من منا لم يحلم يومًا بأن تختفي بعض ذكرياته المؤلمة أو أن تتحول على الأقل إلى ذكريات مبهجة أو حتى ذكريات أقل ألمًا، ربما شاهد البعض فيلم “Eternal Sunshine of the Spotless Mind” الذي قررت فيه بطلة الفيلم الذهاب إلى مركز طبي لإزالة جميع ذكرياتها المتعلقة بحبيبها السابق حتى تنساه تمامًا.
وأيضًا في فيلم “Men in Black” يستخدم عملاء سريون لوكالة تعمل مع المخلوقات الفضائية جهازًا يمحو ذاكرة كل من شاهد المخلوقات الفضائية أو أعمال المنظمة، هذه الأفلام في وقتها كانت تُصنف من أفلام الخيال العلمي، لكن يبدو أن الخيال قد يصبح حقيقة.
أنواع الذاكرة
تنقسم الذاكرة إلى قسمين رئيسيين: ذاكرة قصيرة المدى وذاكرة طويلة المدى، ترتبط الذاكرة قصيرة المدى بالذاكرة العاملة حيث نحتفظ بالأشياء لمدة قصيرة قبل أن نقرر نقلها إلى الذاكرة طويلة المدى أو إزالتها تمامًا.
أما الذاكرة طويلة المدى فهي ذاكرة أكثر تعقيدًا نخزن فيها مختلف المعلومات والتجارب الحياتية وتتكون هذه الذاكرة من عدة أجزاء أهمها: الذاكرة التقريرية وهي تلك التي تتضمن الحقائق والمعلومات والذكريات التي يمكننا أن نتحدث عنها ونعترف بها.
أما الذاكرة الضمنية أو الذاكرة غير التقريرية هي الذاكرة غير الواعية التي نستخدمها لفعل الأشياء عن ظهر قلب مثل تعلم القيادة، هذه الذاكرة تستخدمها بشكل جيد للغاية لكنك لا تستطيع الحديث عنها غالبًا، تتضمن أيضًا هذه الذاكرة غير التقريرية الذكريات العاطفية التي ترتبط بأحداث قديمة لا نتذكرها لكننا نتذكر المشاعر المرتبطة بها مثل الخوف من حيوان ما أو الوصول إلى مزاج جيد عند شمّ رائحة ما.
هل يمكننا تعديل الذاكرة؟
يرتبط اضطراب كرب ما بعد الصدمة بالعواطف المتعلقة بحدث ما تسبب في إحساسنا بمشاعر قوية للغاية وسلبية كالحزن أو الخوف مثلما يحدث مع العائدين من الحرب أو من فقدوا شخصًا مهمًا في حياتهم أو ربما من تعرضوا لحادث مأساوي غير حياتهم.
اكتشفت الدراسة الأولى المتعلقة بتعديل الذاكرة تأثير مخدر شائع يُسمى البروبوفول على الذاكرة، حيث إنه يملك قدرة على إصابة بعض المرضى بفقدان الذاكرة بشكل ما، وبالتالي يمكن استخدامه لقمع الذكريات السلبية.
لكن تعديل الذكريات أو محوها يجب أن يحدث في لحظة معينة في أثناء إعادة ترتيب الذكريات، عند إعادة تنشيط الذاكرة يحتاج الدماغ إلى إعادة ترتيب الذكريات مرة أخرى، كأن تقوم بسحب ملف من المكتبة وتراجعه ثم تعيده مرة أخرى، يعتقد العلماء أن بإمكانهم تعديل الذكريات أو قمعها في لحظة المراجعة.
أجرى الباحثون الدراسة على 50 شخصًا سليمًا وعرضوا عليهم عدة شرائح تضم محتوى سلبيًا عاطفيًا لتشكيل ذاكرة سلبية، بعد أسبوع أعاد الباحثون إحياء ذكريات الشرائح وبمجرد تنشيطها أعطوا المشاركين جرعة من البروبوفول.
عند تحفيز خلايا الذاكرة في الجزء السفلي من الحصين تم استدعاء تجارب سلبية
عند تلك النقطة تم تقسيم المشاركين إلى مجموعتين، تم استجواب المجموعة الأولى بشأن تلك الذكريات فور إفاقتهم فاكتشفوا أنهم يتذكرون كل شيء بشكل دقيق، أما المجموعة الثانية فتم استجوابها بعد مرور 24 ساعة وكانت النتائح مختلفة.
لقد كانت الذكريات السلبية المرتبطة بالشرائح مشوشة بشكل كبير رغم أن الذكريات نفسها لم تُمح تمامًا، لكن ما زالت الدراسات المرتبطة باستخدام مخدر البروبوفول مستمرة، فهي تحتاج لمزيد من الدراسة على المدى الطويل وكذلك دراسة مدى صلاحية المخدر لمختلف الأشخاص والفئات العمرية.
تستكشف الدراسة الثانية إمكانية تعديل المشاعر السلبية المتعلقة بالذكريات المؤلمة من خلال تحفيز الجزء من الدماغ المرتبط بالذاكرة، كان العلماء قد اكتشفوا من قبل أن الحُصين (قرن آمون) الذي يقع تحت القشرة المخية هو المسؤول عن الدمج بين الذكريات قصيرة وطويلة المدى.
في البحث الذي أجراه العلماء على الفئران وجدوا أن التلاعب البصري الوراثي بخلايا الحُصين يمكنه أن يغير التعبير السلوكي للذكريات السلبية والإيجابية، لكن كان هناك اختلاف واضح بين الجزء العلوي والسفلي، فعند تحفيز خلايا الذاكرة في الجزء السفلي من الحصين يتم استدعاء تجارب سلبية، أما تحفيز الخلايا العلوية فقد استدعى ذكريات ذات عواطف غير مؤلمة.
يعترف الباحثون بالطبع بالفرق الكبير بين أدمغة الفئران وأدمغة البشر، لكن هذه النتائج ستساعد العلماء في اكتشاف تلك المناطق في أدمغة البشر بشكل أفضل، وبالتالي اكتشاف أفضل الطرق لتعديل الذاكرة.
يواجه العلماء تحديًا آخر يتعلق بالذكريات القديمة، فجميع الدراسات والتجارب كانت ناجحة بشكل كبير على الذكريات الحديثة نسبيًا، أما الذكريات القديمة فهي مستقرة بشكل قوي وتقاوم التعديل.
هل يشكل الأمر أزمة أخلاقية؟
يعتقد البعض أن تعديل الذاكرة أمر غير أخلاقي كما أنه يؤثر على القدرة على الشهادة في حادث ما، لكن بالنظر إلى ما اكتشفه العلماء سنجد أن التعديل يرتبط بالذاكرة غير التقريرية أي المرتبطة بالجانب العاطفي للحادث فقط، أما الأحداث نفسها فلن تتأثر بما يحدث، ما يتغير هو مشاعر الأشخاص تجاه ما حدث لتخفيف تأثيره عليهم، وهو أمر يختلف تمامًا عن محو الذكريات بشكل كامل.
يشكل نجاح تلك الأبحاث مستقبلًا واعدًا لمرضى اضطرابات ما بعد الصدمة، لكن هل يتطور الأمر لأبعد من ذلك، هذا ما لا يعلمه أحد حتى الآن، لكننا نأمل أن تُستغل تلك الأبحاث لما هو في صالح البشرية.