صحيح أن الاستعمار الفرنسي الصريح والمباشر ولى وانقضى، لكن ما ارتكبته باريس بحق الشعوب والدول التي استعمرتها من إبادة وظلم وتعدٍ على الحرث والنسل ما زال في مخيلة كل إنسان حر يؤمن بالحرية والعدالة والمساواة، رغم المحاولات الفرنسية المتكررة لنفي مسؤوليتها وتبرئة جنودها.
مذبحة مورامانغا، واحدة من تلك الجرائم العديدة التي لا تموت بالتقادم، فقد قتلت فرنسا عشرات الملغاشيين المطالبين باستقلال بلادهم دون رحمة. في هذا التقرير الجديد ضمن ملف “أقاليم ما وراء البحار” سنتطرق لهذه الجريمة البشعة حتى تبقى حاضرة في الذاكرة المجتمعات وضميرها، حتى إن أنكرت باريس مسؤوليتها.
مجازر بحق المدنيين
تقع مدغشقر في المحيط الهندي، وهي دولة جزرية، تبعد نحو 250 ميلًا (400 كيلومتر) عن ساحل شرق إفريقيا، تتألف من جزيرة مدغشقر (رابع أكبر جزيرة في العالم) والعديد من الجزر الصغيرة الأخرى ما جعلها محل أطماع القوى الاستعمارية الكبرى في العالم.
عام 1883، غزت فرنسا هذا البلد الإفريقي، حيث كانت المقاومة كبيرة، فقد انتشر المرض بين الجنود الفرنسيين ما مكن الملغاشيين من صد موجات الغزو الأولى، لكن المعارك الحاسمة ستتبعها، وهي معروفة باسم “الحرب الفرنسية الملغاشية الثانية” .
عام 1895 انتهت حملة مدغشقر، حيث أحصى الجيش الفرنسي 13 قتيلًا و88 جريحًا في أثناء القتال، و4498 حالة وفاة بسبب الأمراض (الملاريا والدوسنتاريا) أي ما يقرب من 30% من الخسائر في القوى العاملة، وقد كانت الحملة حينها مكونة من 14850 رجلًا.
إلى حين استقلالها الرسمي، واجهت مدغشقر عنف الاستعمار الفرنسي، حيث قُمعت حركات التحرر ما خلف بين عامي 1897 و1947 حوالي 100 ألف و700 ألف ضحية لسكان يبلغ عددهم 3 ملايين نسمة في ذلك الوقت.
أبشع تلك الجرائم ما حصل سنة 1947، عندما انتفض أهالي مدغشقر لتحرير أنفسهم من قمع الاستعمار وظلمه
لم تكتف فرنسا بعمليات القتل التقليدية، بل دمرت المدن والقرى وشردت سكان البلاد الأصليين وفرضت عليهم التحدث بالفرنسية عوضًا عن لغتهم الأصلية، وكل ذلك حتى تتمكن من البلاد وثرواتها ومكانها الإستراتيجي على ساحل المحيط الهندي.
ليس هذا فقط، فمع الحكم الاستعماري الفرنسي، حل النهب والمضاربة محل السياسة، حيث تُمنح امتيازات التعدين والغابات الضخمة للشركات الفرنسية الكبيرة، فيما تم تخصيص جزء من الأرض للزعماء المحليين لمكافأتهم على ولائهم، بينما يقتصر سكان مدغشقر على محميات السكان الأصليين.
وأجبرت السكان الأصليين على خدمة الأرض لفائدة المستوطنين، كما دربت العمال حسب متطلبات المستوطنين وأجبرتهم على العمل القسري لإتمام البنية التحتية اللازمة لتنمية رأس المال السوقي.
ثورة 1947
أبشع تلك الجرائم ما حصل سنة 1947، عندما انتفض أهالي مدغشقر لتحرير أنفسهم من قمع الاستعمار وظلمه، فقد ردت فرنسا على هذه الثورة بجرائم جسيمة خلفت عشرات آلاف القتلى في صفوف الملغاشيين.
منتصف ليلة 29 من مارس/آذار 1947، اندلعت انتفاضة في جزيرة مدغشقر، نتيجة ظلم النظام الاستعماري الفرنسي الذي تأسس في نهاية القرن التاسع عشر هناك، وتشديد القوة الاستعمارية في سياسة القمع واعتقال العديد من قادة الحركة الديمقراطية لإصلاح مدغشقر.
ركزت الحركة الديمقراطية لإصلاح مدغشقر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على المطالبة باستقلال البلاد، خاصة بعد الهزيمة الفرنسية أمام ألمانيا وانهيار القوات الفيشية خلال الإنزال البريطاني وتزايد أعمال السُخرة المفروضة تحت مسمى المجهود الحربي، فلم يكن إنشاء مجلس منتخب بصلاحيات محدودة كافيًا لإطفاء الشعلة التحررية التي أضاءت في الجزيرة الحمراء بحجم فرنسا وبلجيكا، ما جعل الأهالي ينتفضون ضد المستعمر الفرنسي.
رد فرنسا على هذه الانتفاضة كان عنيفًا، حيث زادت من عدد قواتها المتمركزة هناك لتبلغ في سنة واحدة 18 ألف بعد أن كانت قواتها البرية الرئيسية مكونة من ثلاث كتائب من مشاة مدغشقر يبلغ عددهم نحو 8000 في بداية الانتفاضة، وبسرعة كبيرة وصلت الأعداد إلى 30 ألف رجل، معظمهم من الجنود السنغاليين.
بلغ القمع حد وصفه من بعض المؤرخين بأنه حرب استعمارية، حيث كانت عمليات التعذيب والإعدام بإجراءات موجزة هي نصيب “أحداث” مدغشقر، التي لا تزال ذكراها، غامضة في فرنسا، وحاضرة للغاية في الذاكرة الجماعية الملغاشية وخاصة بين كبار السن.
بدأت الاحتجاجات في المنطقة الشرقية يقودها رجال القبائل الذين تمكنوا في فترة وجيزة من السيطرة على ثلث الجزيرة، وقد اعتبرت فرنسا التي كانت تحت حكم الاشتراكيين بقيادة بول راديميير أن الانتفاضة تهديد لهيبة فرنسا الجريحة أصلًا.
الجيش الفرنسي لم يرحم أحد صغارًا وكبارًا وحتى النساء العزل، فقد أعدم المئات بإجراءات موجزة، وعذب عشرات الآلاف وأحرق القرى وأطلق النار على المتظاهرين، وركزت القوات الفرنسية على قتل قيادات الانتفاضة بطريقة بشعة، كما ألقى طيارو الدولة الاستعمارية عددًا من السجناء الذين يدعون للاستقلال من الجو لإرهاب القرويين وشن حرب نفسية ضدهم.
إلى جانب ذلك، تم تصنيف الحركة الديمقراطية لإصلاح مدغشقر على أنها العدو الذي يجب هزيمته، وتم حلها واعتقال قادتها، ورفعت الحصانة البرلمانية عن ثلاثة نواب يمثلون الجزيرة في البرلمان الفرنسي تمهيدًا لمحاكمة استعمارية بدأت في يوليو/تموز 1948 وانتهت بأحكام شديدة بالسجن أو أحكام بالإعدام أو العمل القسري.
بغية أن يفرض نفسه ويدوم، اقترف المستعمر الفرنسي العديد من الأعمال الإجرامية التي بقيت دون عقاب إلى حد الآن
اتبع جنرالات فرنسا سياسة تدعى “نقطة الزيت” لإعادة السيطرة على الجزيرة، تتمثل في حصر منطقة معينة وقصف كل شيء فيها لكي يتأكدوا أن لا أحد يمكن أن ينجو من الموت فيها، ثم تستخدم كمنطقة آمنة يتم توسيعها شيئًا فشيئًا والانتقال بعدها إلى البقع الأخرى المجاورة وهكذا.
بقيت المذابح متواصلة إلى غاية نوفمبر/تشرين الثاني 1948، لكن رغم مرور عشرات السنين ما زال عدد ضحايا هذا القمع محل نقاش بين المؤرخين، فبينما تسعى القوة الاستعمارية إلى تقليص عدد الضحايا لتقليل مسؤوليتها، يؤكد زعماء استقلال مدغشقر أن الأرقام كبيرة جدًا، وقد أنشأت بعثة لتقصي الحقائق من جمعية الاتحاد الفرنسي في نهاية عام 1948 تقييمًا أوليًا لـ89 ألف قتيل (أكثر من 2% من سكان مدغشقر في ذلك الوقت).
لكن فيما بعد راجعت السلطات الاستعمارية هذا التقدير وحددت رسميًا عدد القتلى في عام 1950 لـ11342 حالة وفاة، بينما يؤكد الملغاشيون أن الخسائر البشرية لهذه الثورة التي بقيت لفترة وجيزة تراوحت بين 100 ألف و200 ألف.
مذبحة مورامانغا
الحلقة الأكثر همجية من قمع عام 1947 – حادثة قطار مورامانغا – ففي 5 من مايو/أيار 1947، عند منتصف الليل، في منطقة مورامانغا على بعد مئة كيلومتر شرق أنتاناناريفو عاصمة البلاد، فتح الجيش الاستعماري الفرنسي النار على ثلاث عربات ثابتة.
ففي الساعات الأولى من يوم 5 من مايو/أيار 1947، وصلت قافلة مؤلفة من 166 رهينة إلى محطة أمباتوندرازاكا، حيث تم نقل السجناء إلى ثلاث عربات قطار مخصصة عادة للماشية متجهة إلى مورامانغا، وفي كل محطة على طول الطريق تتوقف القاطرة لتخزين المياه والخشب.
في بداية فترة ما بعد الظهر، دخل القطار محطة مورامانغا، حيث حاصر جنود تحت سلطة القائد جوبير خط السكة الحديد الواقع بالقرب من معسكر للجيش، وفي الساعة العاشرة مساءً بينما كانت القافلة ما زالت متوقفة والرهائن محتجزون في العربات، أثارت خطوات حول المحطة قلق الجنود.
في منتصف الليل، خوفًا من أن يحاول السكان الأصليون تحرير الرهائن، أمر الجنرال بيليه بإطلاق النار على العربات الثلاثة ومعهم 166 سجينًا، ففتح الجنود النار لأكثر من ساعة، حتى توقفت صرخات الضحايا.
عند الفجر، تجمعت السلطات الاستعمارية أمام القطار، وفتحت الأبواب أمام مشهد مروع، فهناك 112 جثة ملقاة في بركة من الدماء، من بين 166 سجينًا، فيما نجا الباقي لكن نقلوا إلى سجن مورامانغا حيث مات بعضهم من الجوع وسوء المعاملة في الأيام الثلاث التالية.
كما تم حشر عدد منهم في شاحنات ونقلوا إلى غابة مجاورة، وأخرجهم الجنود مقسمين إلى ثلاث مجموعات، ثم اصطفوا أمام حفر بطول ستة أمتار وعرض ثلاثة أمتار، حمل الجنود أسلحتهم وأطلقوا النار مباشرة عليهم.
اعترف جاك شيراك لاحقًا بالمسؤولية عن هذه التجاوزات في أثناء زيارته لمدغشقر في يوليو/تموز 2005، وفعل فرانسوا هولاند نفس الأمر في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، لكن لم تعترف فرنسا بعد بهذه الجرائم البشعة بحق أهالي مدغشقر.
بغية أن يفرض نفسه ويدوم، اقترف المستعمر الفرنسي العديد من الأعمال الإجرامية التي بقيت دون عقاب إلى الآن، ما سمح لها بمواصلة سياستها المخزية في العديد من دول العالم، لكن الحاجة إلى التذكير بهذه الأحداث غير المشرفة للضمير الإنساني ضرورية حتى يدرك العالم حجم الجرائم التي ارتكبتها فرنسا الاستعمارية ضد الإنسانية.