ترجمة وتحرير: نون بوست
شهد سعر العملة المشفرة بيتكوين ارتفاعا صاروخيا ليتضاعف ثمان مرات منذ آذار/ مارس الماضي، حيث كان سعر الوحدة خمسة آلاف دولار، ليتجاوز هذا الأسبوع أربعين ألف دولار.
باتت هذه العملة المشفرة واحدة من أفضل الأدوات المالية أداءً منذ تفشي جائحة كورونا، ومن المؤكد أن من بادروا بشراء البيتكوين مع انطلاق هذه الأزمة ينتابهم الآن شعور رائع. ولكن الوضع الحالي يترك الجميع في حيرة من أمرهم بشأن ما يتوجب فعله في المستقبل.
هل يجب على مالكي هذه العملة بيع ما لديهم أم شراء المزيد؟ قد يفكر البعض في البيع ولكن الكمية التي يمتلكونها ليست كبيرة جدا ولا تستحق العناء. هل أن الارتفاع الأسي في ثمن البيتكوين هو علامة أخرى على انفجار حمى المضاربات في الأسواق؟ أم أنه من الأعراض الجانبية لعملية المبالغة في تقدير قيمة منتجات قطاع التكنولوجيا الأمريكية، وفي النهاية سوف تختفي هذه الحمى ويثبت أن البيتكوين ليست لها قيمة في حد ذاتها، ليصبح سعرها صفر دولار أو أكثر بقليل؟ لفهم هذه الفكرة، تخيل شركة تسلا ولكن من دون إنتاج فعلي للسيارات.
قد تكون هذه الظاهرة بعضًا من كل هذه الفرضيات والظواهر، بمعنى أنها ليست مجرد حمى شراء غير منطقي قد تنهار فجأة، مثل فقاعة زراعة وبيع زهور التوليب في أوروبا في وقت سابق، ولكنها في نفس الوقت لا ترتقي إلى كونها استثمارا موثوقا وتقليديا مثل الذهب.
هناك أسباب وجيهة وواضحة تدعو إلى الاستثمار في شراء الذهب، إذ أن كل التوقعات تشير إلى ارتفاع معدلات التضخم في المستقبل، لذلك فإن كثيرين يرغبون في امتلاك ثروة حقيقية يمكنها أن تصمد أمام الهزات والمفاجآت، ولا تتأثر بالتضخم الناجم عن طباعة الأوراق المالية واستمرار إعادة تقييم العملة، الذي يحدث في فترات انخفاض سعر الفائدة، حيث تسعى الحكومات للإبقاء عليه عند مستوى أقل من مستوى التضخم، من أجل خفض القيمة الحقيقية للديون المتراكمة عليها، وفي تلك الفترات يعلم الجميع أنهم في حاجة إلى ملاذ آمن. ولكن في نفس الوقت لم تعد الحلول التقليدية مثل السندات الحكومية تمثل خيارا موثوقا.
هذا يقودنا إلى الذهب، وهو الاستثمار الذي ظل على مدى ثلاثة آلاف عام قادرا على حماية القدرة الشرائية لمالكيه. ولهذا لا عجب أن سعر الذهب ارتفع بنسبة تقارب 40 بالمئة منذ بداية 2018.
التزود بالبيتكوين محدود ولا مجال للمرونة أو التغيير
يستثمر الناس في شراء الذهب لعدة أسباب، وليس فقط لتجنب أضرار التضخم. هناك فكرة أخرى مطروحة، وهي إمكانية أن تكون عملة البيتكوين أفضل حتى من الذهب؟ هذا ما يعتقده مدراء مؤسسة سكاي بريدج الاستثمارية التي دخلت حديثا مجال الاستثمار في البيتكوين. ويوضح هؤلاء أن عرض الذهب ليس ثابتا بشكل مستمر، حيث أن إنتاجه يتزايد بنسبة 1.25 بالمئة سنويا مع تزايد عمليات التنقيب والبحث. كما أن تخزين الذهب مكلف وعملية نقله محفوفة بالمخاطر والصعوبات، ويمكن بسهولة أن تتعرض استثمارات شخص من الذهب إلى المصادرة، كما أنه يصعب تقسيمه بين مالكيه.
أما العملة المشفرة بيتكوين فهي لا تتضمن أي من هذه المشاكل. فالتزود بالبيتكوين محدود ولا مجال للمرونة أو التغيير (هناك فقط 21 مليون قطعة نقدية مشفرة سوف تتواجد في العالم). كما يمكن إرسال البيتكوين بنفس سهولة إرسال بريد إلكتروني، (بشرط أن لا تنسى الأرقام السرية التي تسمح لك بالتصرف في حسابك). بالإضافة إلى ذلك، فإن البيتكوين عصية على المخترقين، وقابلة للاستبدال بالأموال النقدية، ويمكن التأكد من سلامتها بسهولة، وهي عملة مستقلة تماما عن الحكومات، ويمكن تقسيمها بين الأفراد والشركات بكل سهولة.
كما أن التحويلات المالية لعملة البيتكوين دائمة ولا يمكن التلاعب بها، ولا توجد أي مؤسسة أو جهة يمكنها مسح سجلات هذه التحويلات. وتجدر الإشارة إلى أن عملة البيتكوين هي من الظواهر المرتبطة بالجيل الجديد، جيل الألفية الثالثة. وهي تمثل انتقالا في عملية تداول والتحكم في الثروة، وسوف يتزايد الاعتماد عليها خلال العشرين أو الثلاثين سنة المقبلة، حيث ستكون الأموال في يد الأشخاص الأقل سنا، وستحظى العملات الرقمية بالتفضيل على حساب الأموال التقليدية والذهب.
كل هذه الحجج تجعل التفكير في البيتكوين يبدو أمرًا منطقيا جدًا. وفي الواقع، إن محللي مؤسسة سكاي بريدج ليسوا الوحيدين الذين يدافعون عن هذا الرأي. إن الدافع الأكبر وراء الارتفاع الأخير في سعر البيتكوين هو اعتراف الكثير من المؤسسات الرسمية بها، بما أن صناديق الاستثمار ورجال الأعمال بدؤوا يتوجهون نحو البيتكوين وينظرون لها كخيار شرعي لتنويع محفظاتهم الاستثمارية.
شهدت المملكة المتحدة تطورات هامة في هذا الإطار، حين أعلن المستثمر جوناثان رافر في نهاية السنة المنقضية أنه سيخصص 2.5 بالمئة من صندوقه الاستثماري “رافر مالتي ستراتيجيز” لشراء البيتكوين. ويمكن اعتبار أن الأوضاع الاقتصادية الحالية، التي تتميز بسطوة السياسات المالية الحكومية، وتضخم الدين العام، وحالة الاحتقان ضد السلطة، كلها عوامل توفر البيئة المثالية للإقبال على شراء نوع من الأصول يجمع بين مميزات التكنولوجيا والذهب.
يتساءل من يفكرون بشراء البيتكوين حول حجم الثراء الذي قد يحققونه من هذا الاستثمار. ويرى أكبر المتفائلين أن قيمة البيتكوين سوف تناهز قيمة سوق الذهب في الوقت الحالي، حيث أن سعر كل الذهب الموجود فوق الأرض حاليا يبلغ 12 تريليون دولار. جعل هذا التقدير بنك جي بي مورغن يعتبر أن السعر طويل المدى للبيتكوين يمكن أن يصل إلى 146 ألف دولار، أما مستثمر العملة المشفرة تايلور وينكيلفوس فهو يضع هذا الرقم عند 500 ألف دولار، بل ويقول إن هذا التقدير يبقى حذرًا ويمكن للسعر أن يتجاوز هذا الرقم إذا أصبحت البيتكوين عملة منافسة للذهب، وباتت في النهاية مستخدمة كشبكة للدفوعات المالية عوض أن تكون مجرد استثمار يشتريه المرء ويخبئه للمستقبل في انتظار ارتفاع سعره.
لا تحتاج هذه العملة المشفرة إلى التمتع بالندرة التي تجعل كثيرين مولعين بها فقط، بما أن الندرة بمفردها لا تمنح قيمة للأشياء
هذه الفرضية كانت لتبدو سخيفة قبل سنة واحدة. ولكن الآن، تزايدت مبادرات المؤسسات التي تتجه نحو الاستثمار في العملة المشفرة. خلال السنوات الماضية، تمكنت البيتكوين من تجاوز العديد من العقبات، إذ أنها وصلت إلى السعر الحالي دون أن يقع منع حظرها من قبل الحكومات. كما حازت على قبول المؤسسات المالية، وهو ما يعني استبعاد فكرة حظرها في المستقبل. وقد حافظت على مكانتها في صدارة العملات المشفرة، وكذّبت كل المشككين الذين اعتبروا أن قيمتها سوف تصل في النهاية إلى الصفر.
ولكن يبقى المشكل أن كل هذه المميزات لا تعطي للبيتكوين قيمة ذاتية. ولهذا السبب، لا تحتاج هذه العملة المشفرة إلى التمتع بالندرة التي تجعل كثيرين مولعين بها فقط، بما أن الندرة بمفردها لا تمنح قيمة للأشياء، بل يجب أيضًا أن يكون هناك المزيد من المستثمرين النشطين، والمزيد من السيولة والمبادلات بالاعتماد عليها، لتحوز على المزيد من القبول.
وسط كل هذه الحسابات والاحتمالات، أنا شخصيا أفكر في شراء القليل من البيتكوين، دون أن أستثمر مبلغا ضخما جدا يؤدي لتدمير وضعي المالي إذا انهار سعرها، أو صغيرا جدا لأشعر بالندم عندما يصل سعرها فعلا إلى 500 ألف دولار.
لا تزال الارتفاعات المذهلة التي سجلتها البيتكوين خلال الأسابيع الماضية تثير القلق بشأن كونها مجرد حمى مضاربات. وهناك أيضًا موجات غضب على شبكات التواصل الاجتماعي ضد بعض محللي هذه الظاهرة، وتساؤلات حول السبب الذي يجعل البعض يتوقع أن تبلغ قيمة البيتكوين 146 ألف دولارا بالضبط، وليس 150 مثلا. وما يثير القلق أيضا هو تذبذب أسعار عملات مشفرة أخرى، مثلما حدث في منصة كوينبايز يوم الأربعاء الماضي.
أمام كل هذه الحسابات، فإن الخيار الأفضل بالنسبة لي من أجل التوقي من التضخم المالي خلال الفترة المقبلة سيكون الذهب، لسبب وحيد وهو أنه ليس استثمارًا حديثًا. أنا أشعر بالقلق حيال السنوات القليلة المقبلة، وأريد حماية محفظتي الاستثمارية بالاعتماد على منتج موجود منذ آلاف السنين ومعروف بأنه مضمون. ومع توجه أغلب اقتصاديات الدول نحو التعافي في الفترة المقبلة، فإن سعر البيتكوين لن يشهد نفس الارتفاع الذي شهده سابقا
المصدر: فايننشال تايمز