قررت الجمعية العامة غير العادية لشركة الحديد والصلب المصرية، تصفية الشركة بعد 67 عامًا من العطاء والتنمية (تأسست عام 1954)، وذلك خلال الاجتماع الذي عقد أول أمس الإثنين، مرجعة هذه الخطوة إلى ارتفاع خسائرها خلال الأونة الأخيرة وعدم قدرتها على العودة للعمل مجددًا.
تصفية الحديد والصلب حلقة في مسلسل سقوط القطاع العام، ففي العام المالي 2020/2021 تم تصفية 29 شركة حكومة من إجمالي 118 شركة موزعة على 8 شركات قابضة، فيما تم دمج عشرات الشركات الأخرى في مجالات القطن والغزل والنسيج والسماد.
القرار أحدث حالة من الغضب داخل الشارع المصري الذي بدأ يتشكك في مثل هذه التحركات التي تستهدف القطاعات العامة التي يعتبرها ركيزة الدولة الأبقى والأقوى في مواجهة التحديات، وذلك لحساب مصالح فئوية خاصة تحقق أرباحا طائلة من وراء هذا التوجه تحت ستار الخصخصة.
تصفية شركة الحديد والصلب في مضمونه شهادة وفاة رسمية للريادة المصرية في هذه الصناعة عربيًا، والتي ظلت تتربع على عرشها منذ خمسينات القرن الماضي وحتى قبل سنوات قليلة، الأمر تكرر قبل أيام بتصفية قطاع الغزل والنسيج، ومن بعده ما يثار بشأن قطاع الأسمدة، هذا بخلاف التداعيات الكارثية الأخرى بشأن مستقبل الآلاف من العاملين في تلك الشركات والمصانع.
8.2 مليار جنيه خسائر
وفق قرار الجمعية العمومية الخاص بتصفية الشركة فإن هذه الخطوة جاءت بعدما وصلت الخسائر إلى 8.2 مليار جنيه في 30 من يونيو 2020، أي ما نسبته 547% من حقوق المساهمين، الأمر الذي لم تستطع معه الشركة الايفاء بمستحقات العمال من أجور.
المساهمون في الجمعية استعرضوا أسباب موافقتهم على هذا القرار رغم قسوته، ومنها:
زيادة فرص استغلال الخام المصري ما يؤدي إلى رفع قيمته الاقتصادية، إتاحة المزيد من الفرص للشركة القاسمة والمنقسمة للنمو والمشاركة في استثمارات جديدة في مجالها، كذلك اعتبار فصل نشاط المناجم والمحاجر بشركة منفصلة ركيزة لأي استثمار قادم في مجال استخراج واستغلال وتركيز انتاج خام الحديد.
قرارالجمعية العمومية لم يتطرق بشكل مباشر إلى مصيرهم بعد قرار التقسيم والتصفية، وهو ما يعني غموض مستقبلهم
ممثلو العمال داخل الشركة رفضوا قرار التصفية لافتين إلى أنهم تقدموا بأكثر من مقترح وأفكار جدية لتطوير الشركة وعبور كبوتها الأخيرة، غير أن أحدًا لم يلتفت لهم ولم تلق مقترحاتهم الاهتمام والدراسة الكافيين، وهو ما أثار الشكوك بشأن وجود نية مبيتة للتصفية.
يذكر أن عدد العاملين بالشركة يتجاوز 7300 عامل،وقرارالجمعية العمومية لم يتطرق بشكل مباشر إلى مصيرهم بعد قرار التقسيم والتصفية، وهو ما يعني غموض مستقبلهم بعد عشرات السنين التي قضوها بالعمل في المصنع.
مصر تفقد الريادة
بهذا القرار تتخلى مصر عن ريادتها لصناعة الحديد والصلب والتي عرفتها البلاد منذ عام 1932 حين أنشئ أول مصنع بعد توليد الكهرباء من خزان أسوان، وكانت الصناعة وقتها مقتصرة على استغلال الخردة من مخلفات الحرب العالمية الثانية وإعادة تصنيعها مرة أخرى.
وفي 1954 وضعت مصر أولى لبنات صناعة الحديد والصلب بمسماها الحديث وذلك حين أصدر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مرسومًا بتأسيس شركة الحديد والصلب بمنطقة حلون بالقاهرة، في الرابع عشر من يونيو/ حزيران، ليصبح أول مجمع متكامل لإنتاج الحديد مستخدمًا التكنولوجيا الحديثة في العالم العربي.
ودخلت الشركة حيز العمل رسميًا عام 1961 وقيدت في البورصة المصرية في نفس التوقيت، لتبدأ خطواتها نحو الريادة والنهوض بتلك الصناعة الحيوية، وبعد 11 عامًا تقريبًا أنشئ مجمع الصلب الشهير بطاقة إنتاجية بلغت 1.2 مليون طن سنويًا، وذلك بتكنولوجيا ومعدات روسية الصنع.
تواجه صناعة الحديد والصلب في مصر موجات من المد والجذر، وصلت إلى قمتها بعد قرار تعويم الجنيه المصري في 2016
وطيلة العقود الست الماضية تربعت الشركة المصرية على رأس صناعة الحديد في العالم العربي بإجمالي استثمارات بلغت 650 مليون جنيه مصرى، وتوسعت في دائرة الصناعة والإنتاج لتشمل استخراج خام الحديد وكافة الخامات المعدنية الأخرى وخامات المحاجر والاتجار فيها داخليا وخارجيا.
ورغم النجاحات التي حققتها الشركة في ظل ما كانت تتمتع به من استقلال إداري وهيكلي، إلا أنها في عام 1991 ضُمت إلى الشركة القابضة للصناعات المعدنية، التي تمتلك بها 83% من أسهمها، وهي الخطوة التي كانت مثار جدل لدى البعض.
ومنذ نهاية الألفية الثانية وحتى اليوم تواجه صناعة الحديد والصلب في مصر موجات من المد والجذر، وصلت إلى قمتها بعد قرار تعويم الجنيه المصري في 2016، حيث تأثرت بشكل واضح نتيجة زيادة نفقات التشغيل المرتبتة على هذا القرار، بجانب انقطاع موارد الطاقة كالغاز الطبيعي عن المصانع بشكل متكرر، بحسب دراسة لبنك الاستثمار القومي في 2017.
الدراسة حذرت من أن “صناعة الحديد المصرية تواجه الكثير من المشاكل من أهمها المنافسة غير العادلة مع الحديد المستورد، حيث زادت عمليات اغراق السوق بالحديد المستورد، وبخاصة من تركيا وأوكرانيا والصين بأسعار تقل عن تكلفة إنتاجه”، كما حذرت أيضًا من “خطورة ضعف التنافسية في السوق وسط احتكار شركة حديد عز لما يقرب من 50% من حجم الإنتاج الكلي للحديد في مصر تقريبا”.
إهمال متعمد
في تحقيق مطول لصحيفة “المصري اليوم” بتاريخ 1/9/2016 كشف أن غلق مجمع الحديد وشركة الصلب مخطط له منذ فترة، بسبب الإهمال المتعمد من قبل المسئولين، والتجاهل الفجً لاستغاثات العاملين والمتخصصين عن المصنع، هذا بخلاف الازدواجية الكبيرة في التعامل بين تلك الشركات وغيرها من شركات القطاع الخاص التي تحقق أرباحًا طائلة في غضون سنوات معدودة مقارنة بالشركة التي تجاوز عمرها الستين.
بحسب رسالة لمدير العلاقات العامة لشركة الحديد والصلب بحلوان، حصلت عليها الصحيفة المصرية فإن
“الإهمال في تطوير القطاع العام هو السبب الرئيسي في خسائر شركات مثل الغزل والنسيج وشركة النصر لصناعة الكوك التي انهارت بطاريتها وأصبحت تنتج 25% فقط من إنتاجها، وشركة الحديد والصلب المصرية، التي تعتمد اعتمادًا كليًا على فحم الكوك الوارد من شركة النصر، وبناء على هذا انخفض إنتاج شركة الحديد والصلب إلى 25%، وأدى هذا أيضًا إلى زيادة تكلفة المنتج ويعد هذا السبب الرئيسي في زيادة خسائر الشركة، التي انخفض إنتاجها إلى 300 ألف طن سنويًا بعدما كانت تنتج 1.2 مليون طنوالحكومة وعدت أثناء زيارة المهندس رئيس مجلس الوزراء السابق، إبراهيم محلب، بتوفير فحم الكوك، والموافقة على تطوير الشركة، ولكن كأن الأمر لم يكن”.
وعلى لسان مستشار قطاع الصلب بالشركة، المهندس عبدالرحمن محمد، فإن هناك إساءة متعمدة من قبل الحكومة للشركة، مضيفًا أنه: “تم تخسيرها وتحديدًا بأسعار الطاقة. مصنع الحديد والصلب بحلوان كان يحصل على الطاقة بأضعاف ما كان يحصل به القطاع الخاص عليها، الشركة استمرت لعشرات السنوات، تحصل على المليون وحدة حرارية بمبلغ 120 جنيه، لأنها كانت تحصل عليها من الفحم، في حين كانت الدولة تدعم القطاع الخاص، الذي كان يحصل عليها بمبلغ 25 جنيه من الغاز والكهرباء، ونتيجة هذه السياسة أفلست صناعة الحديد والصلب، حيث لا يوجد مجال للمنافسة، لأن الطاقة هي المكون الرئيسي في صناعة الصلب”.
وأضاف وفق ما نقلت الصحيفة: “المشكلة الحقيقية أن الدولة تدعم ناس على حساب ناس، فإما أن تدعم الكل أو تترك الكل، شركة الحديد والصلب المصرية بحلوان، تعمل بالفحم، والفحم ملوث للبيئة ومضر بصحة العاملين به، ورغم ذلك تحصل عليه بضعف الثمن تقريبًا، رغم أن الشركة تستغل الموارد الطبيعية للدولة في المناجم والمحاجر، وتحولها لمنتج نهائي، أما مصانع القطاع الخاص فتستورد خامات الحديد شبه مصنعة، وبالتالي فإن مصانعه تعمل على مرحلة واحدة، حيث يستورد بيليت أو حديد خردة من الخارج، أما شركة الحديد والصلب في حلوان، فتعمل على 6 مراحل، لأنها تبدأ من استخراج الخام من المناجم في الواحات والمنيا والسويس، ونأتي بها من الجبل لنحولها إلى حديد صلب، وهو ما يستغرق 6 مراحل لتحويلها إلى منتج نهائي”.
غضب شعبي
”عمل أخي الأكبر مهندسا في هذه الشركة، وزرتها عدة مرات، ولها في قلبي مكانة خاصة فقد كانت رافعة جبارة في نهضة مصر لسنوات طويلة، وقولا واحدا فإن تصفية هذه الشركة بدلا من إصلاحها هي كارثة بكل المعايير”.. هكذا علق الخبير الاقتصادي أحمد النجار، رئيس مجلس إدارة الاهرام السابق، على قرار التصفية.
النجار وعبر صفحته الشخصية على فيسبوك تابع “كان من الممكن إعادة هيكلة واستغلال أصول الشركة في الغرض الذي تأسست من أجله وفي أغراض أخرى. كان من الممكن استخدام جزء من الأرض في بناء مشروع إسكان متوسط وشعبي ومدرسة محترمة ومتعددة المراحل ومتنوعة”.
الخبير الاقتصادي لفت إلى أن التغول الذي يُمارس اليوم ضد القطاع العام يشبه كثيرًا ما كان يفعله نظام حسني مبارك، الذي اعتمد نظام الخصخصة بمفهومها الكارثي، والذي أفرغ البلاد من عصبها القومي، هذا بخلاف آلاف العمال المنضمين إلى طابور البطالة بسبب تلك السياسات المجحفة.
شهدت شركات القطاع العام خلال الأعوام الماضية حملات تصفية غير مسبوقة، ما بين غلق ودمج
أما الكاتب الصحفي كارم يحيى فقد استرجع ذكريات والدته مع تلك الشركة قائلا “أنا أمي الله يرحمها باعت صيغتها دهبها من أجل بناء مصنع الحديد والصلب وتركت لي ولاخي للذكري سندات الأسهم التي اشترتها.. مجرد سندات بلا قيمة وبلا أرباح كانت الله يرحمها راضيه انها قدمت ما تملك للوطن .. لم تكلمني يوما عن انها خسرت او تتأسف علي ما قدمت .. والآن يأتي علي مصر سلطة تفاجئنا بتصفية وبيع اهم شركات الصناعة الثقيلة ..صناعة الصناعات..دون أي حوار أو رقابة أو نقاش.. إيه الافترا والفجر ده”
نشطاء انتقدوا النظام الحاكم متهمين إياه بالمسئولية عما وصل إليه القطاع العام من تدني، عاقدين بعض المقارنات التي تحمل مفارقات كبيرة في عقلية إدارة الدولة للملف الاقتصادي برمته، مستعرضين عشرات المليارات التي اقترضها لأجل مشروعات فرعية مقارنة بصناعة الحديد والصلب التي كانت تتطلب تدخلا أكثر حسمًا، منها مثلا مليار دولار من اليابان لنقل المتحف المصري من ميدان التحرير لميدان الرماية، و3 مليارات من الصين لبناء أبراج في العاصمة الإدارية الجديدة، ومثلهم من بريطانيا لتدشين قطار يربط بين العاصمة الإدارية ومدينة اكتوبر.
وفي الأخير فقد شهدت شركات القطاع العام خلال الأعوام الماضية حملات تصفية غير مسبوقة، ما بين غلق ودمج، وهو ما يهدد مستقبل الصناعة المصرية، ولم يكن الحديد والصلب هو الصناعة الوحيدة التي تفقد مصر ريادتها فيها، فالسير وفق تلك المتوالية سيدفع القاهرة للتخلي عن كافة الصناعات التي كانت تتربع على عرشها لعقود طويلة مضت.
يذكر أن عدد الشركات القابضة في مصر يبلغ 8 شركات، القابضة للقطن والنسيج والملابس (31 شركة)، التشييد والبناء (19)، فالصناعات الكيماوية (17)، والمعدنية (15)، والنقل البري والبحري (15)، والأدوية والمستلزمات الطبية (11) والسياحة والفنادق (7) وأخيرًا القابضة التأمين وتضم 3 شركات، معظمهم تحت مجهر الاستهداف.