ترجمة وتحرير نون بوست
في قديم الزمان، عندما كان الفأر حلاقا، وكان الحمار ينجز بعض المهمات، وكانت السلحفاة تخبز الخبز، كان هناك جبل عظيم يسمّى “كاف داغي”، يقع على حدود مملكة الأرواح، منه انبثقت الكثير من القصص الخيالية والحكايات الشعبية المنتشرة في الشرق الأوسط.
اليوم، يُعتقد أن كاف داغي يقع في مكان ما في سلسلة جبال القوقاز التي تفصل البحر الأسود عن بحر قزوين. كان هذا المكان الأسطوري – المعروف أيضًا باسم جبل قاف باللغة العربية، و”كوه قاف” باللغة الفارسية – مسرحا للعديد من الحكايات الشعبية؛ مثل قصة الأمير الذي حوّلته إحدى الساحرات لغزال، وحكاية الفتاة الجميلة التي وُلدت من حبة برتقال، وقصص الجنيات والعفاريت مع السلاطين ورجال البلاط والعبيد والمزارعين.
تشكل القصص المتناقلة شفويا في هضبة الأناضول مزيجًا سرديا رائعا، فهي مستوحاة من قصص ألف ليلة وليلة ومن الحكايات الشعبية الكردية والفارسية والسلافية واليهودية والرومانية.
كان المؤرخ المجري إغناطيوس كونوس المتخصص في الحضارة التركية، من أوائل الأكاديميين الذين جمعوا ودوّنوا كنوز الفولكلور التركي في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وقد شبّه تلك الحكايات بـ”الأحجار الكريمة الضائعة بين ثنايا الفيلولوجيا، لأنه لم يكن هناك من يجمعها”.
كان كونوس قلقًا من أن تؤدي موجة الحداثة – خاصة السكك الحديدية – إلى تآكل التراث الثقافي في بلاد الأناضول. لحسن الحظ، بعد أكثر من قرن من الزمان، مازال ذلك الإرث الشفهي حيّا، وقد أطلقت تركيا مشروعا أكاديميا عملاقا باسم “ماسال“، يهدف إلى جمع 10 آلاف قصة شعبية وحفظها للأجيال القادمة.
يستطيع عامة الناس والأكاديميون من أقسام الأدب في الجامعات التركية المساعدة على جمع الحكايات الشعبية عبر إرسالها إلى بوابة “ماسال” الالكترونية، لتتم بعد ذلك مراجعتها من قبل عدد من الباحثين والأخصائيين اللغويين ضمن هذا المشروع الأول من نوعه في تركيا، والذي يموله مركز أتاتورك الثقافي.
تتكرر بعض العناصر السردية مثل البساط السحري والحيوانات والطيور الناطقة والمرايا السحرية بكثرة في هذه الحكايات
تتم فهرسة القصص وفقًا للمناطق التي جاءت منها، ووفقا لأنواعها: حكايات عن الحيوانات، حكايات عن السحر والحوادث الخارقة للعادة، حكايات واقعية، حكايات مضحكة.
غالبًا ما يكون هناك عدد من الروايات المختلفة للقصة الواحدة، مما يتطلب عمليات إحالة مرجعية لاكتشاف أسباب اختلاف الروايات بمرور الوقت، ومن منطقة إلى أخرى. على سبيل المثال، هناك عشرون نسخة مختلفة من قصة “تن تن كباجيك”، التي تروي حكاية فتاتين صغيرتين تخلى عنهم والدهما، وتركهما وحيدتين في موغلا.
ما إن تتم الموافقة على إحدى القصص المرسلة، فإنها تصبح جزءًا من قاعدة بيانات “ماسال” على الإنترنت، على أن تكون متاحة لعامة الناس في نهاية المشروع. حتى الآن، تم جمع أكثر من 3300 حكاية من 77 منطقة مختلفة، من بينها القصص والقصائد الكردية واللازية والأرمنية والشركسية المترجمة إلى اللغة التركية. ويأمل المشرفون على المشروع أن يتم الانتهاء من جمع العدد المطلوب بحلول شباط/ فبراير 2022.
تتكرر بعض العناصر السردية مثل البساط السحري والحيوانات والطيور الناطقة والمرايا السحرية بكثرة في هذه الحكايات. وعادة ما يكافؤ أبطال تلك القصص، ممن يصارعون التنانين وعمالقة جبل قاف، بالزواج من الأميرات الحسان في الحدائق الغناء. وعادة ما يأتي طائر العنقاء لينقذ البطل ويخرجه من المآزق.
سيمرغ، وهو مخلوق خيّر في الأساطير الفارسية، يعيد زال إلى عشّه. من ملحمة الشاهنامه (كتاب الملوك)؛ وهو أثر أدبي من القرن العاشر الميلادي، للشاعر الفارسي أبو قاسم الفردوسي الذي عاش من 940 إلى 1020 م.
يمكن أن تحمل تلك الحكايات جوانب سيئة أيضًا، حيث يلعب الخدم السود أو المغاربيون واليهود والمسنات دائما أدوارا شريرة؛ ويرجم الباشوات زوجاتهم البريئات بالحجارة، ويمزقون أعداءهم إلى أشلاء بالخيول، وقد يأتي عصفور ليخبر شابة جميلة أن الموت سيداهمها قريبا.
لعبت القصص الخيالية التركية دورا سياسيًا مهمًا خلال الأيام الأولى للجمهورية، عندما حاول مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك التخلص مما تبقى من تراث الإمبراطورية العثمانية ونقل البلاد إلى الحداثة.
بات يُنظر إلى الثقافة الشعبية في تلك الفترة على أنها عودة إلى الوراء، وأصبح المدافعون عن ذلك الإرث، مثل بيرتيف نيلي بوراتاف، هدفا للانتقادات من القوميين الأتراك في أربعينيات القرن الماضي.
يقول الكاتب التركي كايا جينيك، مؤلف كتاب “الأسد والعندليب: رحلة عبر تركيا الحديثة”، إن دراسات بوراتاف وشجاعته في الدفاع عن الإرث الثقافي كانت مصدر إلهام بالنسبة له.
ويضيف جينيك: “في الحكايات الشعبية، عادة ما يكون الأبطال غرباء يتحدّون عنف المستبدين الأقوياء. كانت فكرة التحدي تلك خطيرة بالنسبة للسياسيين”.
من جهته، يأمل محمد ناسي أونال، المحاضر في قسم اللغة والأدب التركي بجامعة موغلا صدقي كوتشمان، وأحد الباحثين في مشروع ماسال، أن يستوحي الأكاديميون والكتاب والفنانون من القصص الموجودة في قاعدة بيانات المشروع، في كتاباتهم للأجيال القادمة.
يقول أونال: “تُعلّمنا القصص الخيالية أن نتساءل ونستخدم العقل ونتحلى بالصبر؛ وتُعلّمنا كيف نحلم ونتغلب على العقبات والمخاوف؛ تُعلّمنا النضال، وأن نكون أناسًا صالحين ونحارب الشر، وأن نقول الحقيقة ونكشف عن الأكاذيب والخداع، وأن نقاوم، وأن نستمع للآخرين. تعد هذه القيم قيما إنسانية عالمية، فقد تتغير الأزمنة، لكن الإنسان يبقى كما هو”.
المصدر: الغارديان