشجعها الاهتمام بالاقتصاد والربحية التي حفزت الاستعمار، فالفرنسيون كانوا لا يستخدمون الثيران أو الخيول في فلاحة أراضيهم، لكن فقط العبيد الذين يأتون إليهم من إفريقيا أو من سواحل أمريكا الأبعد عن الجزر.
إذا كان العبد يمثل اقتصاد المستعمرين، فهو أيضًا علامة على الثروة، فالرجل ميسور الحال من يملك عشرات العبيد تحت تصرفه وتصرف الأرض التي استولى عليها من مالكيها الأصليين، فقد كان من السهل إقناع الأغنياء في العالم بالتخلي عن مواردهم، لكن إقناع المستوطنين الفرنسيين في جزر الهند بالتخلي عن العبيد وإلغاء التجارة المخزية وبيع وشراء الرقيق كان مستحيلًا.
أهمية الجزيرة من أهمية السكر
هدف الفرنسيون من الاستيلاء على هذه الجزيرة هو قبل كل شيء تزويد العاصمة باريس بالسكر، وهو سلعة فاخرة يتم شراؤها تقليديًا من البلدان الإسلامية مقابل تدفقات كبيرة من المعادن الثمينة، وفقًا للعقيدة التجارية في ذلك الوقت، كانت هذه التدفقات النقدية الخارجة هي العامل الرئيسي في إفقار الدولة الفرنسية لذلك بحثوا عن حل.
منذ القرن السابع عشر، شكل ملايين الرجال والنساء الذين انفصلوا عن القارة الإفريقية، عمالة سهلة الانقياد ورخيصة للمزارع، وهذا ما تحتاجه فرنسا، فلم يعد بإمكانها الاكتفاء بعمل مجموعة من الخدم الفرنسيين الذين يتقاضون أجرًا مقابل خدماتهم.
كانت السلطات الاستعمارية تسعى لتطوير إنتاج قصب السكر، فقد كان الناس في فرنسا مجانين بقصب السكر، فكان لا بد من إيجاد طريقة لاستغلال الأراضي الخصبة في مارتينيك والجزر المجاورة لها، فاتبع الفرنسيون نهج الإسبان والبرتغاليين الذين أسسوا العبودية في العالم الجديد.
لا تخلو حياة العبودية في هذه الجزر الفرنسية من العقاب – جسديًا ومعنويًا – من الجلد إلى القتل إلى التجويع، وكل الوسائل تنطوي على فكرة الألم والظلم
يرى الفرنسيون أن السكر سيكون باهظ الثمن إذا لم يجعلوا العبيد ينتجونه، فإنتاج قصب السكر يتطلب قوة عاملة كبيرة جدًا لقطعه واستخراج العصير وصنع أرغفة السكر التي سيتم نقلها إلى أوروبا.
عام 1660 كان عدد السكان البيض أكثر من 50%، وبعد 20 عامًا أصبح عددهم لا يتجاوز 30%، وذلك مع تطور صناعة السكر، لكن مع مرور الوقت أصبح عددهم لا يتجاوز 10% من عدد سكان الجزيرة.
أدت الزيادة في استيراد العبيد ومعدل المواليد على الرغم من معدل الوفيات المرتفع، إلى تضخم في صفوف السكان العبيد، وأيضًا إلى ارتفاع منتج قصب السكر، وقد زاد حجم المزارع من 10 إلى 20 هكتارًا في القرن السابع عشر إلى متوسط 50 هكتارًا في القرن الثامن عشر، ما جعل الحاجة للعبيد آخذة في الازدياد.
معاناة متواصلة
يعمل العبيد في مزارع التبغ، طوال اليوم، في الشمس أو في ورش المعالجة، حيث يتم وضعهم تحت أوامر ومراقبة قائد لا يعتبر مزاجه متساهلًا، ودائمًا ما يتعرض هؤلاء العبيد لحوادث مميتة، لكن هذه الحوادث تمر دون متابعة فلا قيمة للعبد عند المستوطن الفرنسي.
أوقات الراحة الوحيدة عند العبيد كانت أوقات الوجبات، فحتى في الليل كانوا يعملون لوقت متأخر، ينامون لساعات قليلة ليعاودوا بعدها العمل دون مقابل، في حياة أشبه بحياة الدواب.
جميع الزنوج، رجال ونساء وفتيان وبنات فوق الحادية عشرة أو الثانية عشرة، يعملون بالتساوي، فيما يتم وضع بعض الأطفال كمتدربين مع الحرفيين لتوفير المال، فالمتدربون الفرنسيون باهظو الثمن.
لا تخلو حياة العبودية في هذه الجزر الفرنسية من العقاب – جسديًا ومعنويًا- من الجلد إلى القتل إلى التجويع، وكل الوسائل تنطوي على فكرة الألم والظلم، وربما السخرية، وإذا كان هؤلاء يفتقرون إلى الطعام أو الشراب، فإنهم سرعان ما يتحولون إلى اليأس أو حتى الانتحار.
في حالة ثار العبيد، يتم إعدام القادة ويعاني الآخرون نفس المعاملة التي يتعرض لها المجرمون، حيث يتم تنفيذ عقوبات قاسية في حقهم، منها القتل والحرق، وفي بعض المرات يتم قتل العبد حرقًا بعد تقطيع جسده، فيما يحتفظ السيد بالرأس ليضعه على عمود في وسط منزله، لإثارة خوف عبيده.
تحكي جزيرة المارتينيك واحدة من أبرز جرائم فرنسا الاستعمارية بحق شعوب الدول والأقاليم المُستعمَرة، جرائم لم تمح بعد من ذاكرة أحرار العالم لفظاعتها، ورغم ذلك لا تعترف فرنسا بأغلبها.