تتناسل وتتفاقم الأزمات في لبنان يومًا بعد يوم ككرة الثلج التي كلما تدحرجت كبرت وأخذت بطريقها كل شيء، ومن دون أن يتمكن المعنيون من إيجاد الحلول لأي من هذه الأزمات حتى الساعة، وقد اجتمعت الأزمات الاقتصادية والصحية والاجتماعية والسياسية منذرة بأزمة أمنية قد تنزلق بلبنان نحو المجهول أو تضع نهايةً لهذا الكيان.
كورونا يفاقم الأزمة الاقتصادية
خلال عطلة رأس السنة الميلادية تراخت الحكومة اللبنانية في إجراءاتها لمنع الحفلات والسهرات والتجمعات الفنية وغيرها تحت حجج وذرائع شتى في وقت حذر كثير من المختصين من خطورة هذه التجمعات والاختلاط لناحية تفشي وباء كورونا وانتشاره بسببها.
وبالفعل ارتفعت أعداد المصابين في لبنان بشكل غير مسبوق بعد فترة الأعياد، حيث بلغت أعداد المصابين يوميًا أكثر من 5 آلاف مصاب في وقت كانت في بداية الوباء لا تتعدى أصابع اليد الواحدة.
هذا الارتفاع الجنوني في أعداد المصابين استدعى من الحكومة اتخاذ إجراءات جديدة لمنع تفشي الوباء، خاصة أن المستشفيات لم يعد لديها القدرة الكافية على استيعاب المصابين كما تقول، وكان الإجراء الروتيني الذي لجأت إليه الحكومة المستقيلة هو قرار إقفال البلد لمدة 23 يومًا تمتد حتى الأول من شهر فبراير/شباط المقبل، وترافق قرار الإقفال الذي شمل المؤسسات العامة بنسبة وصلت إلى حدود 75% والمؤسسات الخاصة بعضها بشكل كامل، وبعضها الآخر بنسب كبيرة، مع إجراءات مشددة وعقوبات كبيرة لمن يخرق هذه القرارت، بدأت بالغرامة المالية ووصلت إلى حدود السجن والحبس.
غير أن هذه الإجراءات التي اتخذتها الحكومة من أجل مواجهة تفشي وباء كورونا بشكل واسع فاقمت بشكل كبير من الأزمة المعيشية والحياتية التي يعيشها المواطنون، ومعروف في لبنان أن قسمًا كبيرًا جدًا من اللبنانيين باتوا يحصلون على رزقهم من عملهم اليومي، لأن قسمًا كبيرًا من الشركات أغلق أبوابه، وقسمًا آخر صرف جزءًا كبيرًا من موظفيه ومستخدَميه، والجزء الباقي الذي ما زال يعمل لا يراعي مسألة انخفاض القدرة الشرائية للمواطنين بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار الأمريكي والعملات الأجنبية أمام الليرة اللبنانية.
لكل ذلك رفضت قطاعات من الأجراء والعمال وحتى الموظفين إجراء الحكومة بالإقفال، وفضلت الموت بالكورونا على الموت بالجوع كما قالوا، وقد تصدر حالة الرفض هذه السائقون العموميون لا سيما في مدينة طرابلس التي تعاني فقرًا مدقعًا.
سُدت الطرق والنوافذ أمام الحكومة اللبنانية التي أدارت مفاوضات مع صندوق النقد الدولي للحصول على مساعدات أو قروض تسهم في رفد الدورة الاقتصادية بالعملة الأجنبية
ربما لجأت الحكومة إلى قرار الإقفال مكرهة على ذلك، لكنها لم تعمل على تأمين البدائل للمواطنين، ولا المساعدات المطلوبة في ظل أزمة اقتصادية غير مسبوقة، وفي ظل ارتفاع جنوني لسعر صرف العملات الأجنبية أمام الليرة اللبنانية من ناحية، وارتفاع أسعار أغلب السلع من ناحية ثانية في وقت تفشت البطالة أكثر مما يتفشى وباء كورونا في صفوف اللبنانيين.
أما عن حل هذه الأزمة الاقتصادية فقد سُدت الطرق والنوافذ أمام الحكومة اللبنانية التي أدارت مفاوضات مع صندوق النقد الدولي للحصول على مساعدات أو قروض تسهم في رفد الدورة الاقتصادية بالعملة الأجنبية، غير أن الشروط التي وضعها الصندوق والدول المانحة والمرتبطة بمطلب الإصلاح الإداري والاقتصادي والسياسي حالت – إلى الآن – دون تأمين أي موارد مالية لصندوق الخزينة اللبنانية الذي يعاني عجزًا ماليًا قارب المئة مليار دولار تقريبًا.
التعنت يُفاقم الأزمة السياسية
إذا كانت الأزمة الاقتصادية قد أثقلت كاهل اللبنانيين وفاقمت من معاناتهم اليومية والحياتية، فإن الأزمة السياسية تهدد بزوال الكيان اللبناني وتزيد من حجم الهواجس عند مختلف اللبنانيين.
فبعد انفجار مرفأ بيروت في الـ4 من شهر أغسطس/آب 2020 اضطُر رئيس الحكومة حسان دياب إلى التقدم باستقالة حكومته تحت ضغط فضيحة الانفجار من ناحية وضغط الشارع من ناحية ثانية، غير أن كل المساعي التي بُذلت من أجل تشكيل حكومة جديدة حتى الساعة باءت بالفشل على الرغم من تكليف سفير لبنان في برلين مصطفى أديب أولًا بتشكيل الحكومة، وقد اعتذر عن ذلك بسبب مواقف القوى السياسية اللبنانية، وبسبب موقف المرجعيات السياسية الرسمية التي تشغل المواقع الدستورية الرسمية.
ومن ثم تكليف سعد الحريري وهو لم يستطع أيضًا أن يشكل الحكومة حتى اليوم رغم التنازلات التي قدمها والمحاولات التي بذلها، وتتمثل عقدة تشكيل الحكومة فيما يبدو داخليًا بمطلب رئيس الجمهورية ميشال عون والتيار الوطني الحر الذي يرأسه صهره من خلفه بالحصول على الثلث المعطل فيها، والحصول أيضًا على الوزارات التي تُصنف على أنها سيادية.
ويبدو أن هذا المطلب تعجيزي لا يرضى به أي طرف سياسي على الإطلاق، غير أنه يعمق الأزمة السياسية تحت عنوان الشراكة الكاملة لرئيس الجمهورية بتشكيل الحكومة خلافًا لما نص عليه صريح الدستور اللبناني بشأن مسؤولية رئيس الحكومة المكلف بهذه الوظيفة بالتشاور مع رئيس الجمهورية.
غير أن البعض يذهب أبعد من المطلب الداخلي والعقد الداخلية وتعنت الأطراف التي باتت معروفة في عملية تعطيل تشكيل الحكومة، ويشير إلى مسؤولية تتصل بتحويل لبنان إلى ساحة للتفاوض بين القوى العالمية والإقليمية التي تتنافس في لبنان وعليه، وهنا يشير أصحاب هذه القراءة إلى التنافس الإيراني الأمريكي الذي يحول دون تشكيل حكومة في لبنان بانتظار أن يكتمل المشهد في الولايات المتحدة الأمريكية في الـ20 من الشهر الحاليّ.
يعيش اللبنانيون ظروفًا صعبةً ومعقدةً، وينتظرون الحل السحري الذي لا يبدو أنه سيكون قريبًا
على كل حال فإن هذه الأزمة السياسية التي يتخوف البعض منها لأنها تُعتبر مفتاح حل الأزمات الأخرى قد تطول إلى نهاية ولاية الرئيس اللبناني الحاليّ ميشال عون، أي إلى منتصف العام 2022، كما أن هناك من بدأ يتخوف على مصير لبنان خلال المرحلة المقبلة لناحية خضوعه لتغييرات أساسية سواء من حيث شكل النظام السياسي فيه، أم الجغرافيا الديمغرافية كجزء من تغيير ديمغرافيا وجغرافيا المنطقة كلها.
ومن هنا بدأت تطفو على السطح في الوسط المسيحي بشكل أساسي وعلى وجه التحديد أفكار جديدة تدعو إلى ضرورة اللجوء إلى اعتماد الفدرالية في النظام اللبناني بعد تعذر الحل السياسي للعديد من الملفات، وبعد سقوط فكرة الحياد الإيجابي التي طرحها البطريرك الماروني بشارة الراعي أمام إصرار قوى أخرى لا سيما الحليفة للنظام السوري وإيران بضرورة أن يكون لبنان جزءًا من محورهم في المنطقة للحفاظ على سيادته وقراره الحر.
أمام هذا المشهد المتأزم على المستويين الاقتصادي والسياسي يعيش اللبنانيون ظروفًا صعبةً ومعقدةً، وينتظرون الحل السحري الذي لا يبدو أنه سيكون قريبًا، غير أن المصالحة الخليجية الأخيرة، وإمكانية تحويلها إلى مصالحة عربية عامة، وفكرة تحسين العلاقة مع الجارة تركيا بدأ يعيد إليهم بعض الأمل في إمكانية إرساء نوع من التوازن الذي يمكن أن يفضي إلى بعض الحلول المرحلية والجزئية.