“لا تصالح ولو قلدوك الذهب.. مصر لن تتصالح مطلقًا مهما كان الثمن.. القطريون لا يعرفون معنى الوطن فهو في نظرهم حزمة من النقود وفقط”، شعارات رددها الإعلام المصري قبيل اتفاق المصالحة الخليجية الذي أُبرم على هامش قمة العُلا التي عقدت مؤخرًا بالسعودية.
“خير وبركة إنه يحصل مصالحة.. معندناش مشاكل مع أي شيء يحدث لصالح الأمة العربية.. يخطئ من يظن أن في السياسة حبًا وكرهًا”، تغير واضح في الخطاب الإعلامي بعد توقيع القاهرة ممثلة في وزير خارجيتها سامح شكري على اتفاق العُلا.
وما بين الخطابين، التحريضي والمتحفظ، يعاني الإعلام الرسمي المصري – والداعم له من الخاص – من أزمة حقيقية تتعلق بالتوجيه والإرشاد والأمر المباشر، تلك الأزمة التي باتت سمة رئيسية في تلك المنظومة التي فقدت مصداقيتها داخليًا وخارجيًا بصورة تلاشى معها تأثيرها المتوقع رغم ما تتمتع به من إمكانات وما يخصص لها من ميزانيات كبيرة.
حالة من الازدواجية والانقسام شهدها الإعلام المصري خلال الساعات التي سبقت وتلت القمة الخليجية التي جاءت على ما يبدو عكس هوى قطاع كبير من الإعلاميين الموالين لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، وهو ما يتضح من خلال ردود الفعل التي تعكس حالة من الارتباك والفوضى.. فماذا حدث؟
عنتريات عشية القمة
عشية القمة التي دُعي إليها الرئيس المصري شنت وسائل الإعلام المملوكة للشركات التابعة للمخابرات أو لرجال أعمال مدعومين وداعمين للنظام هجومًا شرسًا على الدوحة، مؤكدين أن التصالح معها درب من الخيال وأن الموقف المصري ثابت لا تغيير فيه.
التأكيد على ثبات الموقف المصري الرافض – بحسب إعلاميين – لأي مصالحة مع قطر، وصل إلى حد إعلان الإعلامي المقرب من النظام، أحمد موسى، على شاشة قناة “صدى البلد” المملوكة لرجل الأعمال محمد أبو العينين، عضو مجلس النواب، أن القاهرة لن تشارك في القمة.
موسى في برنامجه “على مسئوليتي” قال بالحرف الواحد عشية انعقاد القمة: “أحب أقولكم بوضوح، مصر مش هتصالح.. هتصالح مع مين، هتصالح على إيه.. بلد لسة بتتآمر علينا.. مصر غير مشاركة بكرة، مصر غير موجودة بكرة”.
وتابع “السعودية وقطر يتوافقوا محدش يتضايق، لكن أنا بالنسبة لي مصر الوضع مختلف عن أي حد، إحنا عندنا دم عندنا شهداء عندنا تآمر. إحنا بلد بناخد قرارات.. ما حدش بيضغط علينا ولا بنسمح لحد يضغط علينا، قراراتنا مستقلة واضحة.. آه إحنا مع أي مصالحة ولكن يبقى في نوايا صادقة”.
وفي المقابل عزفت بقية وسائل الإعلام الأخرى على الوتر ذاته، إذ لا يمكن لمصر التصالح مع دولة تتفنن في العداء مع مصر وتستهدف إسقاطها وتدعم الإرهاب وتموله، على حد قولهم، بل وصل الاستهزاء والسخرية حده الأقصى، كما جاء على لسان الإعلامي نشأت الديهي بأن “سكان نادي وادي دجلة أكبر من سكان قطر”.
الخطاب الموحد وتصعيد اللهجة بذات المفردات والشعارات يميل إلى أن الحملة الإعلامية كانت ممنهجة بامتياز في ضوء إعلام “السامسونج” الذي تلتزم به معظم النوافذ الإعلامية الداعمة للسيسي، وهو ما أرجعه البعض إلى عدم رضا السلطات المصرية عن الصيغة والكيفية التي سيخرج بها الاتفاق الذي لم تلتزم فيه قطر بالشروط الـ13 المفروضة عليها قبل ذلك من دول الحصار، كما أنه لم يحقق للقاهرة أي مكاسب مرجوة طيلة أشهر الحصار الأربعين.
القاهرة توقع على الاتفاق
وعلى عكس تأكيدات الإعلام المصري بعدم توقيع النظام على اتفاق المصالحة، جاءت مشاركة وزير الخارجية لتكذب هذا الخطاب بصورة واضحة، وهو ما كشفته الصفحة الرسمية لوزارة الخارجية المصرية على فيسبوك، التي أكدت مشاركة شكري في القمة وتوقيعه على “بيان العلا” الخاص بالمصالحة العربية.
البيان كشف أن التوقيع على البيان جاء في إطار الحرص المصري الدائم على التضامن بين دول الرباعي العربي وتوجههم نحو تكاتف الصف وإزالة أية شوائب بين الدول العربية الشقيقة، ومن أجل تعزيز العمل العربي المشترك في مواجهة التحديات الجسام التي تشهدها المنطقة.
الخارجية المصرية ثمنت كذلك “كل جهد مخلص بُذل من أجل تحقيق المصالحة بين دول الرباعي العربي وقطر، وفي مقدمتها جهود دولة الكويت الشقيقة على مدار السنوات الماضية” وهو الموقف الذي أعلنته القاهرة أكثر من مرة خلال الآونة الأخيرة حتى قبل توقيع الاتفاق.
أحدث هذا الموقف الرسمي حالة من الارتباك لدى وسائل الإعلام التي كرست جهودها على مدار الساعات السابقة لاستمرار الهجوم على الدوحة، فلأول مرة تخرج على الملأ عبارات الأخوة والصداقة والدم العربي الواحد وضرورة التوحد في مواجهة التحديات، إلخ من تلك الشعارات التي غابت عن الخطاب الإعلامي المصري منذ 5 من يونيو/حزيران2017.
انقسام في البيت الإعلامي
أمام هذه الوضعية الجديدة انقسم المشهد الإعلامي إلى قسمين: الأول غير لهجته بصورة كبيرة، متخليًا عن لغة التوبيخ والسخرية والهجوم، مؤكدًا على الثقة في قرار القيادة السياسية وضرورة الاصطفاف خلفها أيًا كانت الأهواء والتوجهات وبعيدًا عن الميل السياسي، فالقيادة أعرف بمصالح البلاد من أي أناس آخرين.. هكذا يعتقدون.
أما القسم الثاني فتمسك بموقفه على استحياء، غير رافض للخطوة المصرية التي يعتبرها جاءت وفق دراسة مستفيضة تحفظ للقاهرة ماء وجهها عبر الإيحاء بأن التوقيع إنما جاء على بيان يؤكد التزام قطر بالشروط السابقة، وهو ما نفاه وزير الخارجية القطري ومن قبله نظيره السعودي، ليجد الإعلام المصري نفسه في ورطة حقيقية، على الأقل أمام الملايين من متابعيه.
هذا الانقسام الواضح شوه أكثر مكانة الإعلام الرسمي لدى الشارع الذي فقد بوصلته في ظل التأرجح والانقلاب في المواقف الذي ينم عن فقدان المنظومة الإعلامية لاستقلالها، وهو الإحساس الذي حاول الكثير نفيه عبر العديد من الشعارات لكن ثبت تأكيده خلال الأيام الماضية.
ماذا حدث؟
الكاتب الصحفي المصري سليم عزور يعتبر أن التفاوت في الأداء الإعلامي إزاء المصالحة ليس كما يحلو للبعض أن يصفه بأنه مناخ إعلامي حر جديد تتمتع به مصر يسمح بالتغريد خارج سرب النظام الذي وقع بنفسه على الاتفاق، فالأمر أعمق من السطحية التي يتعامل بها البعض.
عزوز في مقاله المنشور في “القدس العربي” يرجع هذا التفاوت إلى اختلاف الرعاة، لافتًا إلى أن تمسك إعلامي كأحمد موسى بموقفه الرافض للمصالحة ليس تعبيرًا عن توجه شخصي له قدر ما هو استجابة لموقف مالك القناة الذي يسعى للضغط على الدوحة لتحقيق مكاسب أكبر.
أبو العينين، مالك القناة وأحد أكبر أصحاب مصانع السيراميك في مصر يسعى للحصول على جزء من التورتة بعدما خرج كبقية المصريين خالي الوفاض من الحصار، وعليه يسعى للضغط من خلال حملة الهجوم آملًا أن يكون ذلك بابًا للتواصل مع الدوحة وتقريب وجهات النظر عبر صفقة ما تعوضه عما أنفقه طيلة السنوات الثلاثة الماضية من تجييش لكل إمكانات القناة لخدمة النظام في موقفه من قطر.
أما حالة عمرو أديب ونشأت الديهي وكلاهما كانا من أشرس المهاجمين لقطر والرافضين للمصالحة قبل قمة العُلا، لكن سرعان ما تغيرت مواقفهما بصورة لافتة للنظر، فلا تحتاج لعناء التفسير طويلًا، فالأول يعمل في قناة سعودية “إم بي سي مصر” وعليه لا يمكن التغريد خارج سرب الرياض التي قادت الاتفاق، الأمر ينسحب على الثاني كذلك، الذي يعمل في قناة “TEN” الممولة إماراتيًا.
تساؤلات عن هذا التحول
محللون أشاروا إلى أن تكثيف الهجوم على الدوحة قبيل القمة الخليجية كان يهدف في المقام الأول لرفع سقف المطالبات للخروج بأكبر قدر من المكاسب، وحين لم يتحقق هذا الغرض انخفضت درجة حرارة الهجوم لا سيما في ظل ما أثير بشأن ضغوط مورست على القاهرة من الرياض وواشنطن لحضور القمة بعد الأنباء التي كانت تشير إلى عدم إرسال مصر لأي ممثل لها.
الهدوء الملحوظ في الخطاب الإعلامي يرجع كذلك للأجواء المغايرة التي بدت فيها القاهرة أكثر مرونة في التعاطي مع هذا الملف عكس بدايته، وهو ما يمكن قراءته من خلال حضور وزير المالية المصري حفل افتتاح فندق “سانت ريجيس” المملوك لشركة الديار القطرية في القاهرة، بحضور وزير المالية القطري ووزير الخزانة الأمريكي، وهي المرة الأولى التي يحضر فيها مسؤول قطري فعاليات افتتاح مشروع ما، وما كان يمكن للوزير المصري المشاركة إلا بضوء أخضر من السيسي.
انخفاض درجة حرارة التصعيد ضد الدوحة من جانب الإعلام المصري لا يمكن حصره في الضغوط الأمريكية السعودية فقط، فالقاهرة رغم انخراطها بشكل كبير في هذا المحور، لديها هامش نسبي من التحرك المنفرد بعيدًا عن أي إملاءات خارجية بحكم ثقلها الإقليمي والتغير الذي شاب الخريطة الإقليمية والدولية خلال السنوات الماضية، وهو ما يمكن ملاحظته من خلال التحركات الأخيرة التي جاءت عكس البوصلة الإماراتية كما في ليبيا على سبيل المثال.
البرغماتية المصرية في قراءة ملف الأزمة الخليجية كان عاملًا أساسيًا في تغير الموقف الرسمي ومن ثم الإعلامي، إذ استقر في يقين القاهرة أن استمرار المقاطعة مع قطر لن يعود بالنفع عليها، لا سيما أن دوافع هذه الخطوة باءت جميعها بالفشل، إذ نجحت الدولة صغيرة المساحة في تحقيق نجاحات دبلوماسية واقتصادية لم تحققها الدول الرباعية.
هذا بخلاف التداعيات الاقتصادية السلبية الأخرى، فالعمالة المصرية بقطر والاستثمارات القطرية في مصر، ومستوى التعاون التجاري بين البلدين، والارتدادات السياسية السلبية لهذا التحرك (داخليًا من خلال التشكيك في استقلالية القرار المصري أو خارجيًا من خلال الضغوط الحقوقية والسياسية).. كل هذه مسائل كان لها دورًا مؤثرًا في تحريك الموقف الرسمي المصري من المصالحة.
ورغم أن بعض المنصات الإعلامية المصرية لا تزال تعزف على ضرورة تقديم الدوحة ضمانات لإثبات حسن النوايا في القضايا الخلافية العالقة، كمبرر لإنهاء الخلاف وإبرام المصالحة، فإن البعض يرى أن إحراز تقدم في الملف الاقتصادي ربما يكون تعويضًا مقبولًا للجانب المصري عن الشروط الموضوعة سابقًا.
وفي المحصلة فإن الارتباك الذي خيم على المنظومة الإعلامية المصرية حيال التعامل مع “بيان العُلا” كان ضربة موجعة انتقصت بشكل واضح من استقلاليتها وأسقط القناع من على كثير من الوجوه التي كانت محل ثقة لقطاع كبير من الجمهور، وأعاد للأذهان مرة أخرى إستراتيجية “السامسونج” التي وضعت مصداقية تلك المنظومة على المحك بعدما فقدت تأثيرها – ولا تزال – يومًا تلو الآخر.