ترجمة وتحرير نون بوست
يدفع رد فعل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، المبالغ فيه على اغتيال المدرس صمويل باتي في كونفلانز سانت أونورين وعلى هجمات نيس التي جدت في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي فرنسا نحو اتباع نوع شمولي من الليبرالية. ومنذ حوالي عقدين من الزمن، وُظّف كل هجوم إرهابي في فرنسا لمزيد فرض رقابة الدولة وتعميم ما تفرضه من قمع. ومن الممكن أن يجادل الكثيرون بأن فرنسا أضحت تتجه نحو وضع باتت فيه الحريات المدنية مهددة.
خلال العقدين الماضيين، وقعت المصادقة على القوانين الأمنية. ووفقا لمقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بحماية حقوق الإنسان، قد تُقوض هذه القوانين الحقوق والحريات الأساسية حيث مررتها الحكومات المتعاقبة دون إخضاعها للنقاش. من جهته، يحاول ماكرون تمرير مشروعين من القوانين في آن واحد، وهما قانون الأمن العالمي وقانون تعزيز المبادئ الجمهورية، الذين اُعتبرا في البداية متعارضان مع “الانفصالية الإسلامية“. في المقابل، يرى البعض أن محاولته ترقى إلى اعتداء هائل وغير مسبوق على الحريات المدنية والدستورية.
في تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 2017، رفع الرئيس الفرنسي رسميًا حالة الطوارئ في البلاد، ليحل محله قانون مكافحة الإرهاب الذي يعدّ أكثر صرامة وينطبق على أي شخص، بما في ذلك الأحزاب السياسية والنقابات والمنظمات غير الحكومية. يمنح القانون الجديد صلاحيات خاصة لمديري الشرطة، وهم الممثلون المحليون لوزارة الداخلية الفرنسية، لإجراء مراقبة واسعة النطاق وتطبيق إجراءات مكافحة الإرهاب، في الكثير من الأحيان تحت إشراف قضائي محدود.
على هذا النحو، جعلت حكومة ماكرون فرنسا أكبر دولة أمنية في أوروبا، موظفة أعنف قوات الشرطة في القارة، وفقًا لتحقيق أجرته الأمم المتحدة في آذار/ مارس سنة 2019. بالإضافة إلى ذلك، تتعرض الحقوق والحريات الأساسية للهجوم تحت شعار “الحرب ضد الإسلاموية” و”الدفاع عن الجمهورية”، على غرار حرية التعبير والحرية الأكاديمية. في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أقر مجلس الشيوخ الفرنسي تنقيحا يعلن من خلاله عن ضرورة تماشي “الحريات الأكاديمية”، بما في ذلك التدريس والبحث وحرية التعبير الأكاديمي، مع قيم الجمهورية.
السيطرة على الإسلام
بعد مقتل باتي، ارتفعت بعض الأصوات لتقرّ بأنّ سيادة القانون “غير مناسبة لمحاربة الكراهية” أو “تقييد التيار الإسلامي بدرجة كبيرة”. وفي هذا الإطار، وصف نواب بارزون سيادة القانون “بالعبء”، بينما طالب مسؤولون آخرون فرنسا بالتخلي عن تشريعات السلام واعتماد “تشريعات حرب” أكثر تشددًا.
سارعت السلطات الفرنسية إلى قمع الجماعات الإسلامية بعد اغتيال المدرس صمويل باتي، الذي عرض صورة للنبي محمد (وكالة فرانس براس).
تشير مثل هذه التصريحات إلى انجراف فرنسا السريع نحو اللاليبرالية، الأمر الذي قوبل بتنديد الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية التي وصفت مشروع قانون الأمن العالمي بأنه “تهديد خطير لحقوق الإنسان“. في هذا الصدد، ينبغي فهم إنذار ماكرون النهائي للأئمة الفرنسيين للتوقيع على “ميثاق قيم جمهورية” آخر خاصة وأنه يستبعد “الإسلام السياسي” ويفرض استخدام اللغة الفرنسية في جميع المساجد. كما ينصّ هذا الميثاق على أن تتوافق جميع التعاليم والصلوات والمواعظ الإسلامية التي تُدلى باللغة الفرنسية رسميا مع “قيم الجمهورية”.
أعلن وزير الداخلية، جيرار دارمانين، منذ سنوات أنه ينبغي على الدولة أن تمارس ضغوطا من أجل إنشاء “إسلام فرنسي علماني” من شأنه “استيعاب قيم الجمهورية بالكامل”، وذلك من خلال توظيف المؤسسات التي ترعاها الدولة على غرار “مجلس الإسلام الفرنسي” و”إمام فرنسا“، إلى جانب تدريب جميع الأئمة على “تلقي تعليم ديني لاهوتي لا يتعارض مع قيم الجمهورية”.
يبدو جليا الانتهاك الصارخ لروح ونص قانون 1905 بشأن الفصل بين الكنيسة والدولة، والذي يحظر على الدولة التدخل في مسائل العقيدة الدينية ويطالبها بأن تظل “محايدة في الأمور الدينية”. كما تظهر مثل هذه المشاريع أن أسوأ أعداء العلمانيين الفرنسيين وأكثرهم فاعلية، هم في الواقع أولئك الذين يتظاهرون بأنهم أبطالها. ويتمثل الهدف وراء ذلك في ضمان سيطرة الدولة، من خلال إجراءاتها القسرية وأجهزتها القمعية، بشكل مباشر وحصري على الإسلام في فرنسا، بما في ذلك الهياكل التنظيمية والمؤسسات والموظفين واللاهوت والعقائد.
يبرز ذلك تحديدًا، من خلال تجريم “الإسلام السياسي”، عن طريق حظر المنظمات غير الحكومية على غرار “باركا سيتي” والتجمع المناهض للإسلاموفوبيا، وهي منظمات كانت تنتقد الحكومة، وتضع تحت المراقبة البنية التحتية الكاملة للمؤسسات الإسلامية، بما في ذلك الجمعيات والمساجد والنوادي الرياضية (التي ينضوي فيها أعضاء مسلمين). فضلا عن ذلك، يسعى ماكرون إلى تجريد المسلمين من إمكانية وجود تنظيم ذاتي حقيقي يقوم على القواعد ومستقل خارج سيطرة الدولة. ولا يمكن للمرء أن يتخيل انتهاكات أسوأ من ذلك للعلمانية في فرنسا.
يمثل التحول من شنّ “حرب على الإرهاب” إلى “حرب على الإسلاموية” ثم “حرب على الانفصالية” تراجعًا تاريخيًا غير ليبرالي في الثقافة والسياسة والمجتمع في فرنسا. في الواقع، انتقلت الحرب إلى مستويات أعلى حيث لم يعد المجرمون الحقيقيون والإرهابيون وحدهم المستهدفون في هذا الإقصاء.
يمكن لأي شخص أو جمعية أو مسجد أو جماعة مصنفة من قبل الحكومة أو الإدارة أو المحافظين المحليين أو في الكثير من الأحيان من وسائل الإعلام المعادية للإسلام على أنها “إسلامية” أو “سلفية” أو “انفصالية”، أن يصبح في مرمى نيران الحكومة، بغض النظر عن براءتهم. من جانبه، دافع دارمانين، وزير الداخلية، بفخر عن السياسة القائلة إنه في حال عدم وجود دليل على جرائم فعلية، مثل التحريض على الكراهية أو التواطؤ مع الإرهاب، ضد مئات المساجد “السلفية” والجمعيات “الإسلامية” والأندية الرياضية، المخطط إغلاقها، فلا يزال يتعين إغلاقها لأي سبب آخر، مثل عدم الامتثال لتدابير السلامة (على غرار وجود مطفأة حريق قديمة داخلها).
لافتة احتجاجية كُتب عليها: “حرية التعبير لا تعني حرية الإساءة” في مونتريال، كندا في 31 تشرين الأول/ أكتوبر.
لم يعد من النادر أن يخضع شخص للرقابة والحظر وحتى تقديمه إلى العدالة بصفته “المؤلف الفكري” و”الشريك” غير المباشر أو المباشر للجماعات الإرهابية الفعلية، مثل تنظيم الدولة، على أساس انتقاد “الجمهورية” (أو صحيفة شارلي إيبدو أو معلم مثل باتي) بقسوة مفرطة بعض الشيء أو بسبب الحديث كثيرا عن الاستعمار الفرنسي أو لفضح فرنسا بسبب عنصريتها وكراهيتها للإسلام.
في الوقت الراهن، تعتبر السلطات الأعلى في البلاد هذه الأفعال على أنها “تشجيع على الانفصال” و”تحريض على كراهية فرنسا”. ويقال إنها “تغذي الإرهاب”، وبالتالي، هناك أسباب كافية لوضع حد لها بقرار إداري. تعدّ القضية الأكثر دلالة على هذا الأمر (حتى الآن)، المثال الصادم لجمعية التجمع ضد الإسلاموفوبيا، وهي الدفاع القانوني الرئيسي في فرنسا ومجموعة مناهضة للعنصرية للمسلمين، التي حظرها وزير الداخلية بأمر من ماكرون على أساس إعلانها أنها “إسلامية”، وما يجعلها “عدوة الجمهورية” دون وجود أي دليل على ارتكاب مخالفات أو جرائم من أي نوع.
ذنب بالارتباط
يقع توسيع عمليات المطاردة لتشمل “الإسلاميين” أو المسلمين فحسب، وإنما أيضا أي شخص يعتبر متعاطفا أو “شريكا فكريا” سواء للإرهابيين الفعليين أو “للإسلام السياسي”. كما يتضح من العديد من الحالات الأخيرة، بما في ذلك القبض على والد أحد طلاب باتي الذي نشر على فيسبوك أنه ينبغي فصل المعلم واتهامه لاحقا بالتواطؤ المباشر في الإرهاب والمشاركة في منظمة إرهابية. ففي فرنسا، يمكن أن يحملك القانون الآن المسؤولية المباشرة عن أقوال وجرائم الآخرين. وفي هذه الحالة، يُضفي ماكرون الطابع المؤسسي على الطريقة الستالينية المعروفة المتمثلة في الذنب بالارتباط.
بالمثل، يسمح “قانون تعزيز المبادئ الجمهورية” بحل جمعية أو مسجد أو منظمة بأكملها إلى غير ذلك، إذا ارتكب أحد أعضائها جريمة أو انتهك القانون أو حتى مجرد انخراطه في خطاب أو “أفعال من المحتمل أن تشكك في قيم ومبادئ الجمهورية”. كما أن الفحص الدقيق لخطاب حكومة ماكرون وأفعالها لا يُظهر فقط مذهبها الجمهوري الجديد ذي الطابع المكارثي، وإنما أيضا طبيعتها الشمولية التي كانت واضحة بالفعل في مشروع ماكرون الأورويلي حول “المجتمع اليقظ“.
بهذا المعنى، فإن أي مؤسسة أو بديل أو مجرد معتقد مختلف أو نظام قيم أو فكر أو عقيدة أو أيديولوجية لا تتوافق تماما مع “قيم الجمهورية” و”مبادئها” و”روحها”، وإنما تتماشى مع وجهة نظر غير متسامحة وغير ليبرالية وبعيدة عن الواقع ومشوهة للغاية وخائنة ومتعصبة تجاهها يمكن تجريمها باعتبارها “تهديدا للجمهورية”.
من الممكن حظر المنظمات الوطنية الكبرى مثل جمعية التجمع ضد الإسلاموفوبيا بكل بساطة بمجرد الإعلان عن مشاركتها في “دعاية إسلامية” وأنها على هذا النحو من “أعداء الجمهورية”، بينما تعهدت الحكومة بحدوث الشيء نفسه لأي مجموعة أو فرد من شأن خطابهم “نشر الكراهية ضد قيمنا”. ويتمثل الهدف هنا في إنهاء المعارضة من أي نوع، وليس فقط “الإسلاميين”، من خلال تصويرها على أنها تجسد “كراهية فرنسا” أو تحيك “مؤامرة ضد الجمهورية“.
كنتيجة لذلك، يمكن لمجموعة كاملة من الجرائم الجديدة أن تمكن الحكومات، سواء في الوقت الراهن أو في المستقبل، من قمع المنتقدين من خلال الادعاء بأنهم “يتحدون قيم الجمهورية”. في الواقع، يقع بالفعل استخدام خطاب “الفاشية الإسلامية” و”اليسار الإسلامي” بشكل روتيني ضد أحزاب المعارضة والجامعات غير الإسلامية.
لافتة يحملها أحد المتظاهرين كُتب عليها: “دعوا المسلمين يعيشون عقيدتهم” خلال مسيرة ضد الإسلاموفوبيا أمام محطة الشمال، في باريس في 10 تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 2019.
من خلال مهاجمة كل هذه الحريات، تغذي سياسات ماكرون الجهاد من خلال تشتيت المجتمع الفرنسي أكثر عن طريق تنفير المسلمين الفرنسيين والتشكيك المستمر في ولائهم لفرنسا وافتقارهم المفترض للرغبة في “الاندماج”؛ وعن طريق معارضتهم للجهاد بتسليح العلمانيين ضدهم؛ بالإضافة إلى تأجيج الرواية الجهادية القائلة إن الدول المعادية مثل فرنسا تحارب الإسلام وستظل تعتمد التمييز ضد المسلمين.
على مدى عقود، منذ “قضية الحجاب” الأولى على الأقل في سنة 1989 التي أثارت هذا الذعر القومي، كان رد فعل فرنسا المعادي للإسلام والمتميز بجنون العظمة تجاه “مشكلة المسلمين” الوهمية في الغالب، وهي مشكلة أنشأتها هي نفسها، مدفوعة إلى حد كبير بالخوف غير المبرر من خلال المبالغة الجسيمة فيما يعد تهديدا ضئيلا وجهلا فادحا بالإسلام والمسلمين الفرنسيين والحسابات الساخرة والتفكير التآمري حول “الفتح الإسلامي لأوروبا/ عوروبا” فضلا عن الأفكار المسبقة القديمة والمتجذرة عن الإسلام والمسلمين. ولا يسعنا إلا أن نذكر بإيجاز المشاكل الرئيسية في هذا الرد، كما يتضح من خطاب ماكرون حول الانفصالية الإسلامية.
نهج اختزالي
على مدى سنوات، وكتفسير للجهاد وأسبابه الجذرية المزعومة، قدمت وسائل الإعلام والحكومات الفرنسية نسخة خاما من “نظرية السير الناقل /المنحدر الزلق/ غرفة الانتظار”، التي ستُشكل من خلالها العديد من “المذاهب” الغامضة وغير المحددة بجدية على غرار “الإسلاموية” و”السلفية” و”الطائفية” و”الانفصالية الإسلامية”، بالإضافة إلى المداخل الأيديولوجية والثقافية التي تزدهر فيها الجهادية.
وفقا لهذا التفكير، إذا أراد المرء القضاء على “التهديد الجهادي” أو تقليله، فسيحتاج إلى مهاجمة أي شيء وأي شخص مرتبط “بأيديولوجية” “الإسلاموية” أو “الإسلام السياسي”. وتستند هذه الفرضية الفظة والاختزالية إلى فزاعات مفاهيمية خاطئة أو مبتذلة وبدائية. ومن الواضح أن الأساس الذي يستند إليه رد فرنسا على الجهادية، خاطئ ومناف للحقائق.
لا يوجد باحث جاد (على عكس الأيديولوجيين) في الإسلام والتطرف والجهادية للبحث في مثل هذه المفاهيم. على العكس من ذلك، دأب معظم كبار العلماء الخبراء سواء الفرنسيين أو الأجانب أو المستقلين أو الحكوميين، لسنوات على فضح مثل هذه التفسيرات الزائفة المبسطة والمحدودة والخالية من البيانات، مع تحدي دور الأيديولوجية الدينية باعتبارها السبب الجذري أو الرئيسي للتطرف العنيف. بدلا من هذه الأدوات المفاهيمية المصممة خصيصا لوسائل الإعلام، يقدم العلماء تفسيرات ومتعددة الأسباب وجادة من الناحية العلمية وأكثر تعقيدا وتقدما وقائمة على البيانات.
مع ذلك، تستند سياسة ماكرون بأكملها تجاه الإسلام و”الحرب على الإرهاب” إلى أكاذيب نظرية السير الناقل. ونظرا لأنها تُخطئ بشكل كبير في تحديد الأسباب الجذرية للظواهر، لن تكون هذه السياسات غير فعالة فقط، وإنما ستنتج أيضا رد فعل حاد من جميع الأنواع، بما في ذلك تفاقم المشاكل التي تسعى إلى حلها.
المصدر: ميدل إيست آي