إنجلترا دولة متقدمة، من دول العالم الأول، وكانت الدولة الأهم في العالم، تقريبًا، قبل هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على هذه المسؤولية وهذا اللقب، وفي نفس الوقت، تعد تركيا واحدةً من دول العالم النامي. النامي هنا، بالمعنى الإيجابي للكلمة، والمعنى اللغوي الدال على القدرة على التطور، لا بالمعنى العام المرتبط بمؤشرات صندوق النقد الدولي، لكن تظل هناك فجوة كبيرة بين البلدين، في الوقت المعاصر على الأقل، وبالإقرار بهذه الفجوة، يكون استلهام لندن لخبرات أنقرة العسكرية مدعاةً للنظر والفحص.. فما القصة؟
على أعلى مستوى
قد يكون الاهتمام البريطاني بالمنجز العسكري التركي، وبالأخص الطائرات المسيرة، نابعًا من المستويات الإعلامية أو المستويات التحليلية، كتلك المرتبطة بدوائر البحث الإستراتيجي، وفي هذه الحالة يكون الاهتمام مفهومًا ومتوقعًا وبديهيًا، لكن ما نتحدث عنه يختلف كثيرًا عن هذه المساحة، فالاهتمام والثناء قادم رأسًا من وزارة الدفاع البريطانية، من الوزير تحديدًا.
في تصريحٍ رسمي تناقلته كثير من وكالات الأنباء، منذ نحو ستة أشهر، قال وزير الدفاع البريطاني بن والاس، إنه يرى الدور الذي قامت به الطائرات المسيرة العاملة في صفوف القوات الجوية التركية، خلال هذا التوقيت، بأنه “تغيير لقواعد اللعبة” في الساحة الدولية.
بالنظر إلى هذا التصريح، يمكن استشفاف أن الوزير يتحدث عن الدور الذي أدته هذه المسيرات في العمليات التركية ضد الجماعات الكردية المسلحة، شمال العراق وسوريا، وضد قوات خليفة حفتر والنظام السوري، على التوالي مطلع عام 2020، باعتبارها سلاحًا غير تقليدي، اعتمدت أنقرة عليه بكثافة في هذه الجولات العسكرية بشكل مباشر أو عبر إسناده لحلفائها.
توصيات وزير الدفاع البريطاني لكوادره الفنية والهندسية، تحولت إلى خطة عمل، خلال الـ5 سنوات القادمة، لتطوير سلاح الطائرات المسيرة، بالاستفادة من التجربة التركية
منذ يوليو/تموز الماضي، وقت إطلاق هذا التصريح، وحتى ديسمبر/كانون الثاني مرت ستة أشهر أخرى، كانت كافية ليعود نفس المسؤول بنفس التصريح لكن في سياق آخر، هو نقاش مع مسؤولين رسميين في سلاح الجو البريطاني لبحث تطوير الجوانب الفنية لهذا الجانب في جيش بلاده، قال خلاله إن تركيا نجحت في تطوير مسيراتها، رغم الضغوط الخارجية التي تعرضت إليها، بإمكانات بشرية وفنية مستقلة تقريبًا، في مجال تخلف عنها فيه أقرانها الأوروبيون، حيث تتسم تلك المسيرات بالعملية والكفاءة والثمن المناسب والقدرة على أداء معظم المهام: الرصد والاستهداف لمقرات ومواقع ثمينة لخصومها.
لم ينته العام، حتى قالت صحيفة “الغارديان” البريطانية، إن توصيات وزير الدفاع البريطاني لكوادره الفنية والهندسية تحولت إلى خطة عمل، خلال الـ5 سنوات القادمة، لتطوير سلاح الطائرات المسيرة، بالاستفادة من التجربة التركية، وبالأخص بعد ما أظهرته هذه الوسائل من تفوق ملحوظ في معارك أنقرة الأخيرة، ولم تقل الغارديان، ما إذا كان سيحدث اتصال فني مباشر بين البلدين حيال هذه المسألة، مكتفيةً بالثناء على المعدات التركية، لكن، كما سنوضح، فإن مؤشرات أخرى مهمة تصب في هذا الاتجاه.
تقديرٌ متواتر
رغم المضمون الإيجابي لتصريحات وزير الدفاع البريطاني حيال تطور المسيرات التركية، فإنه لم ينجح في إخفاء ما يمكن تسميته بـ”خيبة الأمل” جراء تفرد تركيا في هذا المجال الواعد، رغم الصعوبات والتحديات التي تواجهها، مقابل تقاعس الدول الغربية التي يمكنها الحصول على التكنولوجيا والتمويل بشكل أسهل من تركيا التي كثيرًا ما تتعرض للنبذ الأوروبي، عن الوصول إلى نتائج مشابهة، وهي “مشاعر”، إن جاز التعبير، متضاربة يمكن رصدها من أكثر من اتجاه مؤخرًا.
ففي نهاية يوليو/تموز الماضي، وصفت صحيفة “فيلت” الألمانية، المسيرات التركية بأنها تحقق ثورةً في مجال الحروب، وأنها نجحت في تغيير موازين القوى العسكرية في الشرق الأوسط لصالح تركيا بشكل ملحوظ، مشيرة إلى أن تركيا، تنظر إليها خارجيًا، باعتبارها عاملًا جاذبًا للمستوردين، بما يعني مزيدًا من التسويق والدعاية للآلة العسكرية التركية، وبالأخص الزبائن من الدول الحليفة لتركيا، وهي دول قد تفكر في استخدام هذه الأسلحة الرخيصة والفتاكة ضد القوى الكبرى، على حد وصف الصحيفة، مقدرةً أن الخبرة التركية العملية في هذا المضمار ستسرع من مشاريع تطوير هذا السلاح عالميًا.
فيما قالت “Tagesschau” الألمانية أيضًا، وبشكل صريح، إن وسائل الدفاع الجوي الأوروبية قد لا تستطيع الصمود أمام المسيرات التركية بما تمتلكه من قدرات فنية وخبرات عملية.
رغم التكنولوجيا فائقة التطور في المسيرات الأمريكية، فإن سعرها باهظ وغير مجربة إلا في نطاق عمليات الاغتيال
ومنذ نحو 5 شهور تقريبًا، وجهت السيدة إلهام أحمد، رئيس الهيئة التنفيذية لمجلس سوريا الديمقراطية، الذراع السياسي لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) استغاثةً وتحذيرًا، لكل من الولايات المتحدة وروسيا، بسبب تخوفها من توسع تركيا في استخدام هذه المسيرات المتطورة ضد عناصر هذه التنظيمات، دون الحاجة إلى شن عمليات عسكرية موسعة تعرضها للانتقادات الخارجية.
بريطانيًا أيضًا، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قدرت “فايننشال تايمز” أن تركيا لم تصل إلى الثلاثي الكبير في هذا المجال، أمريكا والصين و”إسرائيل”، وحسب، وإنما نجحت في مقارعة هذا الثلاثي، بعد جهود وطنية متصلة لمدة 20 عامًا، أدت إلى تقليص اعتمادها على الغرب ومنح مزيد من الثقة في صناعتها الوطنية، وهو نفس المضمون الذي أوردته صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية، منذ أسبوعين فقط، مشيرةً إلى أنه، رغم التكنولوجيا فائقة التطور في المسيرات الأمريكية، فإن سعرها باهظ وغير مجربة إلا في نطاق عمليات الاغتيال، إذا ما قورنت بالمسيرات التركية، رخيصة الثمن، التي أثبتت جدارتها في كل المناطق التي عملت بها.
بيرقدار وقره باغ
رغم أن تركيا تمتلك بالفعل عدة طرازات مختلفة من الطائرات المسيرة، تعد “أنكا” من أشهرها، فإن كل التصريحات الرسمية والتقارير الصحفية السابقة كانت تسلط الضوء على “بيرقدار” على وجه الخصوص، باعتبارها درة صناعة المسيرات التركية والسلاح الأخطر في ترسانتها من هذه التقنية.
يرجع ذلك في الأساس، وفق تقدير وزير الدفاع البريطاني، إلى كونها سلاحًا عمليًا، تستغني تركيا في حضوره، إلى الآن، عن سلاح الجو التقليدي تقريبًا، بما يمثله من ثقل بشري ومالي وفني قد يكون مهددًا في المعركة، مع استخدام كمي لمسيرات “بيرقدار” التي تؤدي أدوارًا متنوعة، رصدًا وقصفًا، على مدار الساعة، في معظم الظروف الجوية غير الاستثنائية، مع هامش خطأ غير مؤثر، بالنظر إلى غياب العنصر البشري عن الصورة وانخفاض قيمتها المالية التي تتراوح بين مليون إلى مليوني دولار أمريكي في أقصى تقدير.
وقد رفعت أنقرة عدد مسيرات “بيرقدار” العاملة لديها، التي سميت بهذا الاسم، نسبة إلى مطور المشروع وصهر أردوغان، سلجوق بيرقدار، من 38 طائرة إلى 94 طائرة، في الجيش والشرطة، خلال الثلاثة أعوام الأخيرة، كما استطاعت تسويقها لكل من قطر وتونس وأوكرانيا، مع احتمال تسويقها لدول أخرى من الجانب الآسيوي المسلم مثل إندونيسيا.
المحك الأخير الذي فجر كل هذه الإشادات والمخاوف، من مسيرات بيرقدار التركية كان معارك قره باغ التي اندلعت بين أذربيجان وأرمينيا نهاية سبتمبر/أيلول الماضي. لم تكن هذه المعارك حربًا قياسية بين دولتين عظميين، ولم تكن أذربيجان مسلحة بهذا النوع من المسيرات فقط، ولم تكن أرمينيا مؤهلةً للتعامل مع خطر المسيرات بشكل جيد، بالنظر إلى اعتمادها على مصدر واحد لمنظومات الدفاع الجوي وافتقادها لسلاح المسيرات، بما يعني عدم تقديرها لأهميته، لكن “بيرقدار تي بي 2” ساهمت بشكل نوعي في ترجيح كفة باكو في هذا الصراع التاريخي بشكل لا تخطئه عين ولم يكن ممكنًا قبل وجودها.
ما حققته تركيا في القوقاز، من إنجازات عسكرية واقتصادية ومعنوية وتاريخية، خلال عام 2020، كان نتاجًا لصمودها في وجه التحديات المالية التي واجهتها عام 2019
أكد الرئيس الآذري إلهام حيدر علييف على هذه الحقيقة في مناسبات كثيرة، بشكل منفرد ومع التليفزيون التركي وبرفقة الرئيس أردوغان، مقدرًا أنها ساهمت في تكبيد الجيش الأرميني خسائر تصل إلى مليار دولار.
تظهر هنا الجدوى الاقتصادية لاستخدام المسيرات بشكل عام، وبيرقدار بشكل خاص، إذا كان المجال متاحًا لذلك. وبشكل رقميٍ، يقدر مايكل كلارك الأكاديمي في المعهد الملكي للأبحاث العسكرية، أن هذا الطراز ساهم في تكبيد أرمينيا 224 قطعة من سلاح رئيسي واحد، هو سلاح الدبابات، مقارنة بـ36 قطعة فقط، فقدتها أذربيجان من نفس النوع.
ما حققته تركيا في القوقاز، من إنجازات عسكرية واقتصادية ومعنوية وتاريخية، خلال عام 2020، كان نتاجًا لصمودها في وجه التحديات المالية التي واجهتها عام 2019، وارتكازًا على ست مقومات هي: الهوية الوطنية والتقاليد المؤسسية والبنية التحتية العسكرية والقدرة على النمو الاقتصادي والكتلة السكانية الكبيرة والقوة الدبلوماسية، وفقًا لتحليل استشرافي قديم نسبيًا للخبير نوزت شاغيليان، أشار إليه مطلع العام الماضي تعليقا على أداء المسيرات التركية في مناطق أخرى، قبل اندلاع حرب قره باغ فعليًا.
ماذا تريد بريطانيا؟
منذ نحو أربعة أعوام، لعب السفير البريطاني في تركيا، ريتشارد مور، دورًا مهمًا في تجنيب بلاده خطأ المسارعة في مباركة الانقلاب العسكري الفاشل ضد حكومة أردوغان المنتخبة، مقارنةً بدول أخرى أيدت الانقلاب أو اكتفت بالوقوف على الحياد، وذلك عبر تقديره للأمور على الأرض، وترتيبه لقاءً سريعًا بين الرئيس التركي ووزير الخارجية البريطاني آنذاك بوريس جونسون.
طيلة الوقت، تنظر أنقرة ولندن إلى بعضها البعض، باعتبارهما منبوذين من الاتحاد الأوروبي بشكل أو بآخر، فالأولى تسعى إلى الانضمام للاتحاد بلا فائدة، والثانية تصبو إلى الخروج من الاتحاد، وفي خضم ذلك الوضع، تسرع لندن إلى التقارب مع أنقرة، كلما تخلت عنها واحدة من الدول الأوروبية الكبرى.
على سبيل المثال، وقع البلدان اتفاقيةً عسكرية نهاية 2017، تساعد إنجلترا بموجبها تركيا في إنتاج محركات طائرة الجيل الخامس لديها، عقب أزمات بين ألمانيا وتركيا.
المستقبل مفتوح أمام البلدين، لمزيد من التوسع الاقتصادي، سواء في تطوير اتفاقية التجارة الحرة الموقعة مطلع هذا الشهر أم في مواضيع عسكرية مثل استفادة تركيا من خبرة بريطانيا في صناعة محركات الطائرات والدبابات
في الوقت الحاليّ، بات جونسون رئيسًا للوزراء، ومور ذراعه الأيمن في المخابرات البريطانية، وترى لندن التي خرجت من الاتحاد الأوروبي مؤخرًا، أنه لا مبرر حقيقي للضيق من طموحات تركيا في شرق المتوسط وليبيا، لأنها باتت قوةً حقيقيةً تقف على تخوم أوروبا والأطلسي وروسيا والمتوسط وإيران، كما عرضت لندن أن تزود أنقرة ببدائل للكاميرات المتطورة التي أوقفت كندا تصديرها لتركيا إثر استخدامها على متن مسيرات “بيرقدار” في معارك قره باغ الأخيرة، لكن تركيا نجحت في صناعتها محليًا، وفقًا لتحليل للكاتب الروسي فلاديمير دانيلوف.
وفقًا لهذا التحليل، فإن المستقبل مفتوح أمام البلدين، لمزيد من التوسع الاقتصادي، سواء في تطوير اتفاقية التجارة الحرة الموقعة مطلع هذا الشهر أم في مواضيع عسكرية مثل استفادة تركيا من خبرة بريطانيا في صناعة محركات الطائرات والدبابات، وخاصة في مشروعات المقاتلة “تي إف إكس” والدبابة “ألتاي”، مقابل حصولها على دعم تركي في صناعة المسيرات العملية المشابهة لبيرقدار، حيث تصنع بريطانيا بالفعل طائرات مسيرة لكنها ملائمة لأغراض أكثر تقدمًا، بالإضافة إلى العمل في أوكرانيا، معًا، ضد روسيا، حيث من المنتظر نشر قوة بريطانية في أحد الموانئ الأوكرانية على البحر الأسود، وهي منطقة نفوذ متشابك بين أنقرة وموسكو.
إلى هنا، يمكن فهم سياق التصريحات البريطانية الرسمية الأخيرة، وما أحدثته البيرقدار من إنجازات عسكرية، بأقل تكلفة ممكنة، في بيئات مختلفة، خلال مدة قصيرة، خاصة في القوقاز، لكن السؤال: كيف سيكون الحال، عندما تبدأ أنقرة الإنتاج الكمي لطائرات “بيرقدار أقنجي“، التي تعد من فئة “بيرقدار” أيضًا، لكنها نسخة أكثر تطويرًا، من حيث التصميم والمحركات والذكاء الاصطناعي والرصد وحمولة التسليح والاعتماد على الخبرات الوطنية والتقييم السعري العام؟