قبل نصف قرن تقريبًا ولدت فكرة الربط القاري بين إفريقيا وأوروبا، رغم أنها ظلت قابعة في الأدراج، سيتجدد أخيرًا حلم تشييد جسر معلق أو نفق تحت البحر المتوسط، ليكون نقطة وصل بين شمال المملكة المغربية وصخرة جبل طارق الخاضعة للتاج البريطاني، لكن إسبانيا تتخوف من هذا المشروع بعدما كانت طرفًا فيه، لما يمثله من تهديد لمصالحها الاقتصادية، فيما تبحث بريطانيا من خلاله عن شركاء جدد من خارج الاتحاد الأوروبي.
تعقيدات أجهضت الحلم
عندما جاء الملك الإسباني السابق خوان كارلوس في أول زيارة رسمية إلى المغرب عام 1979، حصل تفاهم حينها بين المملكتين بشأن إعداد دراسة مشتركة لمشروع الربط القاري، ووقع كارلوس مع نظيره المغربي الراحل الحسن الثاني على اتفاقية جرى بموجبها إنشاء شركتين لدراسات الربط القاري عبر مضيق جبل طارق، الأولى مغربية والثانية إسبانية.
لكن طيلة تلك السنوات لم يتجسد هذا المشروع على أرض الواقع، لما رآه المختصون من تحديات تقنية وجيولوجية على حد سواء، ولم يتضح إن كان الأفضل بناء نفق مثل نفق بحر المانش بين فرنسا وبريطانيا أو جسر عائم أو معلق أو مثبت على دعائم في الماء وغيرها من البدائل والخيارات.
إسبانيا تخشى على نفوذها
حاليًّا تنظر المملكة الإسبانية إلى هذا المشروع بعين الخشية من إضعاف نفوذها اقتصاديًا وجيوسياسيًا، في حال تعاونت لندن مع الرباط دون مدريد لتجسيد حلم الربط بين ضفتي مضيق جبل طارق، ستعود الفائدة الإستراتيجية لهذا المعبر البحري على المغرب وبريطانيا فقط بلا إسبانيا، وسيعززان قدراتهما ونفوذهما على حسابها، مستفيدين من الزخم الاقتصادي الذي يتوقع أن يكون مغريًا لكلا الطرفين.
مباشرة بعد المغادرة الفعلية لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أبرمت لندن شراكات اقتصادية أخرى تعزز استقلاليتها الاقتصادية وتقيها من أي ارتدادات لما بعد البريكست، فكان المغرب من أقرب الدول التي عززت شراكتها الثنائية مع بريطانيا، خاصة بعدما شهدت المبادلات التجارية بين البلدين نموًا مضطردًا خلال السنوات الأخيرة.
وسائل إعلام إسبانية كشفت أن المغرب وبريطانيا يحذوهما طموح قوي لتعزيز شراكة قوية عبر صخرة جبل طارق، ويضعان نصب أعينهما إنجاز جسر أو نفق تحت البحر يربط جبل طارق شمال المغرب، وهو مشروع شبيه بذلك الذي حاولت الحكومتان المغربية والإسبانية إنجازه قبل 42 عامًا، لكنه لم يكتمل لأسباب متعددة.
المسافة الأقصر ليست الأفضل
قد يتخذ هذا المعبر البحري أحد هذه الأشكال، يمكن أن يكون جسرًا معلقًا على دعامات ثابتة أو جسرًا معلقًا على دعامات عائمة أو نفقًا مغمورًا مدعومًا في قاع البحر أو نفقًا محفورًا أو نفقًا عائمًا مغمورًا، اعتمادًا على التقنيات الحاليّة، إلا أن المسؤولين في وقت سابق اقتنعوا بفكرة النفق الحديدي.
لا تعد فكرة النفق العائم خيارًا صائبًا، بالنظر لعدد السفن التي تمر عبر ممر جبل طارق وكذا التيارات الهوائية القوية، كما لا يمكن بناء جسر على امتداد المسافة الأقصر بين القارتين في مضيق جبل طارق لأن عمق البحر يصل فيه إلى 600 متر، فضلًا عن التعقيدات الطبيعية المميزة لهذه المنطقة، وهي الجوانب التي تسببت في إلغاء حلول عديدة لتشييد أطول معبر بحري سيعرفه العالم مستقبلًا، لكن متى؟
مشروع بلا خطة واقعية
إضافة إلى الجدول الزمني لتشييد هذا المعبر، تحوم أسئلة أخرى حول التكلفة، ومن المهندس الذي سيعهد له بالإشراف على إنجازه بعد وفاة مهندسه الإيطالي جيوفاني لومباردي عام 2017 عن عمر يناهز 91 عامًا، وهو المهندس الذي بنى أطول نفق للسكك الحديدية في العالم في جبال الألب السويسرية.
طيلة مسيرته المهنية، شكلت الأنفاق والسدود والجسور محور اهتمام جيوفاني لومباردي، لكن معبر مضيق جبل طارق شكل التحدي الأكبر له، بينما كان يخطط للنفق الحديدي الذي سيربط بين قارتي إفريقيا وأوروبا، توصل المهندس إلى استحالة الاستفادة من المسافة الأقصر بين القارتين، بينما المسار الأمثل، كما اعتقده المهندس، هو الذي يربط بين مدينتي طريفة جنوب إسبانيا وطنجة شمال المغرب ويبلغ طوله 40 كيلومترًا ولا يزيد عمق البحر على 300 متر في المنطقة التي وقع الاختيار عليها.
لكن هذا ليس نفس المسار الذي فكر فيه المغرب وبريطانيا، إنهما يضعان نصب أعينهما تشييد نفق أو جسر بحري يربط الجزيرة البريطانية مع المملكة المغربية، يمتد على مسافة 20 كيلومترًا ويوحد البلدين، لا سيما أن هناك إيمانًا قويًا بجدوى هذا المشروع، أسوة بالنجاح الذي حققه الإنجليز والفرنسيون معا بإنشاء نفق حديدي عبر بحر المانش.
إلى الآن لم تتفق بريطانيا والمغرب على خطة واقعية لتجسيد مشروع الربط القاري، لكن فكرة ذلك النفق أو الجسر بين المغرب وجبل طارق ظلت موضوع مفاوضات منذ توقيع الاتفاقيات بين الرباط ولندن في 26 من أكتوبر/تشرين الأول 2019.
التفاف اقتصادي حول المستعمرتين
انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لا يعني خروج جبل طارق من منطقة شينغن، بل بقي هذا الجيب البريطاني جزءًا من اتفاقيات الاتحاد الأوروبي، ويعني ذلك أن الربط القاري سيحافظ للبريطانيين على خط مفتوح مع أوروبا، فانسحابهم من أكبر اتحاد في العالم لا يعني القطيعة، لكن التعاون يشهد تراجعًا ملحوظًا في وقت تبحث المملكة المتحدة عن شركاء اقتصاديين بدائل.
تبدو إسبانيا متوجسة من تراجع نفوذها في مضيق جبل طارق إذا تجسد حلم الربط القاري دونها، كما يعتبر مشروعًا تنمويًا على مقربة من مدينة سبتة وغير بعيد عن مليلية الخاضعتين لمدريد وتطالب بهما الرباط منذ عقود متسببة في توترات بين الطرفين من فترة إلى أخرى.
يؤكد المغرب باستمرار على مغربية المدينتين وحقه في استرجاعهما كجزء من ترابه الوطني، لكنه يسارع الخطى في إقامة مشاريع تنموية حول سبتة ومليلية، ما تراه إسبانيا التفافًا اقتصاديًا وإستراتيجيًا يخنق المستعمرتين، وربما سيكون المغرب قادرًا على إعادة مدينتيه مستقبلًا دون إطلاق رصاصة واحدة.