يواجه العراق أزمة مالية حادة ألقت بظلالها على جميع مرافق الحياة الاقتصادية والاجتماعية وغيرها من القطاعات جراء انخفاض أسعار النفط، هذا المورد الذي يعتمد عليه العراق بشكل شبه كامل في تمويل الموازنة، إضافة إلى ضعف مساهمة القطاعات الرئيسية في الاقتصاد العراقي – الزراعة والصناعة بفروعها كافة – في تعزيز موارد الموازنة.
إن من أهم أسباب حدوث الأزمة الاقتصادية والمالية الراهنة في العراق، أنها ناجمة عن انخفاض أسعار النفط منذ منتصف عام 2014، إذ هبطت هذه الأسعار من معدل أكثر من 100 دولار للبرميل إلى أقل من 40 دولارًا للبرميل، أي فقد أكثر من 60% من قيمته، وانخفاض أسعار النفط دون السعر الذي اعتُمد في الموازنة يزيد العجز ويسبب عدم الاستقرار المالي.
إضافة إلى أن القطاع الخاص العراقي مرتبط مباشرة بالدولة، وتهيمن عليه الشركات الصغيرة والصغيرة جدًا التي تعمل أساسًا في مجال تجارة التجزئة والبناء وخدمات النقل، وكذلك في الصناعة الخفيفة.
والسبب الأهم لحدوث الأزمة الاقتصادية الراهنة هو الفساد المالي والإداري للحكومات المتعاقبة من 2003 إلى الآن، كالعقود للمشاريع الوهمية والرواتب الفلكية للنواب والوزراء والرئاسات الثلاثة وحماياتهم ونثرياتهم والدرجات الخاصة.
البنك المركزي
يتمتع البنك المركزي في كل دول العالم باستقلاليته عن الحكومة ووزاراتها ومؤسساتها كونه يمثل السلطة النقدية ومهمته إصدار العملة وإدارتها وصياغة السياسة النقدية ومراقبة المصارف، وتعد العملة مفصلًا مهمًا في الاقتصاد والمجتمع فهي خزين القيمة وأداة التبادل وتحتفظ بقوة الإبراء، وغالبًا ما يكون البنك المركزي في صراع مع وزارة المالية في كل دول العالم بسبب التناقض في الأهداف والتناقض بين السياسة النقدية التي تتبناها البنوك المركزية والسياسة المالية التي تعتمدها وزارة المالية ليتباهى كل منهما بمنجزاته.
البنك المركزي العراقي يبيع بمزاد العملة يوميًا ما معدله 200 مليون دولار، للشركات والمصارف لأغراض استيراد البضائع والسلع الضرورية وتداولات محلية
الأهداف الرئيسية للبنك المركزي العراقي هي ضمان استقرار الأسعار المحلية وتعزيز نظام مالي مستقر قائم على المنافسة، كما سيعزز البنك المركزي النمو المستدام والعمالة والازدهار في العراق، أما وظائف البنك المركزي العراقي بالإضافة إلى تحقيق أهدافه الرئيسية هي:
– تنفيذ السياسة النقدية وسياسة سعر الصرف في العراق.
– تخزين وإدارة احتياطات الدولة من الذهب.
– إصدار وإدارة العملة العراقية.
– إنشاء وتحسين وتعزيز نظام مدفوعات فعال.
– إصدار التراخيص أو التصاريح بالإضافة إلى تنظيم القطاع المصرفي والإشراف عليه كما هو محدد في قانون البنوك.
– القيام بأي مهام أو معاملات إضافية في إطار القانون العراقي.
كما أن البنك المركزي العراقي مسؤول عن:
– الحفاظ على استقرار الأسعار.
– تنفيذ السياسة النقدية (بما في ذلك سياسات أسعار الصرف).
– إدارة الاحتياطات الاجنبية.
– إصدار وإدارة العملة.
– تنظيم القطاع المصرفي للنهوض بنظام مالي تنافسي ومستقر.
محافظ البنك المركزي العراقي مصطفى مخيف، أعلن الخميس 17 من ديسمبر/كانون الأول 2020، حزمة إجراءات للمحافظة على سعر صرف الدينار أمام الدولار في الأسواق المحلية.
جاء ذلك خلال اجتماع لمحافظ البنك المركزي مع اللجنة المالية في البرلمان العراقي، لبحث أزمة تراجع سعر صرف الدينار أمام الدولار، وصرحت اللجنة في بيان، أن مخيف أكد أن البنك لديه حزمة من الإجراءات ستحقق توازنًا مريحًا في سعر الصرف لعام 2021.
ومن بين الإجراءات، وفق البيان، إطلاق مبادرة بمبلغ 3 تريليونات دينار (نحو 2.5 مليار دولار) لدعم ذوي الدخل المحدود ومضاعفة توفير العملة الصعبة (الدولار) في السوق وزيادة نسب الفائدة على العملة العراقية المودعة في المصارف.
وصرحت لجان الرقابة البرلمانية، أن مليارات الدولارات التي يتم بيعها من البنك المركزي لأغراض استيراد بضائع وسلع، باعتها مصارف وتجار في السوق المحلية (السوداء) لتحقيق مكاسب مالية بملايين الدولارات، علمًا بأن البنك المركزي العراقي يبيع بمزاد العملة يوميًا ما معدله 200 مليون دولار للشركات والمصارف لأغراض استيراد البضائع والسلع الضرورية وتداولات محلية.
خطر سعر الصرف
يقصد بخطر سعر الصرف تذبذبه وعدم استقراره مما يخلق حالة من عدم الاستقرار في السوق تقود لنتائج كارثية على الاقتصاد والمجتمع.
أقدمت الحكومة العراقية على تخفيض قيمة العملة المحلية “الدينار” مقابل الدولار، إذ بلغ سعر الصرف بحدود 1460 دينارًا لكل دولار تقريبًا، وتخفيض قيمة العملة المحلية هو خفض سعر الصرف الرسمي لتلك العملة مقابل عملة دولية مرجعية، حيث يقل عدد الوحدات من العملة الأجنبية التي يمكن الحصول عليها مقابل وحدة من العملة الوطنية، وهو يختلف عن انخفاض سعر الصرف الخاضع لآلية العرض والطلب في السوق.
إن تخفيض قيمة الدينار العراقي في الوقت الحاضر لا يبدو ضرورة ملحة، إذ إن السياستين النقدية والمالية غير قادرتين على اتخاذ الإجراءات الكافية لكبح الضغوط التضخمية الناجمة عن تخفيض سعر صرف العملة المحلية بسبب عدم فاعلية أدوات السياستين لأسباب سياسية واقتصادية ومالية، ما يسبب حالة من عدم الاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي بسبب طبيعة سلوك السوق المالية والمصرفية والقطاع الأهلي.
كما أن قرار تخفيض قيمة العملة الوطنية في الظروف غير المستقرة ذو آثار سلبية مضاعفة ويخلق توقعات لمزيد من التخفيض، ما يربك أوضاع السوق وزيادة الطلب على العملة الأجنبية مع ضعف الثقة بالعملة الوطنية، كما يؤدي تخفيض قيمة العملة المحلية إلى ضغوط تضخمية، يتحمل معظم المواطنين آثارها السلبية نتيجة لخفض القدرة الشرائية للمواطنين، علمًا بأن استقرار سعر الصرف يلعب دورًا مهمًا في تدفقات الاستثمارات الأجنبية ويعطي خيار اللجوء إلى تعديل سعر الصرف إشارة سلبية للمستثمرين.
يعتمد غالبية المواطنين على تقاضي رواتبهم وأجورهم من الحكومة، وتخفيض قيمة العملة يكون بمثابة ضريبة تستقطع من دخولهم بنسبة التضخم، إلا إذا قامت الحكومة بزيادة الرواتب والأجور لمواجهة التضخم، أي تعويضهم مقدار الانخفاض في قدراتهم الشرائية، وعندها تكون الحكومة قد خصصت نسبة كبيرة مما حصلت عليه من فرق سعر الصرف لتعويض الموظفين والمتقاعدين، كما فعلت الحكومة التركية عند انخفاض سعر الليرة التركية أمام الدولار.
لكن الخطأ الكبير الذي وقعت فيه الحكومة العراقية هو التلميح بتخفيض رواتب الموظفين بدلًا من رفعها لمواجهة ارتفاع سعر الصرف وانخفاض القوة الشرائية للدينار العراقي.
تكمن دواعي التوجه نحو تخفيض سعر صرف الدينار العراقي في محاولة تغطية عجز الموازنة العامة للدولة بسبب ضعف السيطرة على النفقات العامة والإخفاق في تعظيم الإيرادات غير النفطية، وهو خيار يجدونه سهلًا، في الوقت الذي ينبغي معالجة الخلل وضعف الانضباط المالي وإعادة بناء الموازنة العامة للدولة في إطار متطلبات الاقتصاد الكلي، وفي ضوء متطلبات السياسة المالية والسياسة النقدية، وفي ضوء الفرص الواسعة والمتاحة لتعظيم إيرادات الدولة (من غير النفط)، وفي ضوء ضرورات إعادة النظر بهيكل مؤسسات الدولة التي تعاني من الترهل الخطير والفساد.
كما صرح مخيف، يوم الأحد الموافق 20 من ديسمبر/كانون الأول 2020، أن وزارة المالية هي المسؤولة عن رفع سعر الدولار، وأشار إلى أن موقف العراق من احتياطي العملة ما زال جيدًا.
وأكد “وزارة المالية طلبت رسميًا زيادة سعر الصرف إلى 1450 دينارًا مقابل الدولار مما أدى إلى اضطراب السوق”، مضيفًا “موقف العراق من احتياطي العملة الصعبة ما زال جيدًا”، وأشار مخيف إلى أن “ارتفاع سعر صرف الدولار أثر على السوق العراقية وستتضرر الطبقات الفقيرة ووزارة المالية هي المسؤولة عن دعم هذه الطبقات حيث ستضاعف مبالغ الرعاية الاجتماعية”.
وزارة المالية
أصدرت وزارة المالية الاتحادية في يوم السبت 19 من ديسمبر/كانون الأول 2020، بيانًا بشأن تغير سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار وجاء فيه:
إن تعديل سعر الصرف هو قرار سياسي للقيادة العراقية ويحظى بتأييد القوى السياسية والبرلمانية والفعاليات الاقتصادية التي شاركت مع الحكومة في نقاشات مطولة للتوصل إلى هذا الإجراء، بالإضافة إلى الجهات الدولية المختصة ومنها صندوق النقد الدولي الذي وعد بتخصيص مبالغ كبيرة لمواجهة انعكاسات الجائحة على الفئات الهشة وهي جزء مهم من برنامج الإصلاح الحكومي فيما يتعلق بجوانب الإصلاحات والتنمية الاقتصادية.
إن قرار تعديل سعر الصرف سيكون لمرة واحدة فقط ولن يتكرر مستقبلًا وستعمل الحكومة بالإضافة إلى البنك المركزي على تثبيت السعر الجديد الذي ينسجم مع متطلبات الإصلاح، فيما ستعمل الحكومة بشكل فوري على دعم القطاعات المتضررة والشرائح الفقيرة عبر إجراءات تتضمن زيادة مخصصات الرعاية الاجتماعية في الموازنة العامة من أجل تعويض الارتفاع المحتمل في أسعار بعض السلع المستوردة، كما أننا وجهنا المصارف الحكومية بزيادة معدلات سعر الفائدة تشجيعًا للمواطنين للاحتفاظ بمدخراتهم في هذه المصارف والاستفادة من الفائدة المرتفعة المقدمة إليهم .
إن ما يثير الاستغراب والنقاش أن يتسلم البنك المركزي أمرًا من وزارة المالية بخفض قيمة الدينار وكأنما البنك المركزي أحد المؤسسات التابعة لوزارة المالية، مما يؤشر فقدانه لاستقلاليته وتبعيته لوزارة المالية ويبدو أن الوزارة عاجزة عن تفعيل أدواتها، فألقت تبعات ذلك على البنك المركزي فاستجاب دونما عرض للأسباب النقدية ومبرراتها.
فتثبيت سعر الصرف يُعد هدفًا تسعى إلى تحقيقه كل الدول في تنميتها ضمن حزمة الأهداف الاقتصادية، وكانت خطط العراق أن يصل سعر صرف الدينار الواحد إلى دولار واحد في سنة 2008، وطرحت مناقشات حذف الأصفار وغيرها وعلى الرغم من كل المقومات التي كانت متوافرة آنذاك فقد تم تجاهلها.
معالجات البنك الدولي
يدعو تقرير جديد للبنك الدولي في 11 من نوفمبر/تشرين الثاني 2020، إلى تحفيز مالي عاجل وإصلاحات اقتصادية لمساعدة الفقراء والأكثر ضعفًا في العراق.
تسببت الصدمات المزدوجة لوباء COVID-19 وانهيار أسعار النفط في تحديات اقتصادية كبيرة ودفعت ملايين العراقيين إلى الفقر، وفقًا للعدد الجديد من المرصد الاقتصادي للعراق التابع للبنك الدولي.
أمام هذه التحديات الاقتصادية، يصبح تنفيذ الإصلاحات في العراق أكثر أهمية لتحقيق النمو وخلق فرص العمل، وفي ضوء ما تقدم، يقترح البنك الدولي وصفة إصلاح اقتصادي شامل تتطلع نحو المستقبل من خلال خلق بيئة مواتية لنمو يقوده القطاع الخاص والتنويع وخلق فرص العمل، ويتمحور حول اثنين من مجالات التركيز:
1. معالجة المعيقات الشاملة للتنويع الذي يقوده القطاع الخاص من خلال: الاستدامة المالية والحوكمة الاقتصادية وإصلاحات القطاع المالي وإصلاحات بيئة الأعمال وتحسين مخرجات رأس المال البشري وإصلاحات نظم الحماية الاجتماعية والعمل وإضافة التمويل المبتكر.
2. إصلاح الحوكمة وتعزيز مشاركة القطاع الخاص في قطاعات إنتاجية مختارة: إصلاحات الزراعة والصناعات الزراعية وإصلاحات قطاع الكهرباء وإصلاح قطاع الغاز، مع إضافة إصلاحات الصناعات التحويلية والصناعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر.
إن دور الدولة مهم في الاقتصاد العراقي كما هو الحال في كل الدول النفطية الريعية بسبب ملكية الدولة لقطاع النفط الذي يعد مكونًا أساسيًا في موارد الدولة العراقية ويشكل أكثر من 95% من إيرادات الدولة.
من الضروري أن يلعب القطاع الخاص دورًا بارزًا في عملية التنمية الاقتصادية في العراق، وذلك ضمن الإستراتيجية العامة للدولة، ويمكن إيجاد الصيغ الملائمة للعلاقة بين القطاع العام والقطاع الخاص ضمن مبادرة البنك الدولي، على أن يبقى للقطاع العام الدور القائد في عملية التنمية، وذلك للطبيعة الخاصة للاقتصاد العراقي تاريخيًا، مع تنشيط الفعاليات الاقتصادية لمؤسسات المجتمع المدني وإِشراكها في عملية التنمية الاقتصادية.