غالبًا ما تدعي فرنسا دفاعها عن حقوق الإنسان بما فيها حق تقرير المصير، حتى إنها خاضت العديد من الحروب في العالم تحت هذا الشعار، لكن جزيرة مايوت تكشف النفاق الفرنسي، حيث إنها تتصرف بشكل يتعارض مع تلك المبادئ.
نتطرق في هذا التقرير ضمن ملف “أقاليم ما وراء البحار” لجشع فرنسا وكيفية فصلها جزيرة مايوت عن جزر القمر، وتعاملها معها باعتبارها مستعمرة تابعة لها، رغم عدم اعتراف المنظمة الأممية بذلك.
الاستيلاء على مايوت
تملك جزيرة مايوت أسماء عديد مثل جزيرة الموت ومايوطة وماهوري، وتقع في المحيط الهندي بالطرف الشمالي من القنال الفاصل بين موزمبيق ومدغشقر، وهي جزء من أرخبيل جزر القمر. في أبريل/نيسان 1841 اشترت فرنسا الجزيرة من السلطان أندريان سولي بعدما كانت معقلًا للقراصنة.
صادقت الدولة الفرنسية على هذه المعاهدة رسميًا عام 1843، وسميت الجزيرة بـ”مايوت” نسبة لاسمها العربي القديم “جزيرة الموت”، لأنها محاطة بالشعاب المرجانية التي تحطم السفن المقتربة من شواطئها، فكانت بمثابة جدار يحمي الجزيرة من أعدائها.
احتل الفرنسيون الجزيرة واستخدموها كقاعدة للاستيلاء على الجزر الثلاثة الأخرى، والتوسع الاستعماري في المنطقة، وفي عام 1886 أنشأت فرنسا محمية على بقية أرخبيل جزر القمر الذي يتكون من القمر الكبرى موهيلي وأنجوان، وقد أصبحت جزر القمر مستعمرة فرنسية رسميًا عام 1912، ووضعت تحت حكم الحاكم العام للاستعمار الفرنسي في مدغشقر عام 1941.
بقيت جزيرة مايوت تحت الحكم الفرنسي، غير أنها لم تحظ باعتراف كل من جزر القمر والاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية
في السنوات الأولى من الاحتلال الفرنسي، أُفرغت هذه الجزيرة من سكانها الأصليين بسبب الحروب، وكذلك بسبب نزوح السادة القدامى وجزء من عبيدهم، ما جعل معظم المدن مهجورة، فبدأت الإدارة الفرنسية إعادة توطين الجزيرة، حتى تكون المنطقة تحت سيطرتها كليًا.
بعد الاستيلاء الكامل على الجزيرة وإحكام السيطرة عليها، حولتها إدارة الاحتلال الفرنسي إلى مستعمرة مخصصة للزراعة لإنتاج الكاكاو والبن، يخصص جزء من المحصول إلى المستوطنين فيما يتم إرسال الباقي إلى باريس.
مايوت ترفض الاستقلال؟
في 25 من أغسطس/آب 1972، أدرجت اللجنة الخاصة المعنية بإنهاء الاستعمار التابعة للأمم المتحدة أرخبيل جزر القمر في قائمتها للأراضي التي ينبغي أن تحقق تقرير المصير، وفي 15 من يونيو/حزيران 1973، وقعت فرنسا وجزر القمر اتفاقيات تتعلق بالحصول على الاستقلال.
في 22 من ديسمبر/كانون الأول 1974، نظمت فرنسا استفتاءً في جزر القمر، لاستشارة سكانها بخصوص رغبتهم في الاستقلال من عدمه، فصوت 95% من سكان جزر القمر الكبرى وأنجوان وموهيلي ومايوت لصالح الاستقلال.
في هذا التصويت اختار سكان مايوت البقاء تابعين لفرنسا، حيث صوت لذلك 63.8%، فقرر الفرنسيون إعادة الاستفتاء هناك مرة أخرى عام 1976، وهذه المرة صوت 65% من سكان جزيرة مايوت لصالح البقاء تحت الإدارة الفرنسية، في حين صوت 95% من سكان الجزر الأخرى لصالح الاستقلال.
وفي الأول من يناير/كانون الثاني 1976، أعلنت إدارة الاحتلال الفرنسي قبولها استقلال جزر القمر إلا جزيرة مايوت، ونتيجة لاستفتاء أجري في مايوت في 31 من مارس/آذار 2011، أصبحت الجزيرة رسميًا الدائرة 101 في فرنسا والإدارة الخامسة في الخارج، وفي 2014 حظيت باعتراف الاتحاد الأوروبي.
فرنسية لكن دون اعتراف دولي
بقيت جزيرة مايوت تحت الحكم الفرنسي، غير أنها لم تحظ باعتراف كل من جزر القمر والاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية، إضافة إلى الأمم المتحدة، ويعتبر الاتحاد الإفريقي هذه الأراضي محتلة من قوة أجنبية.
وتعتبر الجمعية العامة للأمم المتحدة استفتاء فبراير/شباط 1976 باطلًا، كما أنها تدين الوجود الفرنسي في جزيرة مايوت، لكن يبقى هذا القرار رمزيًا فليس له قوة قانونية (غير ملزم في مسائل القانون الدولي).
استخدمت فرنسا الاستعمارية الشركات العسكرية والأمنية الخاصة والمرتزقة كوسيلة لانتهاك حقوق الإنسان
تستند الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى إعلان 14 من ديسمبر/كانون الأول 1960 “بشأن منح الاستقلال للدول والشعوب المستعمرة” النقطة رقم 6 الخاصة بالحفاظ على وحدة أراضيها، وفي قرارها الصادر في 6 من ديسمبر/كانون الأول 1994، أشارت الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى عضوية جزيرة مايوت في دولة جزر القمر وأكدتها، لكن منذ عام 1995 لم تُدرج قضية مايوت على جدول أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ما زالت جزر القمر تواصل المطالبة بالجزيرة وتعتبرها جزءًا منها، فقد عرضت القضية على الأمم المتحدة عام 2009، لكن فرنسا استخدمت حق النقض (الفيتو) متحججة بالاستفتاءات التي أعطت باريس أحقية أكبر بالجزيرة.
المرتزقة في خدمة فرنسا
استخدمت فرنسا الاستعمارية الشركات العسكرية والأمنية الخاصة والمرتزقة كوسيلة لانتهاك حقوق الإنسان وإعاقة ممارسة حق الشعب في جزر القمر في تقرير مصيره، حيث عرفت البلاد سلسلة من الانقلابات التي حرض عليها المرتزقة.
في 6 من يوليو/تموز 1975، أعلنت جزر القمر من جانب واحد استقلالها تحت قيادة أحمد عبد الله، تلتها سلسلة من الانقلابات التي أغرقت البلد في اضطرابات سياسية واجتماعية، ففي 3 من أغسطس/آب 1975، بعد شهر بالكاد على الاستقلال، وقع الانقلاب الأول وحل سعيد محمد جعفر محل أحمد عبد الله.
لم يبق جعفر في السلطة لفترة طويلة، ففي عام 1976 استولى علي صويلح على السلطة بالقوة، واحتفظ بها لمدة عامين حتى عام 1978، عندما قام أحمد عبدالله بانقلاب آخر نُفذ بمساعدة مرتزق معروف وضابط سابق في الجيش الفرنسي، بوب دنارد، الذي كان اسمه الحقيقي جيلبرت بورغود.
ظل عبدالله في السلطة حتى عام 1989، وفي بداية تلك الفترة، أنشئ الحرس الرئاسي بقيادة بوب دنارد، وكان مكونًا من مرتزقة مدججين بالسلاح، جلبهم دنارد إلى جزر القمر، كان الحرس، المسلح وقيادته من دينارد، مسؤولًا عن حماية الرئيس وإبقائه في السلطة.
بعد 11 سنة، يوم 26 من نوفمبر/تشرين الثاني 1989 اغتيل أحمد عبدالله بتحريض من الجيش، بعدها بثلاثة أيام قام دينارد والحرس الرئاسي بانقلاب، حيث قتل رجال الشرطة واعتقل مئات الأشخاص ونزع سلاح الجيش النظامي وعزل رئيس المحكمة العليا، خليفة عبد الله الدستوري، وحل محله محمد سعيد جوهر الذي قيل إن دينارد اختاره.
في 15 من ديسمبر/كانون الأول 1989، ردت فرنسا على هذا الانقلاب بعزل بوب دينارد الذي تولى الحكم، وتوجه دينارد مع حلفائه إلى بريتوريا، حيث وضع قيد الاعتقال، ومع عودته إلى فرنسا في فبراير/شباط 1993، تم اعتقاله ثم تبرئته من مقتل أحمد عبد الله.
هذه الانقلابات المتكررة والإطاحة بالحكومات المتعاقبة من مرتزقة فرنسا وانعدام الاستقرار أعاقا بشدة حق الشعب القمري في تقرير مصيره، كما أدى عدم الاستقرار السياسي إلى منع أبناء جزر القمر من تحقيق الوحدة الوطنية، ما أدى إلى تشظي المجتمع القمري وضعف مؤسسات الدولة وعدم قدرتها على تلبية احتياجات السكان بالشكل المناسب، وفق تقرير صادر عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة سنة 2014.
أدت أعمال المرتزقة، التي غالبًا ما ترتبط بالعنف إلى تقويض الحقوق الأساسية للمواطنين القمريين أيضًا، بما في ذلك حقهم في الحياة والأمن والحرية والسلامة البدنية، وكذلك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية اللازمة لتنمية المجتمع القمري وحسن سيره.
هَدف المرتزقة إلى زعزعة استقرار جزر القمر بعد استقلالها وإضعافها سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، حتى يعيقوا سلطات البلاد عن المطالبة بحقهم في تقرير المصير، كما لجأت فرنسا إلى زعزعة الاستقرار لتعزيز الرأي القائل بأن الاستقلال بدلًا من أن يكون مصدر تقدم لجزر القمر، هو سبب الأزمات والفقر.
فرنسا فصلت جزيرة مايوت عن باقي جزر القمر الثلاثة، الأمر الذي خرب وحدة أراضي جزر القمر وساهم في تدهور الوضع هناك، مع ذلك دائمًا ما تتقدم باريس المنابر لإعلان دعمها حركات التحرر وحق الشعوب في تقرير مصيرهم.