في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1911، حركت إيطاليا بدافع الأطماع التوسعية والمنافسة مع بريطانيا وفرنسا للسيطرة على شمال المتوسط، بوارجها الحربية تجاه طرابلس الغرب محملة بنحو 35 ألف جندي مدججين بمختلف أنواع الأسلحة، ومسنودة بالطائرات التي دخلت الخدمة لأول مرة في تاريخ الحروب، ورغم أن غزوها لاقى مقاومة شديدة من المناضلين (الحركة السنوسية)، فإن انتصارها وحلفائها في الحرب العالمية الأولى ووصول الفاشيين إلى السلطة مكنها من إحكام سيطرتها على البلاد.
الاستعمار الإيطالي لم يختلف كثيرًا عن الفرنسي والبريطاني، بل فاقهم في جرائمه الوحشية وانتهاكاته المروعة التي اعتمدت على وسائل جديدة للقمع والتنكيل كالإعدامات والتعذيب في المعتقلات الصحراوية التي راح ضحيتها عشرات آلاف المدنيين العزل.
استعمار وحشي
منذ أن وطئت أقدامهم أرض ليبيا، عمل الإيطاليون على ترهيب الليبيين بالحديد والنار من أجل إطفاء جذوة المقاومة والجهاد الأكبر الذي قادته بعض الشخصيات الوطنية والدينية كعمر المختار، كما تم نفي آلاف الليبيين إلى جزر الجنوب الإيطالي على أيدي قوات الغزو بعد أسابيع قليلة من نزولها إلى شاطئ طرابلس وتصدي المقاومة الليبية لها في معركة الشط والهاني في 23 و26 من أكتوبر/تشرين الأول 1911.
المستعمر الإيطالي وطيلة فترة الاحتلال (1911 – 1943) مارس ألوانًا وأشكالًا مختلفة من حملات الإبادة ضد المدن والأحياء الليبية التي قاومته، فقتل الأهالي واغتصب النساء وأعدم المواشي والأبقار والخيول والجمال ودمر آبار مياه الشرب والشجر والزرع وأحرق البيوت، وتشير بعض الوثائق التاريخية إلى سقوط 7 آلاف ليبي قتيلًا خلال 3 أيام في المنشية شرقي طرابلس الغرب و4 آلاف آخرين في مجزرة “شارع الشط”، فيما نفي آلاف الليبيين إلى الجزر الإيطالية المعزولة ولا يزال مصيرهم مجهولًا حتى اليوم.
لم تقف المآسي عند هذا الحد، بل طبق المحتل الإيطالي سياسة الحصار الشامل والقاتل بتجويع الليبيين وتعذيبهم في معتقلات معزولة بأسلاك شائكة (270 كيلومترًا) تنعدم فيها معاني الكرامة الإنسانية وتكثر فيها في المقابل الأمراض بأنواعها كالهزال والإسهال وأخرى ناجمة عن سوء التغذية وانتشار الأوبئة، لترتفع بذلك أعداد الموتى يوميًا إلى 150.
ووفقًا لمصادر تاريخية، فإن إجمالي المعتقلين بمعتقلات العقيلة والبريقة بلغ نحو 72 ألفًا، في حين يربو عدد المعتقلين في أكبر المعتقلات مساحة بسلوق التي تبعد 30 كيلومترًا جنوب غرب بنغازي على 36 ألف معتقل سكنوا 5393 خيمةً.
وفي معتقل المقرون القريب من بنغازي، تم القضاء على نحو 10 آلاف نسمة جراء سوء التغذية والتعذيب والإعدامات الجماعية، وشملت الأضرار البشرية ما يقارب 250 ألف متشرد هاجروا إلى مصر وتونس والجزائر وتشاد والسودان، كما ضمت المعتقلات الأربع الشهيرة: البريقة والمقرون وسلوق والعقيلة نحو 126 ألف معتقل مات منهم ما يقارب الثلثين أي نحو 90 ألف نسمة.
الإيطاليون ارتكبوا في ليبيا إبادة جماعية خلال عملية (Pacificazione) أي التهدئة أو إحلال السلم للاستيلاء على برقة، حيث أقام رجال موسوليني معسكرات اعتقال وقصفوا القرى وألقوا القنابل الغازية عليها من الجو، ونتيجة لذلك، تقلص عدد سكان ليبيا من 1.4 مليون نسمة عام 1907 إلى 825 ألفًا عام 1933، وتم إرسال العديد من الأيتام إلى معسكرات إيطالية لـ”إعادة التعليم”، وهو إجراء يهدف من ورائه الإيطاليون إلى تدمير النسيج الاجتماعي والاقتصادي والديني في منطقة برقة.
في هذا الشأن تقول الباحثة إينغريد باول: “ربما ما عانته ليبيا جراء الهيمنة الإيطالية عليها التي دامت 32 عامًا (1911 – 1943) لم تعانيه أي من الدول العربية في التاريخ الحديث”.
في مقابل ذلك، فإن الأخطر من القتل والتجويع، هو سعى المستعمر الإيطالي بعد أن نجح نسبيًا في قمع المقاومة الليبية بإعدام المجاهد عمر المختار في 1931، إلى تجريف البلاد اجتماعيًا وتغريبها ثقافيًا من خلال قوانين التجنيس وحملات الاستيطان المنظمة.
التجنيس والتغريب
في 9 من يناير/كانون الثاني 1939 أعلنت روما عن الضم التام لإقليمي طرابلس وبرقة إليها ومنح ساكنيها الجنسية الإيطالية، وتم ذلك بمباركة الأعيان وشيوخ الدين التابعين للزاوية الصوفية وبعض الخاضعين لسيطرتها منذ فترة.
قبل ذلك التاريخ، وبعد تراجع المقاومة بإعدام المختار، أدرك الحاكم الإيطالي الجنرال إيتالو بالبو أن عدد المعمرين في العشرين سنة الماضية لا يتجاوز بضعة آلاف، فقد حالت المقاومة دون تحقيق أهداف روما الاستيطانية، لتقرر الأخيرة إرسال عشرين ألف مستوطن في العام بحيث يصل عددهم إلى 500 ألف مستوطن عام 1950 أي ما يقارب عدد السكان الليبيين، وبالتالي فإن نصف المليون مستوطن سيتزايد باستمرار إلى أن يصبح السكان العرب أقلية في خدمة الأكثرية.
لذلك، عملت الشركات ونحو 10 آلاف عامل إيطالي و25 ألف عامل ليبي على إعداد قرى لاستقبال المستوطنين الجدد، وسرع النظام الفاشي خطواته لتحويل ليبيا إلى الضفة الرابعة الإيطالية، فيما أراد بالبو تعويض الزمن الذي استنزفته قواته في مواجهة المقاومة بتكثيف الهجرة وترسيخ الوجود الإيطالي وتحقيق الحلم الذي راود المستعمرين الإيطاليين منذ عام 1911، وقررت روما في هذه المرحلة، الإنفاق على توطين المعمرين في ليبيا واستقرارهم.
في شهر أكتوبر/تشرين الأول 1938، وصلت 17 باخرة إلى طرابلس ونزل المعمرون واجتمعوا في ميدان السرايا الحمراء وركعوا وقبلوا أرض وطنهم الجديد، حيث خصص لهم بالبو أراضي الجبل الأخضر بكاملها، في حين ترك للقبائل المنحدر الجنوبي من الجبل وهو إجراء يعني القضاء على قوت الليبيين لأن الأرض التي خصصت لهم لا تتوافر فيها المراعي دائمًا ولا الأمطار ولا المياه.
من هذا الجانب، يمكن القول إن ممارسات الاستعمار الفاشي على الشعب الليبي واستهدافه المباشر للنسيج الديموغرافي وتركيبة المجتمع عن طريق القتل وشنق الرجال والتنكيل بالنساء والأطفال والشيوخ ودفعهم إلى الهروب في الصحاري القاحلة واللجوء إلى البلدان المجاورة بعد نهب ممتلكاتهم ومصادرة أراضيهم، كانت تهدف بالأساس إلى إحداث تغيير جذري في بنية المجتمع الليبي واستبدال أصحاب الأرض بآخرين استقدمتهم من منطقة فينيتو Veneto وجزيرتي صقلية وسردينيا.
الاحتلال الإيطالي مارس أيضًا سياسة الفصل والتمييز العنصري بين الوافدين والمواطنين الأصليين في محاولة لإضعاف البناء الداخلي للمجتمع الليبي وتفكيكه، كما عمل على محاصرة النخب الوطنية الصاعدة وإجبارها على ترك البلاد واللجوء لدول الجوار قصد منع أي تأثير لهذه الطبقة على عامة الشعب.
بالإضافة إلى ذلك، بذل الإيطاليون جهودًا كبيرةً للقضاء على اللغة العربية باعتبارها الرابطة القوية ورمز الهوية الجامعة لأبناء البلد، فأغلقوا الكتاتيب والزوايا على اعتبار أنها أماكن تساعد على النشأة الدينية، في مقابل ذلك حرصوا على إقامة مرافق الترفيه وأكثروا من دور الدعارة وبناء الكنائس في البلاد ودعموا حملات التبشير والتنصير.
إن تأخر مشاريع ومخططات إيطاليا الاستيطانية في إقليمي طرابلس وبرقة يعود بالدرجة أولى إلى المقاومة، حيث لم يتجاوز عدد المهاجرين الإيطاليين في هذه المستوطنات الـ36 ألفًا كانوا يمثلون عبئًا على الخزينة الإيطالية نظرًا لعجزهم على العمل والإنتاج في ظل ضربات المجاهدين بقيادة عمر المختار.
من جهة أخرى، فإن الإصلاحات والأشغال التي أقامتها لجعل طرابلس وبنغازي شبيهة بالمدن الإيطالية، وتعميم استعمال اللغة الإيطالية في إطار مشروع “طلينة” المؤسسات والمجتمع، لم تجد الوقت الكافي، فالاحتلال الإيطالي لإقليمَي طرابلس وبرقة لم يدم بعد هذه الفترة بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) وهزيمة روما واستسلام غراتسياني للحلفاء وسقوط النظام الفاشي وإعدام موسيليني.
بالمجمل، يُمكن القول إن مرحلة الكولونيالية في ليبيا أثرت بشكل كبير على تركيبة المجتمع وتطوره، فالاستعمار الإيطالي الفاشي لم يتوان عن ممارسة سياسة الحريق المنتشر منذ دخوله تلك الأراضي، وهو أسلوب حمل ملامح التطهير الشامل بأبعاده الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وكذلك السياسية، فليبيا اليوم هي نتاج الاستعمار وتأثيراته المباشرة في نشوء وتشكيل هوية وطنية.