قبل مئات السنين استولت فرنسا الاستعمارية على مجموعة من المناطق التي حولتها فيما بعد إلى أقاليم وإدارات تابعة لها خارج حدودها الأم، رغم معارضة القانون الدولي لهذه الممارسات، ورفض الشعوب الأصلية لتلك المناطق البقاء تحت حكم باريس.
ولعل أرخبيل كاليدونيا الجديدة في جنوب غرب المحيط الهادئ، يلخص هذه القصة بكل تفاصيلها، فقد شجعت باريس الفرنسيين على الهجرة إلى هناك لفرض الأمر الواقع ومنع السكان الأصليون من المطالبة بالاستقلال، حتى تتمكن السلطات الفرنسية من إنشاء كيان فرانكفوني جديد موالٍ لها.
في هذا التقرير الجديد ضمن ملف “جرائم فرنسا المنسية”، سنتحدث عن كاليدونيا الجديدة، التي يبلغ عدد سكانها 270 ألف نسمة، من بينهم الكاناك الأصليون الذين عانوا ذات يوم من سياسات الفصل العنصري الصارمة، فضلًا عن أحفاد المستعمرين الأوروبيين الذين ينعمون بخيرات الأرخبيل المتعددة، إلى جانب أقليات ترجع جذورها إلى الأقدام السوداء وجزائريي المحيط الهادئ.
خيبة أمل
بداية شهر أكتوبر/تشرين الأول من السنة الماضية، صوت الناخبون في كاليدونيا الجديدة لصالح بقاء الجزر النائية بالمحيط الهادئ تحت السيادة الفرنسية، وبحسب النتائج النهائية فإن 53.26% من الناخبين صوتوا ضد الاستقلال عن فرنسا في الاستفتاء الذي شهد نسبة مشاركة 85.6%.
الغريب أن كاليدونيا الجديدة التي تبحث مسألة إنهاء الاستعمار الفرنسي منذ عقود، صوتت مرتين ضد الاستقلال، كانت المرة الأولى سنة 2018، حيث صوت 56.7% من الناخبين لصالح البقاء فرنسيين، ولدعاة الاستقلال فرصة أخرى السنة المقبلة لإجراء استفتاء ثالث وأخير وفق ما تمليه اتفاقيات ماتينيون التي أبرمها ميشيل روكار رئيس الوزراء الاشتراكي الراحل عام 1988 واتفاقيات نوميا الموقعة في عام 1998 تحت رعاية ليونيل جوسبان رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق.
يعتبر الاستفتاء الأول والثاني علامة بارزة في جهود إنهاء الاستعمار الفرنسي للمنطقة، لكن لماذا رفض الناخبون الاستقلال، علمًا بأنهم سيرفضون في المرة الثالثة إن بقي الوضع في الأرخبيل على حاله، للإجابة عن هذا السؤال دعونا نتحدث أولًا عن كيفية استيلاء فرنسا على هذه المنطقة الغنية.
ارتبط اسم كاليدونيا الجزيرة بمستعمرة المنفيين، حيث جعلت فرنسا هذه الأراضي سجنًا تعاقب فيه المقاومين والمعارضين لنظامها الاستعماري
جزر عقابية
يقع هذا التجمع الخاص التابع لفرنسا في أوقيانوسيا في جنوب غرب المحيط الهادئ على بُعد 1210 كيلومترات إلى الشرق من أستراليا وعلى بُعد 16.136 كيلومتر إلى الشرق من الأراضي الفرنسية، وتبلغ مساحته 19 ألف كيلومتر مربع، أما عاصمته فهي نوميا.
في سبتمبر/أيلول 1774، وطئت قدما المستكشف البريطاني جيمس كوك هذه الأراضي وقد أسماها “كاليدونيا الجديدة” لأن شمال الجزيرة الشرقي ذكره بإسكتلندا، بعد ذلك بنحو قرن تحديد في سبتمبر/أيلول 1853، استولى الأميرال الفرنسي فيفرييه ديبوانت رسميًا على كاليدونيا الجديدة بأمر من الإمبراطور نابليون الثالث، ولم تكد تمر سنوات قليلة حتى استقر بعض المستوطنين على الساحل الغربي.
ارتبط اسم كاليدونيا الجزيرة بمستعمرة المنفيين، حيث جعلت فرنسا هذه الأراضي سجنًا تعاقب فيه المقاومين والمعارضين لنظامها الاستعماري، ونُفي إليها منذ ستينيات القرن التاسع عشر قرابة 22 ألف مجرم وسجين سياسي حتى إيقاف عمليات النفي سنة 189.
يعد هذا أكبر عدد من المدانين احتُجز في أي مستعمرة عقابية فرنسية فيما وراء البحار على الإطلاق، وقد كان من بين المدانين العديد من أعضاء كومونة باريس (الثورة الفرنسية الرابعة)، من بينهم هنري دو روشفور ولويز ميشيل.
تم استغلال هؤلاء لبناء المستعمرة الفرنسية الجديدة التي تبعد نحو 18 ألف كيلومتر عن العاصمة الفرنسية باريس، فقد كانت فرنسا تأمل في تحويل هذه المنطقة النائية إلى مستوطنة، من خلال استغلال الأرض التي لم تستطع شعوب المنطقة الأصليين الاستفادة منها.
إقصاء السكان الأصليين
سنة 1864، اكتُشف النيكل على ضفاف نهر دايهوت، ونشطت أعمال التنقيب عنه مع تأسيس “جمعية النيكل” سنة 1876، واستقدم الفرنسيون العمال للعمل في المناجم من الجزر المجاورة ثم من اليابان وجزر الهند الشرقية الهولندية والهند الصينية الفرنسية.
يمتلك الأرخبيل 11% من احتياطيات العالم من هذا المعدن الأساسي لتصنيع الفولاذ المقاوم للصدأ، لكن فضلًا عن النيكل تحتوي هذه الجزر على العديد من الموارد المعدنية الأخرى، على غرار الفحم والذهب والنحاس والرصاص والزنك والأنتيمون والكوبالت.
نتيجة ذلك، أعطت فرنسا أهمية لهذا الأرخبيل الذي يمكن أن يشكل مستقبلًا “نقاط دعم” لها في المحيط الهادئ، فله أن يكون مركزًا مهمًا للتجارة والملاحة ومحطة بحرية آمنة وقوية تضطلع بوظيفة مراكز الدعم بالنسبة للتجارة الفرنسية، ويمكن استغلاله للتزود بالوقود والإيواء.
هدف فرنسا من خلال التشجيع على هجرة الأوربيين إلى كاليدونيا الجديد لم يكن اقتصاديًا فقط كما تدعي، بل كان أيضًا سياسيًا
لكن هذا الدعم صعب أن يتحقق في ظل تواصل عيش السكان الأصليين في أراضيهم، لذلك أقصت سلطات فرنسا سكان البلاد الأصليين عن الاقتصاد، حتى إنهم أقصوا عن العمل في المناجم، وانتهى بهم الحال إلى وضعهم في أماكن عزل، رغم اندلاع ثورات عديدة مناهضة لهذا التوجه.
كما تركتهم يواجهون الموت دون تدخل، حيث قضى العديد من سكان كاليدونيا الجديدة الأصليين نحبهم جراء الأمراض المعدية التي جلبها الأوروبيون معهم كالحصبة والجدري، فانخفض عدد السكان من الكاناك من 60 ألفًا في سنة 1878 إلى نحو 27 ألفًا سنة 1921.
تغيير ديمغرافي
شجعت باريس على هجرة الفرنسيين والأوروبيين إلى هذه الأراضي، رغم أن الفرنسيين لم ينجذبوا كثيرًا للهجرة نحو كاليدونيا الجديدة، التي كانت أقل المستوطنات التابعة للإمبراطورية الفرنسية إغراءً من مجالات عدة.
وتأتي دوافع الهجرة من شعور السلطات الاستعمارية بالقلق من قلة عدد المستوطنين الذين يواجهون شعب “كاناك” رغم سياسات تشجيع الهجرة، ففي عام 1901 كان هناك 14200 أوروبي فقط من أصل 27 ألف و100 ميلانيزي.
وذلك على حساب السكان الأصليين المهلكين، الذين جُمعوا في محميات معزولة وأطلق عليهم لقب “القبائل”، لكن فرنسا فشلت محاولتها في البداية، فتحتم عليها تحويل الأرخبيل إلى مكان نفي أرسلت له المجرمين والمقاومين والمعارضين حتى يخدموا الأرض، فتحولت مستعمرة كاليدونيا الجديدة من أرخبيل نائي وغير مرغوب فيه إلى مستعمرة مزدهرة.
كررت فرنسا المحاولة عدة مرات، وشجعت كثيرًا على وصول المستوطنين الأحرار حتى لا يُثقل الأرخبيل من أولئك الذين تم تحريرهم من المستعمرة العقابية، ولا يصبح مرتعًا لمجرمين يصعب التحكم فيهم.
ويضاف إلى الأهداف الاقتصادية، دوافع سياسية أيضًا، فقد كان من الضروري زرع البيض في هذه الأراضي الجديدة حتى لا تخرج عن طوعها وتبقى تحت سيطرتها وإمرتها مهما حصل من السكان الأصليين.
لكن فضلًا عن التشجيع على الهجرة، عملت فرنسا على تهجير السكان الأصليين من خلال تدمير قراهم وقتل العديد من قادتهم لإرباكهم، إلى تسريع التبشير الديني والتنصير، واختفاء الجوانب العامة لحياة الأسلاف حتى يكون استيطانًا دائمًا.
ثورات الكاناك
هذا الوضع أدى إلى ثورة السكان الأصليين ضد المستعمر الفرنسي في أكثر من مرة، ففي سنة 1878 اندلعت انتفاضة عنيفة إثر نجاح الزعيم أتال، كبير زعماء لا فوا، في توحيد العديد من قبائل وسط البلاد، وكانت حصيلتها موت نحو ألف من الكاناك ومائتين من الفرنسيين.
وفي سنة 1917، انتفض شعب الكاناك ضد الإدارة الاستعمارية الفرنسية لكاليدونيا الجديدة، وانتهت الانتفاضة بموت ما يقرب من 200 (على الأكثر 300 إذا شملنا الستين أو نحو ذلك من السجناء الذين ماتوا في الأسر).
أما أحدث الثورات فقد كانت في الثمانينيات من القرن العشرين، حيث شهد الأرخبيل صدامات بين القوات الفرنسية والسكان الأصليين لهذه الجزر، وبلغت هذه الصدامات ذروتها عندما قتل الكاناك 4 شرطيين فرنسيين واحتجزوا 23 آخرين رهائن في أحد الكهوف، ما دفع فرنسا إلى شن هجوم عسكري أدى إلى مقتل 19 من شعب الكاناك وجنديين.
إثر هذه الانتفاضة، وُقعت اتفاقات نوميا في 1998 بين فرنسا ودعاة الاستقلال، وتمنح هذه المعاهدات حكمًا ذاتيًا واسعًا إلى الجزيرة الفرنسية منذ 1853 وتنص على عملية تدريجية لإزالة آثار الاستعمار، تفضي إلى استفتاء على حق تقرير المصير، لكن كان ذلك عندما ضمنت فرنسا بقاء الإقليم تابع لها بعد أن غيرت ديموغرافيته.
عملت فرنسا كثيرًا حتى لا تخسر هذه الجزر، فالموافقة على الاستقلال ستؤدي إلى خسارة فرنسا أهم أراضيها في المحيط الهادئ، وستؤثر على كبرياء القوة الاستعمارية السابقة التي امتد نفوذها يومًا إلى منطقة البحر الكاريبي وأجزاء كبيرة من إفريقيا وآسيا والمحيط الهادئ.