تتوالى أخبار المصالحات الخليجية وكسر جبال الجليد أو لنقل تجريف الكثبان الرملية المتراكمة بين السعودية وقطر بالخصوص، وتذهب التحليلات مذاهب شتى بين قائل بانتصار السعودية وإعادة قطر إلى بيت الطاعة الخليجي وقائل بتراجع آل سعود عن عدوانهم على قطر وفشلهم في فرض شروطهم على قطر، وتعلو أصوات سعيدة بتصالح الأخوة وعودة البيت الخليجي إلى وئام قديم كان ذات يوم في مجلس التعاون الخليجي.
بعيدًا عن كل انحياز لأي طرف، نحاول استشراف أثر هذه المصالحات على تونس بلد الثورة والحرية كما نريد أن نحلم به لا كما هو في الواقع.
صلحهم خير لنا وإن لم نكن جيرانًا
من حيث المبدأ صراع بلدان الخليج أضر بتونس لذلك لا نشك في أن الصلح سيكون له أثر طيب، كان الضرر في انقسام التونسيين (الطبقة السياسية والشعب الكريم) بين متحمس للموقف السعودي الإماراتي ومتحمس للموقف القطري، ولكل مبرراته وقراءته للمواقف والأحداث.
يوجد في تونس خوف رسمي غير معلن من سلطة آل سعود، فهم مهيمنون على الموقف العربي الرسمي وكانت تونس تخشى أو تجتنب معارضتهم في المواقف السياسية المتعلقة خاصة بالقضية الفلسطينية منذ قمة فاس ومشروع الملك فهد للتطبيع التدريجي، وقد تذيل الموقف التونسي للموقف السعودي منذئذ، ويجتنب الموقف الرسمي التونسي إظهار النقد للموقف السعودي ولو على استحياء. والمبررات كثيرة وبعضها مذهبي مضمر، فهناك قبول ضمني أو تسليم خانع بأن آل سعود هم حراس أهل السنة ضد الشيعة. (تزعم الدولة التونسية الرسمية أنها تعيش خارج الصراع المذهبي لذلك أيضًا تتجنب إظهار موقف معاد لإيران رغم ما فعلته بالعراق وسوريا)، وكان هذا يصاغ دومًا تحت غطاء دبلوماسية تصفير المشاكل مع الجميع.
الجديد بعد الثورة أن الموقف الشعبي قد تغير أو انقلب، فأعداء السعودية صاروا أحبابها بعد نصف قرن من نعتها بقيادة الرجعية العربية المطبعة، وأحبابها القدامى من الإسلاميين تحولوا عنها إلى محبة قطر أو أعلنوا الرفض للشرعية الدينية لآل سعود خصوصًا أن قطر أظهرت لهم الدعم السياسي والمالي في مناسبات كثيرة بينما وعدت السعودية كثيرًا ولم تف بأي وعد.
وقامت محاور جديدة على قاعدة مع الربيع العربي أو ضده وتحددت المواقف على هذا الأساس خلال القطيعة بين بلدان الخليج، وخسر التونسيون غنائمهم الصغيرة من العلاقات الهادئة مع هذه البلدان وأظهر الكثير منهم (الدكتور المرزوقي خاصة) عداءً صريحًا ومبدئيًا لدولة الإمارات التي لم تخف عدوانها على تونس الثورة ومحاولتها شق الصف الوطني بتمويل الصحف والنخب وزرع الفتن بين فرقاء الوطن الواحد، والإمارات لسنوات طويلة قادت الموقف السعودي كما يقاد جمل من خطامه.
يفكر التونسيون في عقود العمل ببلدان الخليج، فهناك أجور جزيلة مغرية حتى إن كثيرًا من أعداء قطر في تونس يتزاحمون أمام سفارتها بحثًا عن عقد عمل مفيد
هذه المصالحة التي نتابع أخبارها ستعيد خلط الأوراق في تونس، لكنه خلط إيجابي وسيعيد كثيرون مراجعة مواقفهم وقد يبتعدون عن المحورين اللذين قد يتحولان إلى محور واحد بحيث تنتفي أسباب الخلاف التونسي المزروع بالقوة ولن يجد المحرضون مبررات لمزيد من الانحياز لهذا المحور أو ذاك، فقد تراجعت الفتنة هناك وقد تموت هنا بالتبعية لأن الفائدة من الاختلاف انتهت وقد تحل محلها الفائدة من المصالحة.
الغنائم المنتظرة
يفكر التونسيون في عقود العمل ببلدان الخليج، فهناك أجور جزيلة مغرية حتى إن كثيرًا من أعداء قطر في تونس يتزاحمون أمام سفارتها بحثًا عن عقد عمل مفيد، لكن أبعد من غنائم الأفراد الطموحين أو الطامعين هناك فائدة سياسية فعلية وستتجلى خاصة في ليبيا، حيث خسر التونسيون كثيرًا من الفائدة الاقتصادية نتيجة الموقف من الثورة الليبية.
فقطر وأصدقاؤها الإسلاميون يقفون مع طرابلس التي تحافظ على نفس الثورة الليبية، بينما وقف أصدقاء السعودية أي أصدقاء الإمارات بالقوة مع حفتر والسيسي ضد الثورة، والآن وقد ظهرت علامات جدية على نهاية الخلاف السعودي المصري والقطري التركي في ليبيا، فإن الانقسام التونسي سيذوب من تلقاء نفسه أو هكذا نرجح، وسيعود حديث الاستفادة من إعادة الإعمار في ليبيا ولو بعقود مناولة للأتراك والقطريين لأن المغنم الكبير قد قسم هناك في غياب تونس البلد الجار المندمج فعلًا لا قولًا في ليبيا التاريخية.
عيون التونسيين على ليبيا، لكن خلافهم المجلوب بشأن الثورة الليبية حرمهم حتى الآن من الاستفادة من الوضع الليبي المتجه إلى مصالحات حقيقية، لكن نهاية أسباب الخلاف المدعوم خارجيًا أو تراجع تأثيرها وهو أدق قد تتحول إلى تفكير عملي بفتح الحدود وتصريف العمالة الزائدة وفتح أسواق المواد الفلاحية والغذائية التي تحتاجها السوق الليبية بأقل كلفة نقل عبر الحدود الترابية، والتونسيون يعرفون هذا الطريق والليبيون تذوقوا المنتج التونسي دائمًا.
من هنا نرى آثار المصالحات الخليجية وطبعًا نشحن النص بكثير من التفاؤل لأننا على يقين أن خلافات التونسيين عميقة ويصعب تجاوزها رغم انتهاء المثير الخارجي القوي ولكن الطارئ والعابر.
المصالحات فيها فائدة أكبر للإسلاميين
الخريطة واضحة، فالإسلاميون يقفون في صف الربيع العربي لأنه منحهم حق الوجود والفعل السياسي بعد عقود طويلة من الإقصاء، وعندما ينتهي الخلاف بين المحاور المساندة للربيع العربي والمعادين له أو يتراجع تأثيره فإن فجوة كبيرة تفتح للإسلاميين، ويكفي أن نتخيل نتائج الحل السياسي في ليبيا الذي سيكون فيه للإسلاميين نصيب لأنهم رغم الحرب هم القوة الأكثر تنظيمًا في ليبيا.
وحتى إذا لم يتحول الموقف السعودي لصالح الربيع العربي وهو احتمال ضعيف جدًا أو منعدم، فإن العداء لن يجد له مبررات كثيرة، فرأس الحربة التي وجهوها إلى ليبيا أي حفتر انكسر نهائيًا (وهذا سر تحول الموقف المصري منه)، لذلك سيتحرك القطريون وحليفهم التركي بحرية أكبر ويمكنهم تقديم الدعم المباشر وغير المباشر في شكل استثمارات لحلفائهم بأقل قدر من التنغيص الإماراتي ونعتقد أن الهدية القطرية للسيسي (افتتاح استثمار سياحي) بمثابة رسالة تهدئة للمصري الملهوف على الأرز الخليجي، وفيها معنى “كل واسكت ودعنا نعمل”.
تلك المصالحات هناك ستعيد ترتيب المواقف والأوراق في تونس، لكن الإفراط في التفاؤل ليس من الحكمة في شيء، فأعداء الثورة في الداخل يملكون البلد
وبعيدًا عن التخويف المبالغ فيه الذي يبثه الإسلاميون في تونس من خطر انقلاب تقوده الإمارات وتموله، فإن الدور الإماراتي التخريبي حقيقة ماثلة لكن تراجعها الآن حقيقة أخرى وجب أخذها بعين الاعتبار في تحليل مستقبل السياسة في تونس.
لندع جانبًا أيضًا التبشير بفيوض الأموال القطرية في تونس التي ينتظرها حلفهم الإسلامي، فكثير منها أماني لا حقائق لكن حرية الحركة التي كسبها القطريون بعد فك الحصار عنهم ستكون حقيقة ماثلة، فقد دعم القطريون كل الحكومات التونسية بعد الثورة (لم يكونوا غائبين عن تونس قبلها) لكنهم الآن سيكونون أكثر حريةً وجرأةً في عرض مساعداتهم واستثماراتهم وقد نتابع في القريب إعادة الجدل بخصوص دخول صناديقهم السيادية للعمل في تونس.
وقد لاحظنا أن المفاوض القطري في الأمور الاقتصادية يصل إلى مكاسب كثيرة بذكاء، لذلك لا غرابة أن نجده يستثمر في فرنسا بالذات وقد تكون الشراكة القطرية الفرنسية بابًا مشرعًا للدخول في تونس دون أن يعترض طريقها المعادون لقطر وهو عداء يخفي العمل لصالح فرنسا.
بالمحصلة لقد تصالح الخليجيون أو في أهون الحالات أغمدوا سيوفهم وسيكون لحالة السلم بينهم فائدة لجيرانهم الذين خسروا الكثير من حربهم البينية، ولن أولي أهمية لعبارات المديح التي قد يكيلها إسلاميون للنظام السعودي، فكثير منها لغو لا يعتد به وفيه ترسبات من حرب الإبادة الناصرية للإخوان وفروعهم لم تتم مراجعته أبدًا رغم الربيع العربي الذي فضح الموقف السعودي وكشف هوانه.
تلك المصالحات هناك ستعيد ترتيب المواقف والأوراق في تونس، لكن الإفراط في التفاؤل ليس من الحكمة في شيء، فأعداء الثورة في الداخل يملكون البلد بعد لكنهم فقدوا الغطاء الدافئ في الشتاء القارص وسنتابع ارتعاش مفاصلهم معًا.