عام 2009 كتب شخص غامض يدعى ساتوشي نكاماتو كود برمجة كان الأساس لتقنية البلوك تشين (Blockchain)، ليشكل بذلك انطلاقة نوع جديد من المال وهي الأموال أو العملات الرقمية.
في البداية كانت البيتكوين أشبه بهواية تجذب المبرمجين وعلماء الرياضيات لحل مسائلها المعقدة، لكن بعد سنوات قليلة نجحت في جذب اهتمام المستثمرين والبنوك والحكومات وصولًا إلى أن أصبحت حديثًا على ألسنة الناس ووسائل الأخبار، وبدأت التساؤلات عن إمكانية منافسة هذه العملات الرقمية المال التقليدي وعلى رأسه الدولار الأمريكي.
البيتكوين كمؤسسة بنكية مستقلة بذاتها
خطفت البيتكوين الأنظار عام 2020 مع وصولها لمستويات سعر أعلى من 30.000 دولار قبل انتهاء السنة المأزومة بكورونا وحرب تجارية بين أكبر اقتصادين في العالم والكثير من الأحداث السياسية الساخنة في مختلف أنحاء العالم، إذ إن الجميع يتحدث عنها وعن فرصة أضاعها في الاستثمار مبكرًا فيها، لكن اللافت أن معظم الناس لم يستخدموا أيًا من العملات الرقمية من قبل ولا يعلمون ما حقيقتها بالضبط.
رغم أن عددًا لا بأس به من الشركات المعروفة عالميًا بدأت بالفعل قبول البيتكوين كوسيلة دفع، وهناك خطط عن إدراج سوق العملات الإلكترونية في بورصة نيويورك، لكن مع كل تلك المعطيات هل ذلك كافيًا لاعتبارها عملةً وهل من الأفضل لك أن تنال حصة من الكعكة قبل أن يفوت الأوان؟
يتفق الناس على أن العملة التقليدية كالريال أو الدرهم أو الدولار لها قيمة لأن الحكومات تضمن هذه العملات وتقول ببساطة إن لها قيمة، كما أنهم يثقون في البنك عندما يعطيهم كشفًا لحساباتهم لأن البنك أيضًا هو جزء من منظومة مالية خاضعة لرقابة وإشراف الحكومة، أما البيتكوين فهي حالة مختلفة تمامًا، فلا حكومات ضامنة ولا بنوك تتابع، فكل عملة إلكترونية تُضاف بشكل مشفر من خلال تقنية البلوك تشين ويتم مشاركة العملية من خلال نظام مفتوح للعامة على آلاف أجهزة الكمبيوتر في مختلف أنحاء العالم.
كل عملة رقمية عبارة عن مؤسسة بنكية بحد ذاتها، حيث تحفظ كل من تداولها منذ نشأتها، وفي نفس الوقت تحفظ كل المعلومات عن كل عملات البيتكوين الأخرى
ولإبقاء هذه التكنولوجيا والمعلومات محدثة يحل عدد كبير من المبرمجين معادلات رياضية معقدة وخاصة باستخدام أجهزة حاسوب متطورة تستهلك الكثير من الطاقة، وفي المقابل تتم مكافأتهم مقابل عملهم بعملات رقمية جديدة.
تعني هذه المعطيات أن كل عملة رقمية عبارة عن مؤسسة بنكية بحد ذاتها، حيث تحفظ كل من تداولها منذ نشأتها، وفي نفس الوقت تحفظ كل المعلومات عن كل عملات البيتكوين الأخرى الموجودة في هذا النظام.
المحفظة الإلكترونية
ما يُسمى بـ”المحفظة الإلكترونية” ليس محفظة حقًا، هي فقط عبارة عن مفتاح مشفر يسمح لصاحبه بالدخول إلى النظام ليعرف كم عدد البيتكوين التي يملكها، وذلك يعني أنه لو أضاع هذا المفتاح لا توجد طريقة أخرى لاسترجاعه أبدًا أو طلب مفتاح جديد كما كنت لتفعل حال أضعت بطاقتك البنكية. مثلًا ثمة رجل في المملكة المتحدة رمى عن طريق الخطأ الحافظة التي كانت تحتوي على مفتاح محفظته وأضحت بقيمتها التي وصلت إلى 100 مليون دولار جزءًا من مكب نفايات ضخم في ضواحي المدينة.
حتى اللحظة لم تنظم الحكومات البيتكوين وذلك ما جعلها عملة مفضلة للأنشطة غير القانونية مثل تجارة السلاح وتجارة البشر والمخدرات ويرجع ذلك إلى أن عملياتها تمامًا تبقى مجهولة المصدر ولا يمكن تعقبها، وبحسب الدراسات يشار إلى أن ما يقارب نصف العمليات التي تستخدم البيتكوين مرتبطة بأنشطة غير شرعية، وحتى إن بعض العملات الرقمية الأحدث عهدًا تسوق لنفسها من خلال التأكيد على استحالة تعقبها.
إلى جانب سهولة تحويلها وانخفاض كلفة التعامل بها واكتنازها، هناك سبب آخر يؤثر على أسعار البيتكوين ويؤدي إلى تزايد شعبيتها بين صغار وكبار المستثمرين، وهو ببساطة كون أسعارها متذبذبة بشكل كبير وهذا إلى حد كبير ما يجعلها مغرية جدًا للباحثين عن الثراء السريع، فخلال السنتين الماضيتين وصل سعر البيتكوين الواحدة لمستويات الـ20 ألف دولار قبل أن تهبط إلى ما دون الأربعة آلاف دولار، لتصعد مرة أخرى خلال عام 2020 لتصل إلى مستويات ما فوق الـ35 ألف دولار!
حقيقة أن البيتكوين تواجه مثل تقلبات شديدة في الأسعار يقلل من فرصة استخدامها كوسيلة للتبادل
الفكرة مغرية إلى حد كبير، فمن السهل القول لو أنك استثمرت في مبلغ 40 ألف دولار عندما وصل السعر 4 آلاف، لكنت الآن تستمتع بما يقارب 340 ألف دولار! لكن هل ذلك ممكن حقًا؟ بالتأكيد أن بعض الناس حققوا أرباحًا مجزية من خلال الاستثمار المبكر في البيتكوين، لكن ذلك لا يزيد عن كونه إما ضربة حظ وإما لعبة قمار.
هل البيتكوين عملة أصلًا؟
كشرط أساسي لكي يعمل شيء ما كعملة، يجب أن يكون وسيلة تبادل فعالة، أي يجب أن يكون الأفراد والشركات والمنظمات الأخرى قادرين على مقايضتها بالسلع والخدمات، وإحدى المشكلات الرئيسية التي تقوض استخدام البيتكوين كوسيلة للتبادل هي التقلب الشديد في أسعارها، رغم أن هذا الارتفاع الحاد حقق أرباحًا غير عادية للمستثمرين، لكن حقيقة أن البيتكوين تواجه مثل هذه التقلبات الشديدة في الأسعار يقلل من فرصة استخدامها كوسيلة للتبادل، وهو أحد العناصر الحاسمة اللازمة لها لتعمل بشكل فعال كعملة.
فتصور أنك تملك مقهى صغيرًا وقررت أن تبدأ بقبول البيتكوين كوسيلة دفع، معنى هذا أنك ستضطر إلى تحديث قائمة أسعارك في اليوم الواحد عدة مرات!
هل البيتكوين استثمار جيد؟
معظم الناس مهتمون بالبيتكوين ليس كعملة وإنما كاستثمار (مضاربة) تمامًا مثل الذهب أو أي أصل آخر تتذبذب أسعاره ليعطي المضاربين فيه فرصة لتحقيق أرباح (أو خسائر) سريعة وكبيرة، وفعلًا يحقق البعض أرباحًا مرتفعة، لكن كحال أي استثمار مبني على المضاربة فالمخاطر أيضًا مرتفعة وكما يمكن أن تربح الكثير يمكن أن تخسر الكثير أيضًا.
هناك عشرات العملات المشفرة على طريقة البيتكوين التي تظهر كل يوم ومن المحتمل أيضًا أن تفقد جزءًا من شعبيتها ومستثمريها لحساب العملات الجديدة
فهذا النوع من الأصول ليس كغيره من الاستثمارات – الحقيقية – إن صح القول فلا عائد إيجاري ولا أرباح سنوية ترجى، فالبيتكوين ليس لها قيمة استثمارية حقيقية ويمثل الاستثمار فيها مقامرة بالمعنى الحرفي، فأنت تشتريها بقيمة 20.000 دولار على أمل أن تجد من يشتريها بـ30.000 دولار ليس لأن لها استخدامات عظيمة ولا لأنها مشروع رابح وينمو.
البيتكوين مورد محدود مثل الذهب
قد يكون من الصحيح أن المبرمجين الأصليين صمومها لتكون محدودة العدد لتصل إلى 21 مليون عملة فقط، لكن دعنا لا ننسى أن هناك عشرات العملات المشفرة على طريقة البيتكوين التي تظهر كل يوم ومن المحتمل أيضًا أن تفقد جزءًا من شعبيتها ومستثمريها لحساب العملات الجديدة، ولا أحد يضمن إلى متى ستبقى البيتكوين على عرشها وماذا يمكن أن تأتي بها التكنولوجيا لتغري الناس بشكل أكبر.
ختاما، دعنا لا ننسى أن الكثير من حكومات العالم شرعت بالفعل في العمل على تطوير عملاتها الرقمية، ذلك إلى جانب شركات التكنولوجيا الكبرى مثل فيسبوك، ما يضع الكثير من التساؤلات عن مستقبل البيتكوين الذي يبدو مشرقًا اليوم بالنسبة للحالمين بالثراء السريع ومحبي المضاربة، وكل ما سأقوله لمن ينوي الاستثمار في إحدى العملات الرقمية قريبًا، أن يسأل نفسه سؤالين مهمين: الأول هل تفهم حقًا طبيعة الشيء الذي ستشتريه بنقودك؟ والثاني: هل أنت مستعد وتستطيع خسارة كل المبلغ الذي تنوي استثماره؟
وإذا كان الجواب على كلا السؤالين بـ “لا”، فقد يكون من الأفضل التفكير في استثمار آخر.