ترجمة وتحرير: نون بوست
كانت بول بولاكتر تعلم أنها ستتعرض للاغتصاب والقتل إذا قررت البقاء، وسوف يُقتل الطفل الذي كانت حاملا به عاجلا أم آجلا ويُحرق مع بقية أفراد قريته. وردت قصص كثيرة من هذا القبيل من قرى الروهينجا، وهم شعب مسلم استقر لمئات السنين في منطقة راخين البورمية، المتاخمة لأقصى جنوب بنغلاديش، وهي أقلية مضطهدة ومنبوذة في دولة ذات أغلبية بوذية.
قررت بولاكتر البالغة من العمر 17 سنة الفرار من قريتها دون أي متاع قبل أن يدخلها جيش ميانمار. فرت في أيلول/ سبتمبر مع أسرتها وزوجها جاني ألوم وهي حامل في شهرها الخامس. بحسب روايتها، باعوا ما لديهم ودفعوا أموالا لأحد الصيادين لعبور نهر ناف على متن قارب. لقد كانت المسافة بالكاد تبلغ كيلومترا واحدا، ولكن بالنسبة لها وللروهينجا، فإن تلك المسافة تتجاوز الحدود المائية بين بلدين، إنها المسافة الفاصلة بين البقاء على قيد الحياة أو القتل بوحشية. منذ ذلك الحين، انقلبت حياتها رأسا على عقب، مثل أكثر من 700 ألف من الروهينجا الذين فروا إلى بنغلاديش المجاورة منذ تصاعد العنف ضدهم في شهر آب/ أغسطس 2017.
لقد كانت المذبحة التي ربما تكون أول إبادة جماعية في القرن الحادي والعشرين، بمثابة رد فعل من سلطات ميانمار على هجوم مجموعة متمردة من الروهينجا في 25 آب/ أغسطس. وأعلن ما يسمى بـ”جيش إنقاذ روهينجا أراكان” مسؤوليته عن سلسلة من الهجمات ضد مواقع قوات الأمن في ميانمار.
خلال العملية، قُتل العديد من رجال الشرطة وفقا للرواية الرسمية في ميانمار، وقد ردت السلطات بقمع أقلية الروهينجا الذين كانوا قد تعرضوا للاضطهاد وسوء المعاملة قبل سنوات عديدة من ظهور هذه الجماعة. لقد كانت تلك الحجة المثالية بالنسبة لبعض الرهبان البوذيين الذين يحرضون على التطرف وكراهية الأجانب.
كانت النتيجة واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية في السنوات الأخيرة، والأكثر وحشية، لدرجة أن الأمم المتحدة وصفتها دون تردد بـ”التطهير العرقي”.
طفلان يلعبان بجوار المياه الراكدة في مخيم جانتولي للاجئين. (بنغلاديش)
تعيش بولاكتر وعائلتها الآن في مخيم جانتولي للاجئين، وهو أحد المخيمات التي أقامتها حكومة بنغلاديش في منطقة كوكس بازار منذ بداية الأزمة. وهناك بعض المخيمات الأخرى الموجودة هناك منذ فترة طويلة، مثل “كوتوبالونغ” الذي يبعد بضعة كيلومترات عن جانتولي.
لا يُعتبر اضطهاد الروهينجا من قبل جيش ميانمار والميليشيات البوذية المتطرفة ظاهرة جديدة، لكن العنف هذه المرة كان فظيعا، حيث حدثت عمليات قتل وإعدام جماعي للبالغين والأطفال الرضع، بالإضافة إلى العنف الجنسي والفصل العنصري وعدد من الممارسات الأخرى التي أكدتها العديد من المنظمات الإنسانية وآلاف الشهادات من الضحايا.
لقد فقد معظم لاجئي الروهينجا أقاربهم بسبب آلة الإرهاب والإبادة البورمية. يحصل ما يقارب مليون شخص على حفنة من الأرز كل ثلاثة أيام توزعها المنظمات غير الحكومية، وبعض أعمدة الخيزران التي ترسلها حكومة بنغلاديش يوميا إلى المخيمات.
حملوا معهم بعض المواد البلاستيكية التي وزعتها مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين، وهي تشكل الآن جدران وسقوف أكواخهم المتهالكة. أعدادهم كبيرة جدا لدرجة أنه من المستحيل التمييز بين المكان الذي ينتهي عنده أحد المخيمات والمكان الذي يبدأ منه الآخر. لقد اختفى الغطاء النباتي تماما وظهرت مجموعات ضخمة من الأكواخ على المنحدر لفسح المجال للاجئين الجدد الذين يصلون بالمئات كل أسبوع.
في كوخ بولاكتر وعائلتها، بالكاد يمكنك المشي بشكل مستقيم. تتسبب الحرارة التي يمتصها البلاستيك أثناء النهار في الاختناق، بينما تتسبب الرياح التي تتسرب عبر الثقوب ليلا في برد شديد. في ظل هذه الظروف، كان عليها أن تلد ابنتها التي لم تطلق عليها أي اسم بعد. تبلغ الرضيعة من العمر يومين فقط، وهي بالتأكيد لن تعرف أبدا المنطقة التي جاءت منها.
سيكون عالمها مخيما للاجئين مليئا بالغبار ومياه الصرف الصحي، ومهدها بطانيتان وأرضية قذرة. بجانب الفتاة هناك قليل من الجمر يساعدهم على مقاومة البرد ليلا، رغم أن الرياح القوية يمكن أن تتسبب في اشتعال كل شيء. ربما هذا هو السبب وراء تواتر الحرائق في المخيمات. تقول الأم: “ماذا يمكننا أن نفعل أيضا؟ هذه هي حياتنا الآن. ليس لدينا سوى القليل من الغذاء والدواء الذي تقدمه لنا المنظمات غير الحكومية، وبالكاد يكفي لأوفر بعض الحليب”.
صورة من مخيم كوتوبالونغ للاجئين
يبدو أن الأزمة، بعد مرور نصف سنة على عمليات الفرار الضخمة والوصول إلى بنغلاديش، قد هدأت، رغم أنه لم يكن من السهل استيعاب ما يقرب من مليون شخص في هذه الفترة الوجيزة.
من جانبه، يشرح فريق منظمة أطباء بلا حدود في إحدى العيادات الميدانية أن “هناك مئات الآلاف من الناس يعيشون في مخيمات مزدحمة. تنتشر الأمراض هنا بسهولة شديدة، لأنه من المستحيل تجنب الإصابة بها في هذه الظروف. بالكاد يتم تطعيمهم، لقد بلغوا حالة ضعف شديد ومعظم اللاجئين من الأطفال”.
تمثّل التحدي الأول في احتواء تفشي الحصبة والخنّاق، وهي أمراض يُعتقد بالفعل أنه قد تم استئصالها في العالم بأسره تقريبا. تسلط إحدى الطبيبات الضوء على العديد من حالات سوء تغذية الأطفال والحمى المعدية والإسهال الحاد: “لقد كلفتنا مواجهة هذه الأمراض الكثير، حتى لو جاء لقاح بسيط للوقاية منه، فإن الظروف غير الصحية التي يعيشون فيها تعتبر أرضا خصبة مثالية لانتقال العدوى، كما أن الكثافة السكانية في المخيمات تجعل تفشي المرض يتحول بسهولة إلى وباء”.
لكن الأسوأ لم يأت بعد. في غضون أشهر قليلة، لن يصبح الاضطهاد البورمي التهديد الأكبر للروهينجا، بل العواصف. ستدمر الرياح الموسمية والأعاصير هذه الملاجئ غير المستقرة، وتمتلئ المخيمات بالطين. ستملأ مياه الصرف الصحي القادمة من مئات الآلاف من المراحيض المتنقلة كل ركن من أركان المخيمات وسوف تختلط بالطين وآبار مياه الشرب النادرة. وتحذر المنظمات غير الحكومية من الأمراض المنقولة عن طريق المياه مثل الإسهال المائي الحاد والتيفوس والتهاب الكبد، والتي قد تتسبب في فوضى عارمة، كما لا يُستبعد تفشي حمى الضنك أو الكوليرا في المخيمات غير الملائمة لظروف الطقس السيئة.
أمام عيادة أطباء بلا حدود، يحتمي عشرات اللاجئين من شمس منتصف النهار تحت سقف من القصب يسمونه “المقهى”. يجلس اللاجئون على مقاعد من الخيزران يشربون القهوة ويمضغون البان، وهو جوز نبات التنبول الذي يلفونه بورقة خضراء. يقومون بذلك دون توقف طوال اليوم لأنه يخفف من الجوع رغم أنه يدمر أسنانهم.
بول بولاكتر، لاجئة من الروهينغا تبلغ من العمر 17 سنة، تحمل ابنتها البالغة من العمر يومين داخل كوخها في مخيم جانتولي
من جانبه، تحدث الشاب عمر عن رحلته إلى مخيم جانتولي، حيث كان سار في الغابة لمدة ثلاثة أيام مختبئا من الجيش، وكان يدعو الله ألا يطلقوا عليهم النار عند الحدود. يشعر عمر، البالغ من العمر 25 سنة، والذي يعمل أحيانا كمترجم، بقشعريرة كلما مر جندي بنغالي. يقول: “أعلم أن الجيش البنغالي لن يفعل لي أي شيء، لكن في كل مرة أرى فيها زيا رسميا أرتعد خوفا”.
يعاني عمر من اضطراب ما بعد الصدمة، وهو أمر شائع جدا في المخيمات. رأى عمر بأم عينيه كيف أحرق الجيش قريته وضربوا جيرانه بالعصي. إنه يعرف أنه بقي على قيد الحياة بأعجوبة، لكن الثمن الذي دفعه للبقاء على قيد الحياة باهظ للغاية. يتحدث عمر عن ذلك قائلا: “فقدنا كل شيء هناك. رغم أننا آمنون هنا، لا يمكننا العمل. لا يمكننا حتى مغادرة المخيمات”.
تحدث لاجئ آخر عن العنف في ميانمار قائلا: “لقد دمُر مجتمعنا بالكامل. طردونا جميعا ونحن نعيش الآن هنا. كان هذا دائما هدف الحكومة البورمية”.
لم ترق سياسة الأذرع المفتوحة لسكان كوكس بازار. في المكان الذي كانت توجد فيه مزارعهم وماشيتهم، يوجد الآن مئات الآلاف من اللاجئين. يوضح أحد عمال الإغاثة في أطباء بلا حدود، والذي يتفهم نوعا ما هذا الانزعاج: “كان هناك توتر اجتماعي لبعض الوقت.. أصبح السكان المحليون أيضا لاجئين في منازلهم. هناك انزعاج لأنهم يرون أطنانا من الطعام والأدوية تصل إلى المخيمات، وهم في حاجة إليها أيضا”.
خرجت مظاهرات مناهضة لاستقبال اللاجئين وضد المنظمات غير الحكومية، وقد تزامنت مع الموسم الانتخابي في بنغلاديش، حيث أدت الدعاية الحزبية حول أزمة الروهينجا إلى زيادة حدة التوتر. يوضح عامل الإغاثة في هذا الصدد: “عياداتنا مفتوحة للجميع، وليس فقط للروهينجا. نحن نخدم كل من يحتاجون للعلاج بالوسائل المتوفرة لدينا”.
لأسباب من هذا القبيل، في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، وقعت حكومتا بنغلاديش وميانمار اتفاقية لإعادة ما يقرب من 688 ألف لاجئ، ولكن لم يتم إحراز تقدم منذ ذلك الحين. في الواقع، لا توجد ضمانات بأن ميانمار يمكن أن توفر عودة آمنة للاجئين، لا أحد يريد أن يعود.
يقول لاجئ آخر يخشى إعادته قسرا إلى الوطن عاجلا أم آجلا: “لقد تعرضنا دائما للاضطهاد والإهانة في الأماكن العامة. إذا عدت الآن فأنا متأكد من أنهم سيقتلونني. سيكون من الأفضل الاستسلام للعيش في هذه الظروف بدلا من الموت أو السجن في بلد يعتبرنا أجانب، والآن ينظر إلينا كإرهابيين”.
فتاة تحمل طعاما اشترته لعائلتها من الأكشاك على مشارف جانتولي
لا يحتاج هؤلاء إلى تخيل ما سيكون عليه الحال عندما يصبح المرء لاجئا إلى الأبد. يكفيهم زيارة مخيم كوتوبالونغ المجاور، وهو أكبر مخيم للاجئين في العالم حاليا، حيث تبلغ مساحته أكثر من 1200 هكتار. هرب مئات الآلاف من الروهينجا خلال الأزمة الأخيرة، لكن هناك عشرات الآلاف من مواطنيهم هاجروا منذ عقود. لقد فروا للسبب نفسه، أي بسبب العنف، لكن عددهم لم يكن مصدر قلق لحكومة بنغلاديش.
عاشت نينوجان نصف حياتها تقريبا في هذا المخيم، وهي امرأة تبلغ من العمر 55 سنة، لكن ملامحها توحي أنها في الثمانينيات من العمر. وصلت إلى كوتوبالونغ سنة 1992 هربا أحداث عنف ضد الروهينجا، لكنها تقول إن الأمر مختلف تماما هذه المرة
تتذكر هذه المسنة مأساتها بهدوء قائلة: “في التسعينيات لم يقتلوا عددا كبيرا من الناس كما يفعلون الآن. في ذلك الوقت كانوا يضربوننا، وقد اغتصبوا النساء وأحرقوا منازلنا لطردنا من أراضينا”.
تضيف نينوجان: “في قريتي كان لديّ أرض ومتجر صغير. كنا مزارعين، لكن الجنود جاءوا ذات ليلة، وضربوا زوجي واغتصبوني عدة مرات. كما اغتصبوا ابنة أخي الصغيرة. احتلت الحكومة البورمية أرضنا بالقوة وكان علينا الهروب. إنه لأمر مروع أن نرى كيف يعيد التاريخ نفسه. إنه لمن دواعي الأسى الشديد أن أعرف أن الأقارب الذين تركتهم هناك جاؤوا بعد 25 سنة، ليعيشوا نفس الحياة البائسة مثلي”.
وتتابع بحزن: “الموت هنا أفضل من العودة إلى حيث لم يعد لديك أي شيء. لا أريد أن أسمع عن العودة إلى الوطن إذا لم يكن لدي نفس الحقوق التي يتمتع بها أي مواطن في ميانمار”.
يشير أحد رجال الشرطة الذين يقومون بدوريات في المخيم إلى أن “نينوجان هي واحدة من بين حوالي 8000 شخص مسجلين كلاجئين ولديها بطاقة لإثبات ذلك وتتلقى بعض المال كل شهر من أموال المساعدات الإنسانية. وبذلك يمكنها أخذ الطعام لها ولزوجها وطفلها الوحيد”.
وفقا لمتحدث باسم شرطة كوكس بازار، تواجه الحكومة الكثير من المشاكل في المخيمات، حيث تم الإبلاغ عن حوالي 16 حالة قتل على الأقل. يقول الضابط الذي فضل عدم الكشف عن اسمه: “إنهم يتشاجرون فيما بينهم، أو واجهوا مشاكل بالفعل مع بعضهم البعض قبل الوصول إلى هنا”.
وتحذر منظمات غير حكومية ووكالات تابعة للأمم المتحدة من انتشار الاتجار بالنساء واللاجئين القصر في المخيمات. لقد تمكنوا من الفرار من الإبادة الجماعية، لكن الجحيم لم ينته بعد.
المصدر: بوبليكو