تعرف إيران كيف تجمد صراعاتها لأعوام طويلة، كما تعرف أيضًا كيف تجبر الخصم على التراجع، أسباب كثيرة جعلتها تصل إلى هذه الكيفية، على رأسها الأيديولوجيا والحمولة التاريخية للفرس، بجانب إجادتها بشكل تام للعبة الجغرافيا السياسية، والأخيرة لا يتم التركيز عليها كثيرًا في التقارير الصحفية والإعلامية أو حتى التحليلات المتعلقة بالسلوك الإيراني وتفسيراته.
ما هي الجغرافيا السياسية؟
علم الجغرافيا السياسية معني بدراسة آثار ـ الأرض ـ الجغرافيا على المستوى البشري والمادي في السياسة والعلاقات الدولية، حيث يعتبر منهجًا مختلفًا في دراسة السياسة الخارجية لفهم وتفسير وتوقع السلوك السياسي الدولي من خلال المتغيرات الجغرافية.
مع أن الجغرافيا السياسية علم أكاديمي حديث، إلا أن مبادئها تعود إلى عدة فلاسفة على رأسهم أرسطو الذي لعب على الحجم السكاني الأمثل والمساحة الأفضل للدولة، والفيلسوف المسلم ابن خلدون الذي كتب عن دورة حياة الدولة، والجغرافي الألماني فريدريك راتزل وهو أول من أسس للمصطلح في كتابه الجغرافيا السياسية عام 1897، ولهذا فالألمان حتى الآن أكثر من كتبوا في الجغرافيا السياسية.
يزج المصطلح بالمناخ والتضاريس والديموغرافيا والموارد الطبيعية والعلوم التطبيقية لحسم صراعات الدول مع بعضها، حيث يجلب المياه الإقليمية والإقليم البري والتاريخ الدبلوماسي وعلاقات المصالح بين الجهات الفاعلة في السياسة الدولية ويضعها على الطاولة لبحث كيفية المقاومة أو الهجوم على حد سواء.
لعبة إيران
تحتل جمهورية إيران الإسلامية المرتبة الـ17 بين أكبر الدول في العالم، واستحواذها على الاهتمام والزخم العالمي ليس فقط بسبب برنامجها النووي المثير للجدل، لكن أيضًا بسبب أدوارها العديدة في الشؤون الإقليمية والعالمية، فضلًا عن قيادتها لجبهة الرفض المطلق لـ”إسرائيل” في العالم.
الطبيعة شبة العسكرية للنظام الإيراني جعلته منفتحًا للغاية منذ بداية ظهوره على كل علوم المواجهات بما فيها الجغرافيا السياسية، ما أكسبه مهارات عدة في معرفة أبعاد النظام العالمي الجديد ومعنى الثوابت الأساسية غير القابلة للتغيير، التي يمكن استخدامها لحسم المعارك المختلفة مثل الفضاء والسلوك الإقليمي والأرض التي يحكمها باعتبارها قيمةً مركزيةً.
تضخمت إيران في استخدام ملكات الجغرافيا السياسية منذ 2003، وتحديدًا بعد إسقاط نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين على يد التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، الذي احتل العاصمة بغداد وحاول كتابة تاريخ جديد للمنطقة على الهوى والمزاج الأمريكي.
لكن إيران وخلال أشهر فقط، أحبطت أهداف الولايات المتحدة في العراق، بعدما بدأت تنفيذ إستراتيجية لإعادة تشكيل الديناميكية السياسية العراقية بالاعتماد على خطوط لوجستية ممتدة معها، وتصدير مجموعات محنكة سياسيًا وعقائديًا وعسكريًا، وهؤلاء طوروا أول ميليشيا أجنبية في بلاد الرافدين على نفس نهج حزب الله اللبناني.
كان الانهيار السريع للاستقرار السياسي في العراق وغياب إستراتيجية عربية أو حتى غربية لمنع تدخل إيران في شؤونه سمح لطهران باقتحام الملعب خلال مرحلة انهيار الدولة، وهي نفس المقدمات التي نفذت من خلالها في الثمانينيات بلبنان، وشكلت قوة حزب الله وأصبح قوة لا يستهان بها في السياسة اللبنانية والإقليمية.
نفس الأمر تكرر مع سوريا عام 2011، إذ استغلت الحرب الأهلية لتوفير بدائل إقليمية وتشكيل إستراتيجية تحقق أهدافها ومبادئها العقائدية الأساسية، ونفس الأمر تكرر أيضًا في اليمن، إذ دعمت الحوثيين بقوة، ما شكل لها فرصة تاريخية لإلحاق الضرر بالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لأول مرة منذ الثورة الإسلامية عام 1979.
خلقت إيران قوى ناعمة تعتمد لأول مرة على قدرة الكيان أو الذراع وليس بالضرورة التدخل المباشر لها لخلق ترابط وثيق معها على أسس الثقافة والقيم والأفكار، بجانب تقوية الأذرع بنواة صلبة سواء على المستوى العسكري أم الدبلوماسي، ومدهم بالمال والخبرة اللازمة لذلك تمهيدًا لإنشاء وتطوير شبكات دينية عبر الحدود بهدف تشجيع التغييرات الدينية والسياسية المهمة في المنطقة.
استطاعت إيران عبر التحرك الجيوسياسي المدروس بعناية تحقيق تطلعاتها في أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي وتأمين عمقها الإستراتيجي عبر زرع شراكات مع مختلف الجهات الفاعلة “الحكومية وغير الحكومية”، ما مكنها من توفير ممرات بديلة لتقديم المساعدة العسكرية والمالية والمادية إلى حلفائها ووكلائها وشركائها في جميع أنحاء العالم.
عقدت إيران صفقة شراكة كاملة مع الصين مدتها 25 عامًا لتوحيد قواهما عبر العديد من الجبهات
من نفس المنطق، لعبت إيران على إحداث تقارب أيدلوجي مع مختلف الحركات الإسلامية في إفريقيا، فدعمت اتحاد المحاكم الإسلامية الصومالي الذي قاتل ضد الحكومة الانتقالية واستولى على مقديشو قبل أن يهزمه الجيش الإثيوبي.
كذلك اخترقت العمق الإريتري ـ العلماني ـ لكن من خلال تعزيز العلاقات السياسية والتجارة والاستثمارات الإيرانية في الاقتصاد الإريتري، ما أدى إلى إحداث ضغوط شرسة على منافسيها في المنطقة، لا سيما السعودية التي كرست المزيد من مواردها لمواجهة التهديد الإيراني في القارة السمراء.
من نفس المنطلقات، عقدت إيران صفقة شراكة كاملة مع الصين مدتها 25 عامًا لتوحيد قواهما عبر العديد من الجبهات، من تجارة الطاقة ومشاركة التكنولوجيا إلى تعزيز الجيش والتعاون الاستخباراتي على أن تظل شروط الاتفاق سرية.
كان اللافت للجهات الاستخباراتية العالمية التي سربت بعض بنود الاتفاق للإعلام، هي الاستثمارات الصينية المقترحة على طول الساحل الإيراني، بما في ذلك توسيع مرافق الموانئ في جاسك وتشابهار، وهي معروفة بموقعها الجيوسياسي بالغ الأهمية، إذ تقع في شرق مضيق هرمز وتطل على الممر البحري الوحيد في العالم الأكثر أهمية، مما يعني تحكمها بمشاركة الصين فيما يقرب من ثلث النفط المنقول بحرًا للعام عبر هرمز ــ 80% منه يتدفق إلى الأسواق الآسيوية ـ.
وبالتالي الشراكة هنا بين إيران والصين، تهدد بشكل مباشر مصالح مصدري الطاقة في الشرق الأوسط مثل الإمارات العربية المتحدة والسعودية، ناهيك بخلق صداع دائم للأسطول الأمريكي الخامس المتمركز في البحرين.
خطة 2025
تملك إيران رؤية كاملة حتى عام 2025 أهم بند فيها هو حلم الوصول إلى مكانة تجعلها القوة المركزية الأولى في المنطقة، وبالتالي ستستمر في المزج بين القوة الناعمة والصلبة من خلال التعاون الإستراتيجي وتشكيل التحالفات مع بعض الأنظمة كسوريا والعراق، وستدفع بالتأثير المذهبي باستخدام الطوائف الشيعية في لبنان واليمن والسعودية، ولن تتوقف عن الدعم العسكري والاقتصادي المباشر لوكلائها في اليمن.
أكثر ما يجعل إيران مستمرة في مشروعها، عدم وجود مشروع عربي بديل، لهذا تلعب طهران الآن على جعل العالم الإسلامي بأكمله ضمن أولويات اهتماماتها، فتنسج من ناحية علاقات اقتصادية قوية مع القوى المركزية والرئيسية فيها لا سيما التي تحتفظ بعلاقة ديناميكية معها مثل تركيا، ومن ناحية أخرى تتبنى نهجًا مؤيدًا للقضية الفلسطينية، وتدعم فصائلها سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا وتحديدًا حركة حماس.
الطموح الإيراني سيظل قائمًا ومحصورًا ضمن دائرة الخليج العربي والبعد الإسلامي والعربي
تعلم إيران جيدًا مكانة القضية الفلسطينية لدى شعوب المنطقة، وتدفع نفسها في صدارة رعاتها حتى تتمكن من وجدان الشعوب والتأثير فيهم، وخاصة بعد ابتعاد الكثير من الأنظمة العربية عن الملف الفلسطيني والتدخل فيه بشكل ناعم بعد انتشار موجات التطبيع في المنطقة.
هذه الترتيبات تؤكد أن الطموح الإيراني سيظل قائمًا ومحصورًا ضمن دائرة الخليج العربي والبعد الإسلامي والعربي، لهذا تستمر في حشد قوتها لضمان فرض مكانتها وعدم تجاوزها في أي ترتيبات أمنية أو سياسية، وجهودها في اليمن وسوريا ومساحات أخرى تؤكد إتقانها للعب على وتر الجغرافيا السياسية للسيطرة على المياه الدافئة والمضيق والثقافة الإسلامية.