ترجمة وتحرير: نون بوست
تجاوز إنفاق مصر على معدات الدفاع الروسية خلال السنوات الأخيرة ما أنفقته منذ أوائل السبعينيات، كما عززت القاهرة علاقتها الاقتصادية مع بكين. وفي سنة 2017، اشترت تركيا نظام الدفاع الجوي الروسي “إس-400 تريومف”، ووسعت علاقاتها التجارية والدبلوماسية مع الصين. وفي 2019، فرشت كل من السعودية والإمارات البساط الأحمر في استقبال فلاديمير بوتين، بينما أمضى الرئيس الصيني شي جين بينغ ثلاثة أيام في الإمارات في سنة 2018.
يعلم جميع المطلعين في واشنطن أن شركاء الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط قد كانوا على اتصال مع منافسيها، حيث قامت كل من بكين وموسكو بالاستثمار وبيع الأسلحة في المنطقة، بل وتدخلت روسيا بشكل مباشر في النزاعات الإقليمية لتعزيز مصالحها في الشرق الأوسط. لكنهما أضافتا مؤخرًا أداةً جديدة لاكتساب المزيد النفوذ: لقاحات فيروس كورونا.
في الربيع الماضي، اكتسب مصطلح “دبلوماسية الأقنعة” شعبية في وصف الاستراتيجية التي سعت بها الصين إلى تعزيز نفوذها العالمي من خلال توفير معدات الحماية الشخصية للبلدان المحتاجة. أما الآن، بات لدينا “دبلوماسية اللقاحات”، مع اختيار عدد لا بأس به من شركاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط اللقاحات الروسية أو الصينية. لا يعلم أحد مدى فاعلية لقاح “سبوتنيك في” الروسي أو اللقاحات التي طورتها “سينوفارم” و”سينوفاك” الصينية؛ أو ما إذا كان لها آثار جانبية. ولكن بالنسبة للصين وروسيا، قد تكون تلك القضايا هامشية فحسب.
قد تكون هذه التحولات ذات طابع سطحي، حيث تسبب فيروس كورونا في إضعاف البلدان – مع أن الشرق الأوسط كان أفضل حالا بكثير مما ظنه معظم العالم في البداية – وقد يرى بعض قادة المنطقة أن اللقاحات قليلة التكلفة المصنّعة في كل من روسيا والصين أفضل من لا شيء، حتى لو كانت بياناتها العلمية بعيدة كل البعد عن الاكتمال. مع ذلك، قد لا يكون من المبالغة إيجاد حلقة وصل بين تقبل الأصدقاء الأمريكيين في المنطقة للقاح الروسي واللقاحات الصينية، والتغييرات الجارية في النظام الإقليمي على نطاق أوسع.
إن القيام بجولة قصيرة عبر الشرق الأوسط سيجعل حجم دبلوماسية اللقاحات واضحًا للغاية: في أواخر كانون الأول/ ديسمبر، بدأت مصر في تلقيح العاملين في مجال الرعاية الصحية بلقاح “سينوفارم“. وبما أنه لا أحد يعلم مدى التأثير الحقيقي للفيروس على المجتمع المصري، فمن المنطقي أن يلتمس الرئيس عبد الفتاح السيسي المساعدة أينما تمكّن من الحصول عليها، ولكن بالنظر إلى حجم استثمارات بكين في البلاد، فإنه يتحتم على القيادة المصرية الحفاظ على علاقات وثيقة مع الصين – ويشمل ذلك توزيع أحد منتجاتها الرائدة. كما يعد قبول مصر السريع للقاح سينوفارم جزءا من جهود القاهرة لتصبح مركزًا إقليميًا لإنتاج اللقاحات وتوزيعها، بما في ذلك لقاح “سبوتنيك في” الروسي.
ستحصل تركيا على دفعة متواضعة من لقاح فايزر، إلا أن أنقرة تبدو أكثر حرصًا على العمل مع روسيا والصين
مثلما تبنت مصر مبدأ “الحياد الإيجابي” في عهد جمال عبد الناصر، حين سعى المصريون لاستغلال جميع القوى العظمى واستخراج أقصى قدر من الموارد من كل منها، تستعد القاهرة لتلقي 50 مليون جرعة من لقاح “فايزر” و”أسترازينيكا” أيضًا. تعكس هذه الاستراتيجية نظرة المصريين تجاه جميع علاقاتهم مع الصين وروسيا والولايات المتحدة وأوروبا: فهم لا يريدون أن يُطلب منهم الانحياز لأحد، لأنه لم يعد هناك ضرورة لاختيار فريق واحد.
على غرار خصمها عبر البحر الأبيض المتوسط، بدأت تركيا أيضًا في تلقيح مواطنيها بلقاح صيني الصنع. لن ينتهي الطور الثالث من تجارب لقاح سينوفاك حتى شهر شباط/ فبراير، لكن الحكومة التركية غيرت لوائحها المتعلقة باللقاحات من أجل تسريع العملية؛ مما يدل على أن الأوضاع في تركيا أسوأ مما تود الحكومة الاعتراف به، ويأتي ذلك في فترة انعزال أنقرة عن شركائها التقليديين في أوروبا والولايات المتحدة.
ستحصل تركيا على دفعة متواضعة من لقاح فايزر، إلا أن الحكومة في أنقرة تبدو أكثر حرصًا على العمل مع روسيا والصين. فبعد أسابيع قليلة من إعلان استخدامها للقاح سينوفاك، أعلنت تركيا أنها ستصنّع لقاح سبوتنيك في محليًا. لم يؤكد المسؤولون الأتراك بدء استخدام اللقاح على مواطنيهم بعد، لكن من الواضح أن هذا هو الاتجاه الذي يتحركون فيه. وأشار وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، الذي ظهر مع نظيره الروسي بعد اجتماع في سوتشي، إلى أن استخدام لقاح “سبوتنيك في” سيبدأ فور تلقي البيانات التقنية للقاح.
يصح القول إن تركيا وروسيا على طرفي النقيض في العديد من الصراعات الإقليمية، لكنهما تمكنتا من احتواء تلك الاختلافات وفصلها لخدمة غاياتهما الأكبر؛ أبرزها رغبة أنقرة في الاستقلال عن الغرب، ومصلحة موسكو في إضعاف التحالف الغربي وبث بذور الانقسام في الاتحاد الأوروبي.
لا شك أن تعاون الأتراك والروس على صنع اللقاح سيكون سببًا في إنقاذ الأرواح، لكنه سيعمل أيضًا على تعزيز الأهداف الاستراتيجية التي تجمعهما. عندما يتعلق الأمر بالصين، مثل معظم العالم، يريد المسؤولون الأتراك الاستفادة من العلاقات التجارية وإمكانيات الصين في إنشاء قوة مضادة للولايات المتحدة، حتى لو تطلب ذلك إخلالا في مبادئها بخصوص وضع الأويغور.
أما بالنسبة لشركاء الولايات المتحدة في الخليج، فإن هناك تنوعًا في الاستجابات. اشترى السعوديون لقاح فايزر، وسيستخدم القطريون كلاً من جرعات فايزر ومودرنا. وستستخدم كل من عُمان والكويت لقاح فايزر أيضًا، لكن البحرين تمضي في عملية شراء لقاح سينوفارم، كما يفعل الإماراتيون. بل وقد التقطت صورة لحاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم وهو يتلقى لقاح سينوفارم.
حتى عندما انتهجت الولايات المتحدة سياسات مثيرة للجدل في الشرق الأوسط، كان لا يزال يُنظر إليها بمثابة المعيار الذهبي من حيث التعليم والرعاية الصحية والبحث والتطوير والتكنولوجيا
لا شك أن البحرينيين والإماراتيين قادرون على تحمل تكاليف لقاحات منتجات فايزر ومودرنا الأغلى ثمنًا، ومن المرجح أن يستخدموها أيضًا، لكن قبولهم السريع للقاح سينوفارم يعكس ما يحدث على نطاق واسع في الخليج. بدأت دول المنطقة في التحوط ضد الانسحاب الأمريكي واستقطاب السياسة الأمريكية الذي يجعل واشنطن أقل فاعلية كشريك دبلوماسي وعسكري واقتصادي، مما يترك الصين وروسيا بديلين معقولين.
قد لا تكون دبلوماسية اللقاحات في المنظور الكبير مهمة كثيرًا. يجب على الدول السيطرة على انتشار الفيروس، بينما يقدم الروس والصينيون حلولًا فعالة من حيث التكلفة. مع ذلك، حتى عندما انتهجت الولايات المتحدة سياسات مثيرة للجدل في الشرق الأوسط، كان لا يزال يُنظر إليها بمثابة المعيار الذهبي من حيث التعليم والرعاية الصحية والبحث والتطوير والتكنولوجيا التي ساعدت على تحسين حياة الناس.
لم يرغب أحد من قبل في الحصول على منتجات روسية أو صينية، ولكن الأوضاع تغيرت، على الأقل بالنسبة للقاحات. وفي حين أن الأمريكيين قلقون تجاه التحدي الصيني والروسي، فإن غياب الولايات المتحدة عن مكافحة فيروس كورونا في العديد من المناطق المهمة، بما في ذلك الشرق الأوسط، واضح. وقد يبدو الأمر كما لو أن السيطرة على مرض معدي ثم العمل على القضاء عليه أمر سهل من شأنه أسر القلوب وسلب العقول في المنطقة – والتغلب على موسكو وبكين أيضًا.
المصدر: فورين بوليسي