تلقت الديمقراطية الغربية خلال السنوات الخمسة الماضية العديد من الطعنات الغائرة في ركائزها المرسخة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أبرزها الصعود المفاجئ والسريع للشعبوية، ووصول زعماء وأحزاب تيارها السياسي (اليمين المتطرف) إلى سدة الحكم في بعض البلدان.
ونجح هذا التيار في توسيع دائرة نفوذه بشكل لافت للنظر ومقلق في نفس الوقت، بدءًا بتنامي نفوذ كلٍّ من حزب البديل من أجل ألمانيا وحركة بيغيدا في ألمانيا، ومعهم صعود فيكتور أوربان في المجر وياروزلاف كاتشينسكي في بولندا، مرورًا بجان ماري لوبان وحزبها في فرنسا، وصولًا إلى دونالد ترامب في أمريكا وبوريس جونسون في بريطانيا.
وخلال نصف العقد المنقضي حاولت الديمقراطية الغربية ترميم الشروخات التي أصابت جدرانها جراء هذا التغير الواضح في الخريطة السياسية بشكل عام، ونجحت في كثير من الأشواط في تصحيح تلك الصورة من خلال مناهضة الممارسات المتطرفة أحيانًا، عبر حزمة تشريعات وقوانين مستحدثة، والتبرؤ منها سياسيًا في أحايين أخرى.
غير أن ما حدث في 6 من يناير/كانون الثاني من اقتحام مبنى الكونغرس الأمريكي الذي أسفر عن مقتل 4 أشخاص وإصابة 14 شرطيًا على الأقل واعتقال 52 متظاهرًا، كان زلزالًا مدويًا هز أرجاء الديمقراطية الأمريكية خصيصًا والغربية بوجه عام.
ردود الفعل المتباينة حيال تلك الواقعة، بين شماتة خصوم واشنطن الفرحين بما حدث كونه شهادةً عمليةً على فقاعة الديمقراطية الأمريكية المزعومة من جانب، ومساعي الأمريكان بشتى انتماءاتهم السياسية لتصحيح الصورة التي شُوهت من خلال إجراءات عاجلة تنتصر لقيم الديمقراطية ومبادئها عبر محاسبة الرئيس دونالد ترامب وتقليص صلاحياته، تدفع للتساؤل عن مستقبل الديمقراطية الغربية بعد هذه الأحداث.
ليس الكونغرس وحده
الكونغرس الأمريكي ليس البرلمان الغربي الوحيد الذي تعرض لهجمات واعتداءات من مواطني الدولة، فقبل ستة أشهر تقريبًا وفي أغسطس/آب الماضي وصل آلاف المتظاهرين الغاضبين في مسيرات واسعة النطاق إلى مبنى البرلمان الألماني (البوندستاغ) وهو يحملون علم الرايخ بلونيه الأحمر والأسود الذي يعود إلى عهد القيصر، احتجاجًا على تشريعات سنتها الحكومة تعطي صلاحيات واسعة ضمن تدابير مكافحة فيروس كورونا.
قبل ذلك بكثير، تحديدًا عام 2006، اقتحم أنصار اليمين المتطرف في المجر مبنى البرلمان الوطني، وبينما لم يستغرق اقتحام البرلمان الأمريكي أكثر من 6 ساعات فقط، استمرت الاشتباكات بين الشرطة المجرية والغاضبين داخل وفي محيط الهنغاري لعدة أسابيع، وكانت إيذانًا بصعود اليمين المتطرف في البلاد ورئاسته للحكومة من خلال فيكتور أوربان.
القاسم المشترك في الأحداث الثلاث التي شهدت اقتحامًا لمباني البرلمانات في الغرب كان “التحريض” من التيار الشعبوي، لكن الفارق بينهما أنه في الحالتين، الألمانية والمجرية، كان المحرض تيار سياسي، سواء حزب أم أفراد، وكان بعيدًا عن دائرة الحكم، ويصنف طبقًا للقانون “معارضة”، عكس الوضعية الأمريكية، فالذي حرض هنا هو رئيس الدولة، وهي المفارقة التي أثارت كل هذه الضجة والقلق في آن واحد.
الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير، في تعليقه على اقتحام الكونغرس الذي ذكره بطبيعة الحال بما حدث مع برلمان بلاده قبل 6 أشهر، قال في كلامه الموجه للألمان: “الكراهية والتحريض خطر على الديمقراطية، الأكاذيب خطر على الديمقراطية، العنف خطر على الديمقراطية”.
تشكيك من الداخل
المقلق لدى الأوساط البحثية في الغرب بشأن اقتحام الكابيتول ليس الواقعة في حد ذاتها قدر ما تحمله من مؤشرات كونها في حقيقتها نتيجة منطقية لمسيرة من التغول على الديمقراطية من خلال القفز عليها أحيانًا والتشكيك في صلاحيتها أحايين أخرى، استمرت أكثر من أربع سنوات.
شهدت الديمقراطية الأمريكية خلال ولاية ترامب عشرات الضربات التي كان لها دورها في تتويج المشهد بحادثة اقتحام البرلمان، إما في صورة تصريحات مناهضة للمنظومة الديمقراطية وركائزها أو إجراءات وقرارات تضرب هذا الفكر وكتلته القيمية في مقتل.
ترامب وقبيل إجراء الانتخابات الرئاسية الماضية شكك في نزاهة العملية الديمقراطية في بلاده، لافتًا في تصريحات له قبل أسبوع واحد فقط من انطلاق الماراثون أن الفوز حليفه المؤكد وأن خسارته خارج الحسبان مطلقًا، مشيرًا أن الحالة الوحيدة التي قد يخسر فيها حين يتم تزوير الانتخابات.
فُسر تصريح ترامب حينها بأنه محاولة استباقية لتهيئة الرأي العام لخسارته في ظل التفوق الملحوظ لمرشحه الديمقراطي جو بايدن وفق نتائج استطلاعات الرأي، ما يعني أنه تصريح للاستهلاك المحلي بهدف حفظ ماء الوجه ليس إلا، غير أنه صعد هذا التشكيك أكثر وأكثر بعد مؤشرات خسارته الرسمية.
إيحاء الرئيس المنتهية ولايته بأن النظام الديمقراطي في بلاده فاقد للأهلية والمصداقية انتقل بطبيعة الحال إلى أنصاره من الجمهوريين، الذين شككوا بدورهم في نتائج الانتخابات، وعليه جاء تحريضه المتواصل على منصات التواصل الاجتماعي بمثابة البارود الذي أشعل فتيل الاحتقان داخل مؤيديه فكانت واقعة الكابيتول، ومن قبلها ممارسات عدائية أخرى قام بها الجمهوريون ضد أنصار بايدن في أكثر من ولاية أمريكية.
وعام تلو الآخر أصبحت الشعبوية الترامبية حاضنة شعبية لكل الممارسات المناهضة للديمقراطية، الأمر الذي يمكن قراءته من خلال حالة الانقسام التي بدا عليها المجتمع الأمريكي تجاه حادثة اقتحام الكونغرس، فرغم الإدانات القوية لها، فإن 45% من أنصار الحزب الجمهوري يؤيدون ما حدث، وذلك وفق استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة “يوغوف للاستطلاع” وأشار إلى أن 21% ممن شاركوا فيه (من مختلف التيارات السياسية) أيدوا اقتحام البرلمان.
الديمقراطية الغربية.. اختبار صعب
الباحث الألماني يان فيرنر مولر في كتابه “ما الشعبوية” يرى أنها بجانب معاداة النخبة فهي كذلك “معاداة التعدد”، لافتًا إلى أن “ما يُمثِّل جوهر كل الشعبويين في نظري يكمن في التعبير عنه تقريبًا كالآتي: نحن، ونحن فقط” وهو التعريف ذاته تقريبًا الذي استقر عليه المفكر عزمي بشارة في كتابه “في الإجابة عن سؤال: ما الشعبوية؟” الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
بشارة بجانب الاتفاق على معاداة التعدد الثقافي والسياسي كأحد تعريفات الشعبوية، أضاف أن هذا يترتب عليه “عداء الشعبوية لكل أشكال البنى المؤسسية داخل النظام الديمقراطي، والمؤسسات البرلمانية والقضائية ومنظمات المجتمع المدني والمحاكم الدستورية وحتى المنظمات الدولية والإقليمية”.
وعليه فإن صعود الشعبوية في الغرب خلال السنوات الماضية ينسف وبشكل واضح الديمقراطية (القائمة في الأساس على التعدد) من جذورها، وهو ما يمكن قراءته بشكل أعمق من خلال الأرقام والإحصاءات الصادرة بحق الجرائم العنصرية الممارسة ضد الأقليات والجنسيات غير الغربية في أوروبا وأمريكا.
لم تكن الضجة التي صاحبت مقتل المواطن الأمريكي من أصول إفريقية، جورج فلويد، في 25 من مايو/أيار 2020 إلا صرخة مدوية تفضح سلسلة طويلة من الانتهاكات التي يتعرض لها أصحاب البشرات غير البيضاء، وأبناء الأرحام غير الأمريكية.
حزمة من الدراسات التي أجريت خلال العامين الماضيين تحديدًا تضع الديمقراطية الغربية في موقف حرج أمام أنصارها في المقام الأول، وأمام المجتمع العالمي المنبهر بها على الوجه الأعم، منها الدراسة التي أجريت عام 2019 من خلال معهد “ناشونال فيتال ستاتيستيكس” المتخصص في جمع المعطيات الخاصة بالوفيات في أمريكا، التي توصلت إلى أن الرجال السود يتعرضون لخطر القتل على يد الشرطة أكثر من نظرائهم البيض بنسبة 250%.
الدراسة كشفت كذلك أن واحدًا من الألف بين الأمريكيين السود يموت بسبب العنف البوليسي سنويًا، وهي النتائج التي تطابقت بشكل كبير مع ما نشرته “نيويورك تايمز” في يناير/كانون الثاني 2020 بشأن تعرض 101 مراهق أمريكي من أصول إفريقية لـ5600 ممارسة عنصرية ضدهم خلال 15 يومًا فقط! أي ما يعادل 4 سلوكيات عنصرية للواحد منهم في اليوم الواحد.
الوضع في أوروبا ليس أفضل حالًا من نظيره في الولايات المتحدة، حيث كشفت الدراسات أن ما يقرب من 92% من المسلمين في القارة العجوز تعرضوا لشكل ما من أشكال التمييز العنصري خلال العامين الماضيين، وأن 53% منهم واجه التفرقة العنصرية عند البحث عن مسكن، بينما 39% تعرضوا لممارسات مشابهة بسبب ملابسهم ومظهرهم الخارجي، الأمر هنا لم يقتصر على المسلمين فقط، بل كل الأقليات الموجودة في أوروبا التي يتجاوز عددها 30 مليون شخص.
إعادة تشكيل المفاهيم
لم تعد الديمقراطية الغربية تحمل المفاهيم والقيم الإنسانية والفلسفية ذاتها التي سعت لتصديرها طيلة العقود الماضية، إذ أسهمت التطورات السياسية والمجتمعية والاقتصادية خلال السنوات الماضية في إعادة النظر حيال الكثير من المُسلّمات المتعلقة بطبيعة وأشكال أنظمة الحكم في العالم.
فخلال المرحلة التالية للحرب العالمية الثانية كانت أنظمة الحكم في التصور العالمي تنقسم إلى قسمين: الأول وهو القسم ناصع البياض، النموذج الأكثر بريقًا، نظم الحكم الغربية، حيث مبادئ الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والإيمان بالتعددية فكرًا وممارسةً.
أما القسم الثاني فهو الأكثر سوداوية، حيث أنظمة الحكم الاستبدادية والشمولية في دول العالم الثالث التي كانت تُنعت في الغرب بـ”المتخلفة” وهي الصورة التي علقت بأذهان المجتمع الأبيض لعقود طويلة، وكان لها أبلغ الأثر في إستراتيجيات التعامل الغربي مع شعوب وحكام تلك الدول القابعة في غياهب الرجعية والتخلف.
غير أن التطورات الأخيرة على المستويات كافة أعادت تشكيل تلك الهيكلة التقليدية، فلم تعد أنظمة الحكم في الشرق بنفس البديهيات السابقة وإن ظلت في كثير منها على ذات العقلية حتى إن طورت من أدواتها، وفي المقابل لم تعد الديمقراطية الغربية بذات البياض والبريق الذي تمتعت له لما يزيد على 70 عامًا، فالتناقض الفج بين الشعارات والواقع شوه الصورة بشكل كبير.
نجح ترامب وأنصاره من الشعبويين، سواء في أمريكا أم أوروبا، في إرساء مفهوم جديد لنظام الحكم، تحت مسمى “الديمقراطية الميكافيالية” أي اتخاذ الشعارات الديمقراطية وسيلة لتحقيق غاية الهيمنة على الحكم حتى ولو بطرق تنسف مبادئ ونزاهة وقيم هذا التوجه السياسي الفكري.
إيمان الأمريكيين والأوروبيين بخطورة واقعة الكابيتول وتأثيرها على الصورة الذهنية لأنظمة الحكم الخاصة بهم لدى العقل العالمي، دفعهم للانتفاضة ضد الرئيس الأمريكي، ومحاولة ترميم هذه الصورة من خلال الانتصار لقيم الديمقراطية عبر محاكمة ترامب ودراسة مقترح عزله من منصبه، اتحد في ذلك الديمقراطيون والجمهوريون على حد سواء.
البعض قد يرى أن ما حدث يحسب للنظام الديمقراطي الذي نجح في وأد أي محاولة للخروج على أبجدياته، وأن ذلك مؤشرًا إيجابيًا يعكس قوة الجذور الديمقراطية الضاربة في عمق العقلية الأمريكية، مهما كانت الخسائر، غير أن هذا التبرير يشير بشكل أو بآخر إلى خلل ما في المنظومة، هذا الخلل هو الذي قاد شخصية كترامب إلى سدة الحكم في البلاد، وهو ذاته الذي جعل منه قائدًا للرأي يبث سمومه الشعبوية في رأس الملايين من المراهقين أنصار حزبه.
ورغم مساحيق التجميل التي توضع بكثافة على المشهد، فإن ما حدث وضع الديمقراطية الغربية على المحك، فلم يعد أمامها إلا تطهير نفسها بنفسها وفق آليات وأدوات تحول دول الاستخدام الميكافيلي لمبادئها لتحقيق أهداف سياسية بحتة بعيدًا عن القيم والشعارات المرفوعة، وهنا يبقى السؤال: هل من الممكن أن تنعكس تلك التطورات على مستقبل اليمين المتطرف وواقع الأقليات في الغرب؟